أجلس على مقعد هزاز بمحاذاة رأس السرير داخل غرفة النوم الساكنة. ليس عليَّ سوى فانلة سابغة من القطن. لا أسند جسمي إلى ظهر المقعد. أمسك بكأس أماندا الفارغة من الويسكي منذ بعض الوقت. أتأمّل على ضوء شاشة التلفاز الصامت هناك عند الركن وراء أقدام السرير مغزى عبارة علقت بذهني من كتاب "القديس فرانسيس الصقلي" لنيكوس كازنتزاكي: "إن العفة تجلس لوحدها تماماً على قمة حافة مهجورة، من خلال عقلها تمر على كل المتع المحرمة التي لم تذقها، وتبكي"!! هكذا، أخذت تجذبني إليها، عبارةُ كازنتزاكي تلك، ما إن أخلدت أماندا أخيراً إلى النوم دون حراك، حاملة معها حزنها المباغت ذاك. كما لو أن الفرح لم يطرق باب قلبها حتى ساعة خلت. قبل ذلك، قلت راغباً في سبر أغوارها الخفيّة هذه المرة: "ما بكِ، حبيبتي أماندا"؟ كما لو أنّها لم تسمعني. ظلّتْ شاردة. والشتاء لا يزال يعربد خاف النافذتين العاريتين من ستارة. ستون درجة مئوية تحت الصفر. حبيبان أسفل سقف واحد. على بعد لمسة، والحائط اللا مرئي ذاك الذي سبق نومها أخذ يستطيل بيني وبينها، جهماً سميكاً كجبل، حتى إنني شعرت كما لو أن الوحدة قدر. قال الحارس "مستر ديفيد مور"، واصفاً وقتها مأساة ميلاده: "جئنا إلى هذا العالم فرادى، يا مستر هاميد، كما سنغادر فرادى". ربما لقيام ذلك الحائط غير المرئي، أخذت أفكر وأماندا تختفي خلف حائط آخر يدعى "النوم" في مغزى تلك العبارة: "إن العفة تجلس لوحدها تماماً على قمة حافة مهجورة، من خلال عقلها تمرّ على كل المتع المحرمة التي لم تذقها، وتبكي". كذلك، يُقذف بنا إلى حياة مشبعة بالحيطان كي ننفقها يا للمفارقة في هدم تلك الحيطان، أو في محاولة هدمها. يُوجد هناك مع ذلك من لم يهدم حائطاً ما قطّ. وظلّ كالعفّة يفكر طوال الوقت في هدم هذا الحائط أو ذاك. المأساة أن مَن يهدم يعجز الأغلب عن تشييد بناء ما بديل. ذلك أن الإنسان لطبيعته ربما لا يستطيع العيش في عراء مطلق. كما لا يحتمل تناول الطعام نفسه إلى ما لا نهاية. عناصر جسده نفسها تختل عندئذ. ما تلبث أن تبدأ في الموت. أضحك الآن من موقف لينين ذاك، حين سئل عن رأيه في ممارسة البغاء. قيل إنّه لم يعترض صراحة. بل قال: "أما أنا فأحبّ الشرب من كأس نظيفة واحدة". يبدو أن استخدام الاستعارة وقارب نجاتها تعدد التأويل في خطاب أي سياسي ليس إلا محاولة لتجنب الاصطدام مع الواقع. لكنّ إغراء اللحظة وجاذبيتها بالنسبة لأمثال مها الخاتم سعيد ممن يعشقون الهدم مدفوعين برغبتهم الذاتية المحضة في التحرر من أسر ما رسخ في البيئة من علامات دالة على الطريق منذ الميلاد حتى الممات لا يَسمح لهم عادة بالتفكير في العقوبات المتوقعة جراء هذا التمرد أو تلك الثورة. إنّهم مصممون حتى النهاية على صناعة الفراغ المطلق والضياع فيه ومواجهة العدم أخيراً دون أي سند هناك غير ضعفهم البشري الباعث على الرثاء أو الحسرة على ضياع حياة كاملة نتيجة خطوة كتلك. مع أن القرون التي سلفت من حياة البشر أرادت لما سيأتي من قرون لاحقة أن يتجنب الوقوع في فخ أشياء كالرغبة غير المقيدة. ذلك ما يُسمّى أحياناً بصوت الحكمة: "تجنّبوا لذّة لحظة يعقبها عذاب دهر". هناك من قام بتحويل مأوى الحياة الرحب إلى سجن لا جدران منظورة له وقد وضع عند بوابته حارساً يحمل بندقية سريعة الطلقات على أهبة الاستعداد لقتل من سوّلت له نفسه مخالفة ما هو مستقر دون رحمة. طوبى لمن قام إذن بهدم مليون حائط في ذهنه والعذاب لمن قام واقعياً بمحاولة حتى نزع طوبة ما عن حائط. لكنّ جمال الإغراء وجاذبية سحره التي لا تقاوم يكمن دائما هناك، تحديداً في تلك الاستجابة الفوريّة للإغراء. الحياة العابرة نفسها تلك المتجددة منذ ربما مليارات السنين على وجه الأرض هذه قد نشأت في البدء نتيجة وقوع والدنا آدم في فخ الإغراء، رغم ما سبق من تحذير. أضع كأس أماندا أخيراً إلى جوار كأسي الفارغة على المنضدة أمامي. ناولتنيها صامتة. ونامت هكذا دون كلمة. في المقابل، إذا توقف هدم هذا الحائط مثلاً وسمّي هذا التوقف خيانة لثورة ما، تنهض عاجلاً أو آجلاً حيطان من حسرة على أن الحياة كان من الممكن لها أن تغدو أكثر روعة وقابلية للعيش إذا ما تمكنّا من النظر خلف حائط ما، لم نستطع هدمه، في حينه. لأننا ببساطة كنّا خائفين حتى من محاولة التفكير سراً في إمكانية العبور ورؤية الكامن وراء الحائط وربما معانقته. كذلك يبدو لي دوماً كما لو أن البشر محكومون بالحيطان في كل الأحوال، سواء سعوا لهدم الحيطان، أو تجنّبوا هدم تلك الحيطان نفسها. لو أنني تمكنتُ تلك الأيام من عبور حيطان أماندا الأخرى لما حدث ما حدث. أماندا توحي عادة بوجود الحيطان ولا تسعى إلى الكشف عنها. أخشى أن أكون أنا نفسي من بناة الحيطان دون وعي. أشعر بمثل ذلك الخوف، حين أخفي حقيقتي خلف قناع الهدم. هل الهدم هدم أو البناء بناء على كل حال؟ أم أن الهدم يعني أحياناً البناء؟ أم أن البناء نفسه ما هو في جوهره سوى الهدم في صيغة أخرى سمها الحال تلك "غير مألوفة"؟ كذلك لم أكن راغبا حالاً في النوم إلى جوار أماندا. الخمر هذه نفسها لا تساعد كثيراً على التفكير هنا. العقل يصاب، مع كل كأس، بالشلل، أكثر فأكثر. ربما لهذا بدا لي في القاهرة أن أُنس السكارى أشبه ما يكون ربما لتداخل موضوعاته وكثرتها وتناقضها بحيوات لحظية متتابعة في نهر الزمن سريع الجريان. تومض لوهلة. ما تلبث أن تنطفىء. هناك ضحك، بكاء، غناء، عويل، تعاسة، سعادة، حماس، فتور، حنان، وجفاء، في الآن نفسه. كما لو أن الخمر آلهة الفوضى. صببتُ لنفسي على ضوء شاشة التلفاز الصامت هناك وراء أقدام السرير كأسا أخرى. تلفاز ذكرني بتلفاز أشوك بائعة العرقي في القاهرة تلك الأيام. تتبدل مشاهده في صمت. لا أحد يدري على وجه التحديد، لحظة أن أتأمّل في مسارات كل تلك الأحداث، كيف غدا حثيثاً حائط هذا المنفى أكثر سمكاً ولوعةً وارتفاعاً منذ أن لفظني هذا المدعو "الوطن"؟.