قال الرواي السكير دوماً حين رأى كأسه المملوء من نبيذ الرأسمالية المعتق بدموع العبيد يضحك ويوسوس بشبق؛ قال " لو اجتمعت شفاه نساء العالم في شفة إمرأة واحدة لقبلتها واسترحت" ومنذ سبعة عشر عاما وخيالي جامح ووتر القوس مشدود أبحث عن إذن الانطلاق نحو عوالم أكثر فرحا ومرحا ، سبعة عشر عاما أدخن نفس السجائر وأنام في نفس الغرفة وأضاجع نفس المرأة مخلص حد النزوة، سبعة عشر عاما أحن الى مناخات أرجوانية وسحب بنفسجية في عوالم وردية وبحيرات تسكنها النوارس وفتيات ابنوسيات ممشوقات القوام ومحمصات بشمس السافنا الغنية ذوات عيون عسلية ، سبعة عشر عاما والافق ما تغير ، واليوم فقط أتجرأ لأحقق حلمي ، وهل لنعرف علينا ان نتجرأ كما قال الفيلسوف كانط. (1) وآن كانت المساءات تمدُّ ساعديها الى مجاهيل تلك القرى والنجوع ، وفي تخوم الأنحاء تنثر بذور الليل الذي يحبو على اجنحة الفراش، والصبيّ ! نعم نفس الصبيُّ الذي كان يختلس النظر الى ساقي إمرأة تغتسل على ضفاف النيل؛ يُقبّل سمكة يملأُ الطين ثغرها الفاغر، ونسيمٌ قادم ٌ من لجّ البحيرات وتخومها يداعب نباتات السرو على ضفتي النيل العظيم ؛ كنت آنها أرتب ايقاع المائدة !أين أضع سلة الفاكهة ،ومطفأة السجائر،أوراق الشعر والعطر الذي ساضعه مابين نهديها! وكانت الليلة ليلاءُ ، عصافيرٌ من عمق الذات تزقزق على اغصان الذاكرة الملتاثة بفتيات مخلوقات من أبنوس محروق ، صبياتٌ قادمات لتوهن من قُداس أقامه الرب بنفسه لهنّ، عارياتٌ من فتنتهن،وبدت المرأة التي رأيتها أسيّةٌ في تلك المساءات ؛ حين هذت بين الدموع وخفقان جسدها العاري المغسول بالقرنفل،وفي تلك الازمنة وأنا أجوس في ارخبيلات القرى المتناثرة لعشائر النوير واتحدث بلغة ( طوك ناث) باركني الجد الاكبر ( لانجور) رجلا،ممتطياً جحشاً كجحش المسيح ماراً بقرى متناثرة كالأنجم على صفحة السماء بادئاً من ميوم ، كووج، لير، ميرمير ، قانج ليل ، طارشينق ، قانجليل ،أرى الصبيات الممشوقات يتهادين كما الطواويس مزهواتٍ وأرواح الاسلاف تحرسهن . وانا اصلي خاشعا " الهي لاترفع عني هذا الكأس". (2) كفجر افريقي مشمس هكذا تبدو نيابوي ، حين جاءني صوتها من النهر .. سمعته وهو داخل الفضاء الراقص للطيوف الوردية ، هناك كفرس جامحٍ كانت تقف على كف الصخور ممتشقة لواء السمرة وتاريخ الجسد الافريقي وفي صباحات الخريف الافريقي يغسلها المطر وتدثرها الغابات والصخور ،وانا على بعد ثماني قبلات احتفل احتفالا عذباً لكوني لا ازال عامراً بالحنين للبدائية الاولى، بدائية الجسد الدافق بالدم والشهوة والتاريخ وتصالب اشعة الطبيعة داخل الشرايين. وفي ميوم تحت الغمر أو اصيل بخار النيل وأنا في الطرف المعتم من الزمن الحالك والمتوحش اتلو على رصيف ارخبيل الذاكرة الابليسي " أهٍ من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق" وتحت هذا الضحى المشع باضواء الفسفور شاهدت نفسي تخرج وتقترب من خبل المساءات ، وتحت هذا الضوء المشبع برطوبة الحلم والتوهان والاغتراب ، كنت في قامة المدينة التي سمقت بي حتى طاولت الالهة ، اتساءل في هذا الرحم المظلم والمدينة تبتلعني كفتات مائدة متناثرة على مائدة خرافية ،أأنا قزمٍ ؟ عشرة أعوام من الفوضى والزوغان واضطراب الازمنة ، وخفقان الموت وعشق النساء والقتال السري والعلني ،صُقِلت الروح تصْقل حجارة الشاطئ بأمواج البحر ، وعلى مدى عشرة أعوام من الانبهار وتقديس الفراغ والعدم ، ضُرب الجسد والقلب بوهج الرعد وهزيم البرق ورعشة الجنون ، ما كان منفاي اوقيانوساً للجغرافيا ، بل الوجيب الراشح والحزن الذي ينبض بالخسارة والتوهان ، انه الوجيب الذي ينبض في الاعماق شبيهاً لنبتة تنمو بين الصخور والوهاد ، وحين خرجت (نيابوي) كفرس نهر نبتت الاعشاب في ظهره، من عمق النيل حاملة "غصون النار" صليت خاشعاً وبكيت دامعاً ، وهتفت في المدينة " سبحانك في علياء سمرتك ، طهريني بالنار ". (3) في هذا المساء الشاحب وانا أكتب تحت تأثير نبتة اسميها " تخصيب جماليات الصورة الذهنية "يوقظني دويُّ البحر والفصول وفي هذه الظلمة الداكنة تبدو في عيني عجز اللقيا وغشاء بكارة الحياة غير المفضوض وروح الطفولة ووعي المستتر خلف الضوء الاخضر محاولاً الخروج من مخاض الخلق الاول واحلم بالمرج الزاهي والمطر أتتني (نيابوي) لامعة كحقول الكرم في يافا ،نافرة كالظباء، عيناها مكحولتين بأثمد الحب والحنان ، خلاسية مجبولة من كل الاكوان مغتسلة بمناخات عجائبية وملتفة بإزار من طقس السافنا الغنية ، وعندما تضحك تخضر حقول الأرز في تلك البقاع النائية وتدخل الملائكة في تسبيح " سبحانك ربنا ماخلقت هذا باطلاً" ،آن دخولها في جسدي المرهق من تلك المسامات، تبدأ ثورتي وألج حلمي الماتع والشاهق ،وأبلل جسدي على ضفاف السوباط منتشياً بالحياة ،وإذْ ترتل في خشوع ٍ نشيد الانشاد "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظله أشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي ،أدخلني الى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة ،أسندوني باقراص الزبيب،انعشوني بالتفاح فاني مريضة بحبه" حينها انتبذت مكاناً قصياً وانتحبت سنين عدداً وحبي لها باسطٌ ذراعيه بالوصيد ، وها أنذا أكتب "هذا ميثاق جراحاتي يوم اشتهيت انثى الحقل…جهّزت المائدة….وأوقدتّ الف سراج ينير الدرب إغتسلت بالثلج والشمس والكبرياء ثم استحييت. والان سأنكثنّ بوعداً اذاً فالشفاه التي تردد الكمال الصاخب تردد الموت ، والموفودون الى هذا الليل ليبنوا ادراجه اللوبيبة يبعثرون الرخام الذي حملوه. قصيدة لسليم بركات. جوبا 13-11-2019 أود أن أشكر الشاعرة نيالاو ايول التي جعلت هذا النص ممكناً.