مقدمة: احتدم الجدّل مؤخرًا حول الشركات الاستثمارية التي يُديرها الجيش، باعتبارها خارج ولاية المال العام الموكلة إلى وزارة المالية، وخرج حينها الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيّادة مُتهماً جهات لم يُسمِّها بتعليقِ إخفاقاتها في إدارة الاقتصاد على استثمارات الجيش التي قال إنّها موجودة لخدمة الشعب. وسار الفريق ياسر العطا عضو المجلس ورئيس لجنة تفكيك نظام الفساد البائد على درب قائده، بل ذهب أبعد من ذلك قائلاً في مؤتمر صحفي للجنته أغسطس الماضي:" إنّ جميع شركات المنظومة؛ هي في الأصل صندوق الضمان الاجتماعي للأفراد العسكريين، حيثُ ظلّت تستقطع الأموال من هذا رواتبهم مُنذُ تأسيسها في 1972، مُشيرًا إلى أنّها تخضع للمراجعةِ الحكوميِّة ومُنتظمة في دفع الضرائب والجمارك. أجرينا هذا التحقيق لتبيانِ الحقيقة للرأي العام وبالأرقام لا بالأقوال. تأسيس منظومة الصناعات الدفاعية: تاسيس منظومة الصناعات الدفاعية تأسست المنظومة أواخر عام 1993 وفي منتصف عام 2017، أقرّ المجلس الوطني – برلمان عمر البشير – قانوناً قضى بتحويل اسم هيئة التصنيع الحربي إلى منظومة الصناعات الدفاعيِّة، ومنح القانون المنظومة استقلاليِّة مالية وإداريِّة عن وزارة الدفاع لتكون تابعةً لرئيسِ الجمهوريّة، كما مُنحها حق الاستثمار في أموالها دون الخضوع لسلطاتِ المُراجع القومي، وقوانين الشراء والتعاقد والإجراءات الماليّة والمحاسبيّة المتبّعة، مع منح حصانات واسعة للعاملين بها. استثمارات المنظومة الدفاعيِّة في الأسواق: استثمارات المنظومة الدفاعية في الأسواق تعمل المنظومة في عدة مجالات؛ عبر مجموعة جِياد الصناعيّة وفي مجال تصنيع السيارات والشاحنات والدراجات النارية، وصناعة الفولاذ والألمونيوم والنحاس والكابلات، والدهانات والطِلاء، كما تعمل أيضاً في مجال المُعدّات الزراعيةّ عبر شركة زادنا، وأيضاً تعمل في محالج القطن وفي الأثاث، وقطاع اللحوم وتمتلك أكبر مسلخ في السودان ( مسلخ الكدرو الحديث) الذي يعمل بطاقة 1500 رأس من الأبقار يوميّاً. وتقريباً تعمل المنظومة في أي شئ وكل شيء؛ ويمتد عملها في السوقِ من دقيقٍ الخبز واللحوم والبيض والألبان وحتى الصناعات الثقيلة. ماذا أخذت المنظومة؛ وماذا أعطت؟: ماذا اخذت المنظومة وماذا أعطت في بحثنا عن هذا الملف الشائك، وجدنا إنّه ومنذ تأسيسها تحت اسم هيئة التصنيع الحربي، وحتى الآن لا تزال وزارة المالية تقوم بسداد مُرتبات العاملين فيها بل وميزانية تسييرها ( أي الفصل الأول والثاني). وبمراجعة دقيقة لدفاتر وزارة المالية للخمس سنوات الماضيِّة من 2015 وحتى 2019 وجدنا أن زيادة مرتبات العاملين بمنظومة الصناعات الدفاعية وكذلك ميزانية تسييرها قد ارتفعت ارتفاعاً هائلاً. حيثُ زادت مُرتبات العاملين بنسبة 334% ، إذ كانت (69) مليون جنيهاً في 2015 وبلغت (300 ) مليون جنيهاً بحلول 2019، بينما زادت ميزانية التسيير بنسبة 100% حيث كانت 12 مليون جنيهاً في 2015 وتضاعفت إلى 24 مليون العام الماضي 2019. وفي المقابل لم تورّد منظومة الصناعات الدفاعية بخزينة وزارة المالية ، بل ليس للوزارة ولاية عليها أصلاً! إعفاءات جمركية ومن رسوم الموانيء: إعفاءات جمركية وإعفاء من رسوم الموانيء حُظيِّت المنظومة منذ تأسيسها برعاية كاملة من الدولة، إذ لم يقتصر الأمر على صرف الرواتب وميزانيات التسيير بل تجاوزه إلى الإعفاءات الجُمركيِّة ورسوم الموانئء، وتشمل هذه الإعفاءات السلع التجاريِّة، إذ أن الإعفاء للأغراض العسكرية أمراَ مفهوماً بل ولازماً؛ ولكّن أن يكون الإعفاء للسلع تجارية، فذلك فضلاً عن إنه يعرّض الدولة لخسارة الكثير من الأموال فهو أيضاً يطيح بمبدأ التنافسية في الأسواق، خاصة إذا علمنا أن المنظومة تبيع وتشتري في الأسواق مثلها مثل الشركات الاخرى. ويُلاحظ من الجدول المرفق حجم الإعفاءات التي تلقّتها منظومة الصناعات الدفاعيّة في الفترة ما بين 2015 إلى 2019 وصلت إلى 286 مليون جنيهاً ، منها 246 مليوناً للإعفاءات الجمركية؛ و40 مليوناً من لرسوم الموانئ. ماذا قدّمت المنظومة للماليِّة مقابل ما أخذت؟: ماذا قدمت المنظومة للمالية مقابل ما أخذت رغم الرعاية الكاملة التي تجدها منظومة الصناعات الدفاعية من وزارة المالية وتكفّلها برواتبها وميزانية تسييرها ومصروفاتها ومنحها الكثير من الإعفاءات جمركية وإعفاءات أخرى من الرسوم وتسهيلات ضخمة؛ إلاّ أننا لم نجد في بحثنا وتقصينا إنّ جنيهاً قد تم ايداعه من قبل المنظومة صاحبة الاستثمارات الضخمة بخزينة وزارة المالية، بل هي مصنفة من الجهات غير الايراديِّة! توصية: أطلعنا على توصيّات قدمتها لجنة خاصة تابعة لوزارة المالية إلى الوزيرة، وقد جاء فيها ضرورة إعادة هيكلة منظومة الصناعات الدفاعية فيما يتعلق بعملها التجاري المدني مع الإبقاء على سريِّة العمل العسكري لما فيه مصلحة للأمن القومي للبلاد، كما أوصت اللجنة بضرورة إخضّاع الأعمال التجاريّة الخاصة بالمنظومة للرقابة الماليّة والضوابط المحاسبية المعمول بها؛ دون الإخلال بالحدود اللازمة للسريِّة المطلوبة لحمايتها، كما هو الحال بالنسبة لكافة مؤسسات الدولة التي لها أنشطة تجارية وذلك من أجل الضبط المالي والمحاسبي والمراجعة القومية وتمشيِّاً مع موجهات موازنة العام 2020. وأوصت اللجنة أيضاً؛ بضرورة تحديد استثمارات المنظومة والكشف عن مجالات أنشطتها التجاريّة وأموالها وأرباحها، مع قيام وزارة المالية بواجباتها في الولاية على المال العام.