"المجد قمة جبلية باردة، يا مستر هاميد". تلك عادة الحارس ديفيد مور في الحديث. ما إن تتقمّصه روح الفيلسوف في أي لحظة، يغادره التبسط، لا يناديك عندها دون أن يقرن اسمك بكلمة "مستر" العجيبة "هذه". كأن الصلاة لن تستقيم، من غير طهارة. "وكيف يكون ذلك، إذن، يا مستر ديفيد"؟ كذلك كنت أجاري طريقته تلك في الكلام على مضض وابتسامة تشجيع تكون دائماً هناك على وجهي عند بدايات كل حوار! يبدأ مستر ديفيد مور يشرح لي لماذا أخذ ينظر إلى المجد كقمة جبلية مغطاة بالثلج، قائلاً: "بمعنى يا مستر هاميد: إذا زاد توهج هالة المجد حول إنسان ما، أخذت تلف روحه في المقابل عتمة العزلة وشبكة العلاقات تتساقط تلقائياً من حوله". بدا لي أنه يستعير هنا على نحو أقلّ رصانة إحدى مقولات الإسكندر المقدوني: "أن نصبح أسطوريين أن نكون أكثر وحدة". ولم أكن راغباً أبداً في تقديم نفسي وسط جمهرة أولئك الحرّاس مثل عاشقٍ عريق للعبارات. قلت بالدهشة المصطنعة نفسها: "شبكة العلاقات؟ كالصداقة، يا ديفيد"؟ كما لو أن سارتر شرع يتحدث لحظتها من مكان ما داخل رأسه، قال: "ربما كان الأمر كذلك يا مستر هاميد! لكن! لو تدري! يا مستر هاميد! أتخيل أحياناً أن العباقرة لدينا من أمثال توماس إديسون وتسلا ليسوا في نهاية المطاف سوى مقامرين عظام في سوق الأوراق المصيريّة للقدر. مقامرون رهنوا جنّة حاضرهم لصالح جحيم العزلة طواعيةً في مقابل آتٍ مجهول. لكن، بحق مستر المسيح نفسه، قل لي يا مستر هاميد ما معنى أن يهجر المرء ألق اللحظة الراهنة في مقابل شيء لا يزال في رحم المستقبل لم يولد بعد وليس بالوسع معايشته. شيء مضاد للنسيان صنعه جسد فان يدعى الخلود"؟ أوشكتُ أن أقول له إن العزلة قرينة العبقرية بالفعل، وهي إحدى دروب المجد، فما من فعل يغير جذرياً مجرى حياة الناس، حتى يُكتب له المجد والخلود. وهذا ما يفرض العزلة. أعني أن تركز على عمل شيء واحد لا غير طوال حياة كاملة. لكنّ عزلة الإنسان المنفي التي لن يفهمها أبداً مستر ديفيد هذا بمثابة أمر آخر. أمر قدري. لا خيار لك الأغلب فيه. على أي حال، كان ذلك بعض حوارات مستر ديفيد، التي لم تدعها مفاجآت العمل في العادة أن تكتمل. وقد بدت لي حوارات الحارس هذا، في بيئة العمل المحدودة فكرياً تلك، ووسط أولئك الحرّاس أشبه بتسويقِ نظاراتٍ شمسيّة، إلى عميان. مرة، كنا جلوساً داخل الكافتريا، أنا وهو وديريك، ولا أدري كيف سيطرت وقتها، بالكاد، على بركان الضحك، الذي أخذ يغلي عندها داخل نفسي؛ لما انبرى مستر ديفيد مور هذا مخاطباً زميلنا ديريك مولر: "لماذا يأكل الناس ويشربون يا مستر"؟ من دون أن يتيح لنفسه لحظة تفكير واحدة، أجاب ديريك مولر كما لو أنّه تخلّى عن إرتيابه لطولِ مخالطةِ السائل، قائلاً: "كي ينتجوا طاقة الحركة، طبعاً، يا ديفيد". هزَّ ديفيد رأسه بالضبط كمن يتعاطف مع إحدى تلك الإجابات "الغبية". ثم واصل مضغَ قضمة أخرى من شرائح البطاطا المشويّة. لم أرغب قبلها في سؤاله لماذا تغيبتْ زوجته دون فيشر "اليوم". تالياً، لنحو الدقيقة، ظلّ ديفيد مور يتابع قراءة ملامح وجه ديريك مولر، الذي سرعان ما نسي أمر ذلك السؤال، وعاود استغراقه بالحماس المعتاد نفسه الذي بدأ به وجبته، غارقاً تماماً في صحن الأكل، مصدراً صوتاً خافتاً أشبه بتلك الأصوات التي يصدرها أثناء الأكل طفل ما في سنّ الخامسة، أو نحوها. "ما تقوم به هنا، يا مستر ديريك مولر، لهو نقل لهذا الحوار إلى مستوى يتعلق بوظائف أعتقد.. كما لو أن ديريك مولر أُجْبِرَ على مفارقةِ فخذي امرأة في منتصف معاشرة، قاطع فلسفة ديفيد مور صارخاُ: "لا تسبب لي يا ديفيد عسراً في الهضم"! الأضواء تلتمع على حواف صحن ديفيد. خطر لي في مساحة الصمت التي أعقبت حوارهما ذاك مباشرة ولا أدري لماذا أن لندن في أغاني البنات في الوطن تبدو أكثر ألقاً أو جمالاً من لندن نفسها. بعد دقائق، نهضنا معاً مغادرين الكافتريا. ثلاثة حرّاس سائرون داخل بزّاتهم الموحدة. هناك، عند منتصف قاعة الطبقة تحت الأرضية الأولى، تماماً قبالة بنك إسكوتشيا، دونما إضافة كلمة أخرى، اتجه كل منّا، نحن الحرّاس الثلاثة، في طريق.. مضى ديريك مولر كمواطن محكوم بالهاجس أو حتى الهلوسة البصرية يميناً لمواصلة عمله كمراقب لحركة سير المرور في مرآب السيارات أسفل الأرض، حيث يواجه هناك أشياء أنا متأكد أن الشيطان ماغ نفسه لم تخطر له من قبل على بال. انحرف ديفيد عكس اتجاه ديريك برصانة لا تليق سوى بحارس جاد لمتابعة عمله ذاك الأكثر وحدةً أو عزلةً من داخل مكتب الأمن، مراقباً سير أحداث العالم داخل نطاق تلك الطبقة عبر شاشات المراقبة المعلّقة على الحائط قبالته، بينما يشيد العالم بالأفكار، أو يهدم. في حين واصلت أنا السير، كحارس متجول، عبر طبقة الدور الأرضي. كنت متخماً بالذكريات، مطهماً بالحنين إلى شيء لا يني يبدو في كل مرة أثراً من بعد عين. وقد أنهيت وجبتي تلك للتو صحبة مستر ديفيد وديريك مولر المرتاب، لا أدري كم من أعوام رخاء وأعوام عجاف قد مرت عليَّ وأنا بعيد عن أرض الوطن؟.