500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    حمّور زيادة يكتب: من الخرطوم إلى لاهاي    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرقابة على الدستورية
نشر في الراكوبة يوم 26 - 12 - 2020

لا خلاف بين السودانيين بشأن وجود قضاء دستوري فاعل و نافذ. لكن تتباين الرؤى بشأن الجهة التي يسند إليها القضاء الدستوري. هل يسند للسلطة القضائية كما جرى عليه العمل منذ سنة 1903 وحتى استيلاء الإنقاذيين على البلد؟ أم يسند لمحكمة خاصة منبتة الصلة بالسلطة القضائية كما أختار له شيخ الإسلاميين أن يكون بموجب دستور 1998؟
تتناول هذه الورقة الموضوع في قسمين؛ الأول يتناول الرقابة على الدستورية في السودان. و أما القسم الثاني فيحتوي على السند القانوني والحجج و الأسانيد التي تدعم ما كتبته في هذا القسم الأول. و إذا كان ما يرد في هذا القسم الأول مقبولا لك عزيزي القارئ من منظورك العلمي فلا داعي لترهق نفسك بقراءة القسم الثاني خاصة و أنه يناسب القانونيين و هم و أنا منهم أكثر شيء جدلاً.
القسم الأول: الرقابة على الدستورية في السودان
يقصد بالرقابة الدستورية " الرقابة على دستورية القوانين و المراسيم التشريعية و التنفيذية أو أي فعل أو امتناع من شأنه أن يهدر أو يفوّت حقا مضمونا بالدستور إذا ثبت في الحالة الأخيرة أن المدعي قد استنفد كل سبل الشكوى المتاحة و بلا جدوى
أخذ السودان منذ الاستقلال بالرقابة القضائية على الدستورية و بأن تطبقها محاكم السلطة القضائية دون حاجة لمحكمة دستورية خاصة. و قد نصّت على ذلك المادة 8 من دستور السودان المؤقت لسنة 1956 و المادة 3 و 8 من الدستور المؤقت لسنة 1964 و المادة 94 من دستور السودان المؤقت 1964 (تعديل) 1966 والمادة 58 من الدستور الدائم لجمهورية السودان لسنة 1973. و قد كانت الرقابة من حيث الموضوع مستوفية للمعايير الست المشار إليها في نظام الرقابة الأنجلوسكسونية في القسم الثاني من هذه الورقة. وبعد انقلاب الإنقاذ على الحكومة المنتخبة في 1989 ظل السودان محكوما بمراسيم سلطوية غاشمة إلى أن صدر ما يسمى دستور جمهورية السودان لسنة 1998.
وقد نصت المادة 105(1) من الفصل الثاني من الباب الخامس على أن (تقوم محكمة دستورية مستقلة يعين رئيس الجمهورية رئيسها و أعضاءها من ذوي الخبرة العدلية العالية بموافقة المجلس الوطني. و نصت المادة 105 (2) أن المحكمة الدستورية حارسة للدستور. كما نصت المادة (34) من الدستور أن (لكل شخص متضرر استوفى التظلم و الشكوى للأجهزة التنفيذية و الإدارية الحق في اللجوء للمحكمة الدستورية لحماية الحريات و الحرمات و الحقوق الواردة في فصل الحريات و الحرمات و الحقوق في الدستور و يجوز للمحكمة ممارسة سلطتها بالمعروف في نقض أي قانون أو أمر مخالف للدستور و رد الحق للمتظلم أو تعويضه عن ضرره.
ويعتبر إنشاء محكمة خاصة للرقابة الدستورية مثلها مثل الإنقاذ انقلابا على الموروث القضائي و الدستوري و ربما كانت له أسباب من بينها:
أن اثنين من الثلاثي القانوني الذي صاغ الدستور من خريجي جامعة الخرطوم ممن أكملوا دراساتهم العليا في فرنسا.
أن قيام المحكمة الخاصّة جاء في سياق إجراءات شمولية لقطع الصلة بما تبقى (بعد الفصل الجماعي للقضاة) من نظام القضاء العلماني الموروث و الحاجة لمحكمة تكون حامية للنظام الشمولي الجديد بمزاعمه الإسلامية و محاكمه العسكرية و محاكم الطوارئ وبمنأى عن السلطة القضائية لاحتمال انحياز من بقي من قضاة السودان القديم لسيادة حكم القانون و الفقه الدستوري الموروث. وقد دلّت تجارب الدول الأخرى مثل باكستان ونيجيريا و غانا و يوغندا و كينيا و غيرها على أن النظام القانوني الموروث قادر على الانبعاث و الاستمرارية رغم ما يعتور مسار الديمقراطية و سيادة حكم القانون من سطو عسكري على نظام الحكم و لو استمر السطو لسنوات و عقود. كما دلّ على ذلك في السودان الأحكام الصادرة من الدوائر الدستورية في المحكمة العليا بعد انتفاضة أبريل 1985 في حق رموز النظام الأسبق و قيام المحكمة العليا بالحكم بعدم دستورية الأحكام الصادرة منها أو من غيرها إبان ولاية النظام المايوي البائد.
هل من ضرورة لوجود محكمة دستورية خاصّة
من وجهة نظري فإن نموذج المحكمة الدستورية الذي ابتكره دستور 1998 و استمر بموجب دستور 2005 جدير بإعادة النظر فيه من حيث مناسبته أو عدمها للسودان. و قد سبق أن كتبت في 2003 في فصل بعنوان تسييس الإسلام و الحروب الأهلية في السودان في كتاب نشرته جامعة بنسلفانيا أن خلع السلطة القضائية من حراسة الدستور و إسناد حراسته لمحكمة دستورية خاصة منبتة الصلة بالسلطة القضائية انتكاس لسيادة حكم القانون و الحقوق و الحريات الاساسية . فقد كان اختصاص نظر الدعاوى الدستورية قبل الإنقاذ معقودا للمحكمة العليا رأس السلطة القضائية في السودان. و كان بالإمكان تكليف سبعة قضاة من أعضاء الجمعية العمومية للمحكمة العليا ليشكلوا دائرة دستورية وقتية adhoc للنظر في أي دعوى دستورية وفقا لأمر التشكيل الوقتي الذي يصدره رئيس القضاء . و قد كان تشكيل الدوائر الدستورية شأنا داخليا تمارسه حصرا السلطة القضائية. كما كانت عضوية الدوائر الدستورية متاحة لكل قاض من أعضاء الجمعية العمومية للمحكمة العليا إلا من أبى. و وفقا لهذا التنظيم لم يكن للسلطة التنفيذية أو التشريعية يد أو تأثير في تشكيل الدوائر. كما كانت بموجبه السلطة القضائية بما فيها المحكمة العليا و قضاتها و المحاكم التابعة لها هي حارسة الدستور. و شتّان ما بين حراسة قوامها السلطة القضائية و حراسة قوامها تسعة قضاة يعينهم رئيس الجمهورية.
و المحكمة الدستورية ليست مستقلة بالمعايير القياسية المقبولة في المجتمعات الديمقراطية. فقد نشأت في كنف نظام شمولي . و لا تكفي مشاركة المجلس الوطني و مجلس الولايات و القضاء في ترشيح قضاتها لإثبات استقلاليتها. و ذلك لأن اختيار أو انتخاب أعضاء المجالس المشار إليها نفسها لم يكن مستوفيا لمعايير و مقاييس الانتخابات الحرة المقبولة في المجتمعات الديمقراطية.
و يضاف إلى ذلك أن نظام المحكمة لم يبيّن الجهة صاحبة القرار النهائي في تعيين قضاة المحكمة الدستورية أهي رئيس الجمهورية أم تلك المجالس التي رشحت أو وافقت على المرشحين. و لتوضيح ذلك نضرب مثالا بالهند أقرب النظم القانونية لنظام القضاء السوداني التليد. ففي الهند يتم تعيين قضاة محكمة الاستئناف العليا و المحكمة العليا بناءا على ترشيح مجلس قضاء المحكمة Judges Collegium المعنية حسب الحال. و يرفع رئيس القضاء أسماء المرشحين للحكومة . فإذا اعترضت الحكومة على واحد أو أكثر من المرشحين أعادت القائمة لرئيس القضاء الذي يعرضها بدوره على مجلس القضاء المختص . و يجوز للمجلس و رئيس القضاء إعادة ترشيح من اعترضت عليه الحكومة للمرة الثانية و لا تملك الحكومة و لا رئيس الوزراء في هذه الحالة سوى الانصياع. و يلاحظ أنه وفقا للدستور الأمريكي في المادة الثانية (2) (2) فإن قضاة المحكمة العليا المرشحين من الرئيس الأمريكي لا يتم تعيينهم ما لم يوافق مجلس الشيوخ . و في التطبيق العملي فإن هنالك ما يربو على 37 قاضيا مرشحا من الرؤساء لم يتم تعيينهم.
و الاعتراض على المحكمة الدستورية لا يستند حصرا على أعطال الاستقلالية التي على أي حال يمكن إصلاحها . بل ينبني على أن موديل هذه المحاكم الدستورية الطارف لا يناسب جغرافية السودان السياسية بأقاليمه و أعراقه و ثقافاته و نظامه القانوني التليد . و ذلك موضح فيما يلي من هذه الورقة.
الفصل الصارم بين دعاوى قضائية تنظرها المحاكم العادية و دعاوى دستورية تنظرها محكمة خاصة نشأ في دول أوربا الغربية التي تتبع نظام القانون الروماني . و ذلك النظام يقوم بطبعه على تعددية السلطات القضائية شاملة المحاكم العادية الجنائية و المدنية التي تنظر قضايا الأفراد و المحاكم الإدارية التي تختص حصرا بنظر القضايا التي تكون الدولة أو أشخاص القانون العام طرفا فيها بالإضافة إلى المحكمة الدستورية.
و وجود محكمة دستورية مستقلة بسلطات محدودة ( مقارنة برصيفتها المحكمة العليا في النظام الأنجلوسكسونية ) في النظام اللاتيني لا ضرر منه على الحقوق و الحريات في بلدان ذلك النظام. و ذلك لأسباب من بينها أن القانون بكل فروعه بما فيه الدستوري يقوم في تلك الدول على التدوين التفصيلي بحيث لا مجال و لا حاجة لاجتهاد قد يهدر حقا إذا أخطأ. كما أن المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان و المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان يوفران لمواطني الدول الأعضاء حماية دستورية مستقلة في حال عجزت المحاكم الوطنية الدستورية في توفير مثل تلك الحماية .
و من زاوية علاقة المركز بالهامش فإنه من غير المقبول أن يتولّى تسعة قضاة جالسون في الخرطوم الفصل في المنازعات الدستورية و انتهاكات حقوق الإنسان الواقعة في الأطراف. سواء بالمراسلة أو بحضور الضحايا. من جانب آخر فإنه لا يستقيم إنشاء محكمة دستورية جنبا إلى جنب المحكمة العليا في كل ولاية من ولايات السودان لأن ذلك لا يعدو كونه حماقة وهدرا للموارد. و ما يناسب السودان بأقاليمه ذات الحكم الذاتي أن تتولى المحكمة العليا الولائية ضمن اختصاصها العام الفصل في الدعاوى الدستورية. و يمكن في هذه الحالة أن تستأنف قراراتها لمحكمة الاستئناف العليا الاتحادية (المحكمة العليا حاليا) و لا حاجة لمحكمة دستورية خاصة.
من الناحية الفقهية و القانونية فإن الحقوق تتداخل . و قد ينشأ حق دستوري في سياق دعوى يقيمها المستأجرون لدكاكين المنطقة الشرقية التي تملكها سلطة عامة أو في سياق دعوى جنائية تقوم بيناتها على تفتيش أو اعتقال غير مشروع أو إقرار منتزع بالتعذيب بما يجافي مبدأ المشروعية و ينتهك حقوق المتهم. و قد تلاحظ منذ إنشاء المحكمة الدستورية ضمور عدد القضايا الدستورية المتعلقة بالتعذيب و الاعتقال بدون محاكمة و حرية التنقل و الحق في العلاج و غيرها من قضايا تتعلق بالحقوق و الحريات الأساسية شكّلت في الماضي في ظل نظام القضاء السوداني التليد السلسلة الفقرية للقضاء الدستوري. و المحكمة الدستورية الخاصة بطبعها أقرب نسبا للدواوين الحكومية و مستشارية الجهاز التنفيذي و التشريعي و القضائي و أبعد ما تكون عن التصدي لدعاوى الحقوق الدستورية الفردية . و يمكن الإطلاع على ما أوردته في القسم الثاني من هذه الورقة في حال المحكمة الدستورية العليا المصرية و السورية حيث لا يسمح للأفراد من تلقاء أنفسهم مخاطبة المحكمة الدستورية لحماية حق دستوري .
و من الضروري التنويه أنه بعد مصادقة السودان في سنة 1986 على العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية و العهد الدولي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية فقد غدت الحقوق المضمونة بهذين العهدين جزاء لا يتجزأ من قوانين السودان و حقوقا أساسية جديرة بالحماية القضائية . و باستعراض هذه الحقوق نجد أنها بطبيعتها لا تنحصر في اختصاص محكمة أحادية خاصّة هي المحكمة الدستورية بل تتوزع و تنداح في الجسم القانوني بأكمله , و ليس أقدر على حمايتها سوى القضاء بكامل عدته و عتاده.
و في ختام هذه المداخلة يجب ألا يكون النظر في وضع المحكمة الدستورية الحالية منغلقا داخل الصندوق التشريعي الذي وضعته لها الإنقاذ بحيث تقتصر الاقتراحات في التجديد أو عدم التجديد لقضاتها الأجلاء. بل يجب النظر في إمكانية إلغاء المحكمة الدستورية و أيلولة اختصاص نظر الدعاوى الدستورية للمحكمة العليا وفق قانون يسن لهذا الغرض. و ذلك إلى حين الاتفاق على دستور يمهّد لحكم ديمقراطي مستدام. و قد تكون
هنالك معارضة لإلغاء المحكمة الدستورية حتى من أطراف ذاقت من الإنقاذ و محاكمه الامرّين. و ذلك لأن أي محكمة دستورية بنموذجها التشريعي الراهن تخدم لا شك السلطة التنفيذية القابضة . و لكن يجب إعلاء شأن المصلحة العامة إذا ثبت وجود مصلحة عامة في إلغائها.
القسم الثاني : الرقابة على الدستورية في النظم المقارنة
كما سبق فيقصد بالرقابة الدستورية " الرقابة على دستورية القوانين و المراسيم التشريعية و التنفيذية أو أي فعل أو امتناع من شأنه أن يهدر أو يفوّت حقا مضمونا بالدستور إذا ثبت في الحالة الأخيرة أن المدعي قد استنفد كل سبل الشكوى المتاحة و بلا جدوى
. و تختلف من بلد لآخر من حيث(1) سندها و (2) نطاقها و (3) السلطة التي تباشرها و (4) من يملك تحريك المطالبة بها و (5) سماتها و (6) منزلتها .
و بصفة عامة هنالك مدرستان رئيسيتان للرقابة لكل منهما كفل من هذه الجوانب/ المعايير الست و ذلك على النحو الآتي :
المدرسة الأولى : الرقابة في النظام الأنجلوساكسوني :
(1) سند الرقابة في هذا النظام القانون العام و مصفوفاته العلاجية المسماة habeas corpus , Certiorari , Mandamus حتى و إن كان لا يوجد دستور مكتوب أو يوجد و لكن يخلو من وثيقة حقوق أو نص صريح بالرقابة .
و(2) نطاق الرقابة فيه يشمل التحقق من التزام القانون و المراسيم التشريعية و التنفيذية بالدستور و بالحقوق و الحريات المكفولة بالدستور ( إن وجد) أو بمبادئ العدالة الطبيعية إن لم يوجد دستور مكتوب. و ليس للرقابة في هذا النظام من سقف يحدها سوى ما تواترت عليه أحكام القضاء من قواعد و مبادئ أساسية .
(3)السلطة التي تباشرها هي المحاكم العادية التابعة للسلطة القضائية أو دائرة معيّنة من دوائرها. و مثالها في الولايات المتحدة حيث تختص المحاكم العليا الولائية و المحكمة العليا الاتحادية بالنظر و الفصل في المسائل الدستورية. و قد كان اختصاص القضاء العادي بنظر الدعاوى الدستورية مطبقا في السودان قبل أن تدركه الإنقاذ.
(4) و تحريك طلب الرقابة أو الحماية أو الدعوى الدستورية في هذا النظام مكفول للجميع سواء كانوا أشخاصا أو أفرادا ذوا مصلحة خاصة أو جهات عامّة.
(5) من حيث سماتها فإنها رقابة خصومة يقيمها ذو المصلحة ضد الجهة المدعى عليها بالحق أو التعدّي سواء بعد وقوع التعدّي أو قبله.
(6) و من حيث منزلتها فإن للرقابة الدستورية و الأحكام الصادرة بموجبها الهيمنة و تنعقد السيادة في الجمهوريات التي تتبع هذا النظام للدستور المكتوب أو غير المكتوب و ليس للبرلمان وفقا لما تفسره و تحكم به دوائر الرقابة القضائية . و قد أرست هذا المبدأ في الولايات المتحدة المحكمة الاتحادية العليا في قضية ماربري // ضد// ماديسون 1803 و حكمت أن السيادة و الهيمنة للدستور و ليست للكونجرس و أن من سلطات هذه المحكمة إهدار كل تشريع يصدره الكونجرس أو أي ولاية إذا تعارض و الدستور.
و بالنسبة لبريطانيا الملكية التي تعتبر مهد هذا النظام كانت المحاكم تحجم من تلقاء نفسها من التصدّي للتشريعات الصادرة من البرلمان و ظلّ العرف مستقرا لقرون على سيادة البرلمان. و قد تعدّل ذلك لحدّما بصدور قانون الإصلاح الدستوري 2005 و قانون حقوق الإنسان 1998 و إنشاء المحكمة العليا في أكتوبر 2009 و انعقاد الاختصاص لها ضمن اختصاصات أخرى بنظر التشريعات الرئيسية أو الفرعية الصادرة من البرلمان و إعلان عدم توافقها مع المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان .
المدرسة الثانية : الرقابة في النظام اللاتيني :
و مهدها دول أوربا الغربية التي تتبنى نظام القانون الروماني و تمثلها فرنسا و النمسا و ألمانيا و إيطاليا و غيرها باستثناء الدول الاسكندنافية و الديمقراطيات الجديدة في أوربا الشرقية. و فيما يلي موقف الرقابة في هذا النظام قياسا على المعايير الست سابقة الذكر .
(1) السند : لابد لها من سند دستوري صريح في دستور مكتوب. و قد كان لدولة النمسا قصب السبق في تقديم نوع من الرقابة الدستورية تختص بها محكمة دستورية مستقلة عن السلطة القضائية. و ذلك بموجب دستور النمسا لسنة 1920 الذي صاغ مسودته هانز كلسن صاحب نظرية القانون الصرف. و رغم سبق النظام الجمهوري في فرنسا فإن الأخيرة لم تعترف بالرقابة على دستورية أعمال السلطة التشريعية إلا بالقدر اليسير الذي أقرّه دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة النافذ منذ الخامس من أكتوبر 1958.
(2) النطاق: يختلف نطاقها من دولة إلى أخرى حسب النص الدستوري . و بصفة عامة تأخذ فرنسا منذ دستور 1958 و بعض مستعمراتها بما يسمى الرقابة الوقائية أو المسبقة. و معنى ذلك أنه يجوز لمجلس الدستور الفرنسي النظر في دستورية مشروعات القوانين قبل المصادقة عليها من السلطة التشريعية و أما بعد المصادقة عليها فلا يجوز. و قد أخذ القانون السوري بمبدأ الرقابة على دستورية مشروعات القوانين و المراسيم التشريعية و التنفيذية و ذلك في المادة 11(ب) من قانون المحكمة الدستورية العليا لسنة 2014 إضافة إلى أخذه بالرقابة على دستورية القوانين بصيغة مقيّدة لا تكفل للأفراد طلبها. و بصفة عامة فإن حماية الحق الدستوري الشخصي سواء قبل أو بعد التعدي عليه لا يدخل في نطاق الرقابة كما أن عددا كبيرا من دساتير دول هذا النظام لا تشتمل على وثيقة للحقوق و الحريات . و ذلك باستثناء الدول الأعضاء في المجموعة الاوربية حيث أصبحت المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان بالتضمين جزء لا يتجزأ من دساتيرها و بما في ذلك وثيقة الحقوق و الحريات الواردة في المعاهدة. كما يستثنى من ذلك الدستور الألماني و الإيطالي الصادرين بعد الحرب العالمية الثانية بتأثير من الحلفاء المنتصرين و بما تحويانه من بيان مفصل للحقوق لتكريس الديمقراطية و الحماية من الفاشية و النازية. و يستثنى من ذلك أيضا دساتير الديمقراطيات الجديدة في أوربا الشرقية حيث أخذت معظمها بوثيقة الحقوق و الرقابة على الدستورية و كفالة حق المقاضاة الدستورية للأفراد.
(3) السلطة المباشرة : هي المحكمة الدستورية . و هي سلطة مستقلة عن القضاء العادي . و قد تكون محكمة واحدة بدوائر استئنافية و ابتدائية أو بدونها على نطاق القطر كما في معظم الدول المركزية أو محاكم دستورية ولائية و اتحادية كما في حال ألمانيا و غيرها من دول فدرالية ، و قد تكون سلطة هرمية قمتها محكمة عليا دستورية إضافة إلى دوائر استئنافية و ابتدائية.
(4) تحريك الطلب أو الدعوى : طلب الرقابة أو الدعوى في هذا النظام مقيّد بصفة عامّة بحيث لا يمكن تحريك الدعوى أو طلب الرقابة إلا عن طريق السلطة التنفيذية أو التشريعية أو الإحالة القضائية . و يقصد بالأخيرة الحالة التي ترى فيها المحكمة العادية أو أيّ من الخصمين أن النص المتعلقة به دعوى أمامها غير دستوري و تقوم من ثم بنفسها بإحالة الدعوى للمحكمة الدستورية أو تمنح وفق تقديرها الخصم الذي يدعي عدم الدستورية أن يقوم بنفسه بقيد دعوى أمام المحكمة الدستورية خلال القيد الذي تحدده المحكمة القضائية. و يلاحظ أن نظام المحكمة الدستورية السوري لسنة 2014 لا يسمح للأفراد بتحريك الدعوى بعدم الدستورية لا بطريق الإحالة القضائية و لا غيرها و أن دعوى الرقابة بموجبة في جميع أحوالها ينحصر تحريكها في رئيس الجمهورية أو أعضاء مجلس الشعب . و للمقارنة فإن الدستور المصري لسنة 2014 و نظام المحكمة الدستورية العليا يجيزان طريق الإحالة القضائية على النحو الموضح أعلاه . و لكن لا يجيزان الرقابة المسبقة على مشروعات القوانين و لا دعوى الإخلال بالحق الدستوري التي يقيمها الفرد دون إحالة من القضاء.
(5) السّمة: الرقابة على الدستورية في النظام اللاتيني رقابة إشرافية تعتبر المحكمة الدستورية فيها إضافة إلى كونها محكمة مستشارا دستوريا لسلطات الحكم الثلاثة تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات. و من ثم فإن ما تنظره من قضايا محدود مقارنة بما تنظره محاكم النظام الانجلوسكسوني من قضايا دستورية .
(6) المنزلة : للرقابة الدستورية في النظام اللاتيني هيمنة أو سيادة بقدر ما يسمح أو لا يسمح به الدستور المكتوب. و لا يجوز الرجوع لغير الدستور المكتوب و القانون المدوّن لترجيح سيادة حكم القانون و أحكام القضاء .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.