تعتبر فكرة نشوء الأحزاب السياسية ظاهرة حديثة التكوين نسبيا إذ ترجع بداياتها إلى ما بعد عصر النهضة الأوربية، وتشير الدراسات التاريخية إلى منتصف القرن التاسع عشر 1850، حيث برزت الحاجة إلى نشؤ التنظيمات العمالية، والاجتماعية، والفكرية، وفقا للتطور الصناعي والاقتصادي، ولذلك تعتبر الفكرة إحدى تجليات عصر النهضة، بالرغم من أن المجتمع الاغريقي القديم قد عرف ظاهرة تكوين أحزاب وجمعيات ذات بعد اجتماعي تمييزي، كأحزاب النبلاء، والارستقراطيين، والتي كانت محصورة على هذه الفئات دون عامة الشعب، وتطورت لاحقا بتطور الديمقراطية، والبرجوازية في المجتمع الأوربي، وأصبحت الأحزاب مرتبطة بالمبادئ والوضوح والالتزام الفكري والسياسي. تنبع أهمية الأحزاب باعتبارها الصيغة الحضارية التي تنظم السلوك السياسي الملتزم، ومن خلالها بنيت نهضة الأمم في العصر الحديث، والتنظيم هو أرقى وسيلة تتوافق مع التطور الإنساني. ▪️مفهوم الحزب ودوره السياسي: لم يتفق علماء السياسة والاجتماع على تعريف موحد لمفهوم الحزب، وكذلك لم تتفق المدارس الفكرية والسياسية على ذلك، ولكن إجمالا ظلت هنالك سمات عامة متفق حولها في التعريف الاصطلاحي العام لمعنى الحزب السياسي. مفهوم الحزب (هو تنظيم اجتماعي دائم قائم على مبادئ وأهداف مشتركة، بهدف الوصول إلى السلطة، ويضم مجموعة بشرية متجانسة في أفكارها، ويمارس مختلف النشاطات السياسية، وفقا لبرنامج عام لتحقيق أهدافه وتوسيع قاعدته الشعبية) ويكيبيديا… وبحسب د. ليلى العاجيب في مقال لها بعنوان (مفهوم الأحزاب السياسية)، فإن الحزب: تنظيم قانوني يسعى للوصول إلى رأس السلطة الحاكمة في الأنظمة الديمقراطية، وممارسة الحكم وفقا لبرنامج الحزب السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي. يري دزرائيلي إن الحزب: مجموعة من الأفراد يجمعهم الإيمان والالتزام بفكر معين. وفي نظر الماركسية فإن الحزب السياسي ما هو إلا تعبير سياسي لطبقة ما، حيث لا وجود لحزب دون أساس طبقي، ووفقا لفكرة الصراع الطبقي، فإن مفهوم الحزب هو تمثيل وانعكاس لمصالح الطبقة العاملة. بينما يرى البعث إن الحزب هو تنظيم طليعي يقود الجماهير لتحقيق أهدافها الوطنية، والقومية، والإنسانية، وأن هناك شروط لازمة لتكوين الحزب تتمثل في الأيدلوجيا، والطليعة، والتنظيم الثوري، والوجود الجماهيري، والالتزام والاحتراف الثوري، وأن يكون التنظيم هو البوتقة التي تنصهر فيها الأهداف، وتمثل انعكاسا حيا لها، ومن الناحية الاجتماعية يمثل الحزب أهداف الجماهير الكادحة بمختلف انتمائها، باعتبارها صاحبة المصلحة في التغيير. إن العلاقة بين الحزب والديمقراطية، علاقة جدلية حيث أن الحزب تنظيم ديمقراطي يمارس العملية الديمقراطية داخله بالانتخاب لتولي أعضائه المهام القيادية، وخارجه بالمشاركة في الانتخابات كطريق للوصول للسلطة، والتأثير في قرارات الحكومة. وبحسب المحكمة الأردنية العليا فإن الأحزاب السياسية شكل من أشكال التنظيم الضروري لسلامة الأداء الديمقراطي.. إذ لا يتصور ممارسة أى شكل من أشكال الديمقراطية بدون أحزاب سياسية. أما دور الأحزاب السياسية في الحياة العامة، فإنه يرتبط ابتداءً بطبيعة أهدافها وقدراتها التاثيرية على الرأي العام من جهة، وفاعلية تنظيمها في قدرته على التفاعل مع قضايا الجماهير والتقاط تطلعاتها من جهة أخرى، وعليه فإن دور الأحزاب يتمثل في: – معرفة المشاكل العامة والمشاركة الفاعلة في طرح الحلول الواقعية. – التوعية والتثقيف العام والداخلي، فالممارسة الديمقراطية تحتاج وعي لازم للمعرفة والاختيار حيث يشكل غياب الوعي إحدى مهددات استمرار الديمقراطية. – الترويج لأفكارها وسط فئات الشعب وبلغة تناسب كل فئة وتخاطب قضاياها. – تدعيم التحولات الديمقراطية، باعتباره واحد من الضمانات العملية والمؤسسة للممارسة. – تعتبر الأحزاب العمود الفقري للممارسة السياسية الراشدة، وإحدى ركائز البناء الديمقراطي السليم إذ لا يتصور دور ذا أثر خارجها. – تعمل الأحزاب على إدامة دولة القانون والعدالة والمساواة. – تعتبر الأحزاب إحدى الهيئات المعبرة عن الرأي العام والمؤثرة في اتجاهاته. – الأحزاب المنظمة القوية الفاعلة تناسب الديمقراطية وتتعهد بالمحافظة عليها. – تلعب الأحزاب دور في التنشئة السياسية بتجسيد مبدأ المشاركة الشعبية. – تلعب الأحزاب دور فاعل في تحقيق مبادئ الشرعية والرقابة والفصل بين السلطات. – تحقق الأحزاب مبدأ الالتزام الواعي أحد شروط الممارسة الديمقراطية حيث لديها القدرة على ضبط السلوك السياسي لأعضائها وجماهيرها. – تساهم الأحزاب في تعميق مبدأ التعدديةوالتنافسية كإحدى شروط الديمقراطية. – قدرات التأثير في القرار السياسي وضمان عدم انحرافه من خلال التواصل الجماهيري. -زالأحزاب تلعب دورا تعبويا بالأهداف العليا، والثوابت الوطنية، والقضايا الاستراتيجية ذات الارتباط بالمصلحة العليا للبلاد. – تلعب الأحزاب دور فاعل في تحقيق مبدأ المواطنة، وذلك بعدم نشوء أحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عرقي أو جهوي.. – الأحزاب إحدى أدوات التنمية السياسية المرتبطة بمفاهيم التنمية الشاملة والمستدامة في العصر الحديث. من المهمات النوعية في بناء الأحزاب السياسية كعماد لاستدامة الديمقراطية أن تنشأ وفق رؤية فكرية سياسية (ايدلوجية) تنكب على دراسة الواقع، وتطوره التاريخي الاجتماعي والاقتصادي، وأن يترجم ذلك برنامج سياسي، مع وجود تنظيم فاعل مهتم بالتأييد الشعبي والوصول إلى السلطة، دون ذلك ستصبح الأحزاب ظاهرة صوتية تنتهي أدوارها بانتهاء المرحلة، ومن السهل تشكيل حزب لكن من الصعب ضمان استمراره والتجربة السودانية زاخرة في هذا المجال. ▪️شعارات معاداة الحزبية لماذا؟ وماذا تعكس؟ إن العداء للاحزاب والحزبية، يخفى العداء للديمقراطية نفسها، إذ ينطلق العداء من خنادق مختلفة متباينة في النوايا والأسباب، إلا أنها تصب في اتجاه واحد هو تسميم أجواء التفاعل الديمقراطي، واشاعة وعي زائف، وإثارة غبار حول جدارة الديمقراطية في حل مشاكل الواقع وتهيئة الأجواء للارتداد عليها، وقد أكدت التجربة السودانية ذلك حيث تبرز هذه الاتجاهات عقب كل تغيير شعبي. إن الديمقراطية والتحولات الثورية يمكن أن تواجه أزمة في حال فشل الأحزاب في ممارسة مهامها مما يعني صعود القوى الراديكالية. مما لا جدال فيه أنه لا عمل سياسي بدون أحزاب قوية، فالعمل الحزبى يجمع الناس على أساس الفكرة المبدئية التي تولد البرامج، وتشكل أساس للقاء شتى الناس بما يزيد من المشاركة والفاعلية، إذ بدونها يبرز العنف والاتجاهات التي تعبر عنه في المجتمع. فالمشاركة السياسية تعطي صورة عن واقع المجتمع بتقليل الخلافات. إن الحياة الحزبية المعافاة تعمل على إصلاح وتنمية المجتمع وتحقيق الدمقرطة، وتنظيم الحياة السياسية، وتفعيل الطاقات واستثمارها، ومحاربة الفساد، وتفعيل المحاسبة، ووضوح الرؤى والتسريع في العمل بضمان المراقبة الشعبية، والتدريب الديمقراطي. إن شعارات معاداة الحزبية تمهد الطريق أمام عناصر وتكوينات لا حزبية، أو حزبية تحت عباءة واجهية للقفز على المشهد السياسي، وتفتح المجال لسيطرة فئات اجتماعية مرتبطة بالفئات الرأسمالية الطفيلية، وشبكة المصالح، ورأس المال العالمي، وهي أساس قاعدة النظام البائد التي ستأتي بأوجه جديدة تنفذ من خلال شعار العداء للأحزاب، ذات الشعار الذي مارسته الأنظمة الشمولية في محاربة الأحزاب، وتعطيل تطور الحياة الحزبية، وتنامي ظاهرة العزوف عن العمل السياسي، وبروز اتجاهات التمرد والعنف المنظم. لم تكن حركة معاداة الحزبية في السودان بمعزل عن تيارات عالمية عرفت بالتيارات الشعبوية، التي تكيل الانتقادات للمؤسسات الحزبية ولا تقيم وزنا إلا للمصالح المادية على حساب القيم الإنسانية، وهي لا تعدو سوى تطور راسمالي متوحش، ينظر للسياسة بمنطق (البزنس) مثل ظاهرة ترامب في أمريكا، وفي الهند والبرازيل، والسترات الصفراء في فرنسا… الخ إن الالتزام هو أعلى مراحل الحرية، حيث أن الحرية بلا التزام فوضى، فالدعوة إلى معاداة الحزبية تبطن الفوضى في مضامينها ومتجهاتها، فالحزب السياسي يمتلك الشخصية الاعتبارية القابلة للمساءلة والمحاسبة عن أوجه القصور، بينما لا تتوفر هذه الميزة في أي تكوينات أخرى، لا سيما في ظل محاولة تغييب الأحزاب، والمؤسسات السياسي ذات الصفة التنظيمية عن المشهد السياسي. إن الدعوة التي تستهدف إبعاد الأحزاب السياسية عن المشاركة في مؤسسات الانتقال الديمقراطي، مهما افترعت من الأسباب، والحجج، والنيات، هي دعوة تستهدف ضرب أهداف الثورة والتغيير، وتغييب لقوى ناضلت نضالا تراكميا من أجل إسقاط النظام الشمولي. ▪️الإصلاح الحزبى في السودان.. لماذا؟ من غير المختلف حوله أن الأحزاب السياسية السودانية بمختلف تصنيفاتها عانت ظروف النضال السري في ظل النظام الشمولي، الأمر الذي ألقى بظلاله على نموها وتطورها الفكري والسياسي، وقد عملت الإجراءات القمعية على تعطيل فاعلية التطور الطبيعي، وضمورها وقطع الصلة بينها وبين قواعدها، ولذلك فإن حالة الضعف البائنة ليست مستغربة إذ من المهم العمل على تقوية الأحزاب لممارسة دورها في المجتمع. إن عملية الدمقرطة، والتحديث السياسي، وفاعلية النظام السياسي الديمقراطي، تتطلب من الأحزاب السياسية قدر من الإصلاح الذي يحوي: – في الجانب الثقافي تحويل الحزب إلى مكان للحوارات والنقاشات الصحية، والانتاج الفكري والمراجعة النقدية. إن تكون الأحزاب نموذج متطور ومختلف وحديث بما يتلاءم مع متغيرات العصر. – التحديث الإداري، وامتلاك الرؤية والإرادة والثورية والمرونة اللازمتين في العمل السياسي.. – ضرورة إصلاح القوانين المنظمة للممارسة السياسية وتطويرها. – ضمان المشاركة السياسية الفعالة لكل شرائح المجتمع. – تنمية روح الحوار الديمقراطي، والاختلاف المنتج داخل الأجسام الحزبية وبين الأحزاب مع بعضها. – تمثل قيم النزاهة والشفافية والمحاسبية في العلاقة مع الشعب. – تجريم الانقلابات العسكرية والعمل على خلق بيئة سياسية تسمح بالتداول السلمي للسلطة. – تعمل الأحزاب على تفعيل دور الإعلام وتعميق الصلة بالجماهير كأدوات مهمة لبث الوعي الديمقراطي. – تفعيل المشاركة الشبابية والنسائية في أوساط الأحزاب.. – التطور التقني يتطلب نوع جديد من الأحزاب، تمتلك المعلومات والبحوث وتوظيفها لصالح برامج التنمية المستدامة. – إصلاح وظيفي يستند إلى المؤسسية والديمقراطية الداخلية، لأن ضعف الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب يؤدي إلى إفراغ الديمقراطية من مضمونها. – إصلاح النظم الانتخابية وتطويرها لضمان تمثيل الفئات الحية والفاعلة في المجتمع. – تطوير البرامج وبناء التحالفات الكبيرة، والكتل التاريخية، والمتنوعة حسب ضرورات المرحلة. إن نظرية التحديث وتطوير المجتمعات، يؤدي لتشكيل تنظيمات قوية وفاعلة ومؤثرة ومنتجة، لصالح حركة الدمقرطة وتطور الوعي. ▪️منظمات المجتمع المدني: المجتمع المدني هو إحدى المؤسسات المستقلة التي تظهر داخل المجتمعات وتكون العلاقات بين تلك المؤسسات قائمة على الأمور الطوعية. ويعرف البنك الدولي المجتمع المدني (عدد من المنظمات غير الربحية، وغير الحكومية، والتي تعتمد على النهوض بالاهتمامات والقيم الخاصة بالأشخاص المنضمين إليها، والآخرين، وتكون معتمدة على أسس أخلاقية، أو خيرية، أو دينية، أو علمية، أو ثقافية.. تتطلع منظمات المجتمع المدني بأدوار متعددة وفق محددات الحرية، والعمل الجماعي التطوعي المستقل، والمؤسسية، والحرية الشخصية، والمواطنة وحقوق الإنسان، تنفذ برامجها التعليمية التربوية الثقافية بالاستناد إلى الأخلاق والقيم الحميدة العامة للمجتمع وتقوم بالمهام: – تجميع المصالح العامة. – حسم وحل الصراعات. – تحسين الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، ومحاربة العادات الضارة. إشاعة ثقافة ديمقراطية مرتبطة بالحقوق والواجبات. – تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة. – تحقيق الديمقراطية بالمشاركة الاختيارية والتطوع. – الوفاء بالحاجات وحماية الحقوق من الانتهاك. – ملء الفراغ في حالة غياب الدولة أو انسحابها. – توفير الخدمات والعون الإنساني ومساعدة الضحايا. لا يمكن الفصل الميكانيكي بين منظمات المجتمع المدني كظاهرة حديثة، وبين الأحزاب من حيث الدور المطلوب في الممارسة الديمقراطية، الأحزاب جزء من المجتمع المدني، ووجود الأحزاب دليل على الحراك السياسي والاجتماعي ومستوى الوعي الثقافي والسياسي، وتمثل طلائع الشعوب للنهوض والتقدم.. إن مؤسسات المجتمع المدني ليست بديلا للأحزاب، ولا يجب أن تكون، وهي بحكم طبيعتها الطوعية الديمقراطية المرنة، وطبيعة مهماتها التخصصية، تختلف عن الأحزاب، ولكنها تستطيع أن تلعب أدوارا سياسية في التوعية والتثقيف السياسي والحقوقي، بما يساهم بإيجابية في الانتقال الديمقراطي، وقضايا استدامة الديمقراطية. إن التطور الثقافي، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي مربوط بالديمقراطية وتطورها، وهنا يأتي دور المؤسسات المدنية والأحزاب في هذا الوجه كما يقول هنتنغتون (إن الديمقراطية الناجحة تعتمد على وجود مؤسسات فعالة، أكثر من وجود عدد كبير من الأفراد يؤمنون بقيم الديمقراطية الليبرالية، ويبحثون عن المشاركة الديمقراطية، ويسجل الأحزاب السياسية كمؤسسات فعالة.) إن بنية التحول الديمقراطي تتطلب الإطار القانوني والدستوري، وترتبط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، وهذا فضاء ممتد يسع المجتمع المدني والأحزاب باعتبارهما متكاملان ومستقلان. [email protected]