في الحلقة السابقة تطرقنا لمسيرة متعرجة تعلقت بفشلنا في إستيلاد مشروع إستنارة سوداني يقيينا شر الأيام و عاديات التاريخ، و كنا قد اعملنا التفكير حول كيفية أهمية تحرر العقل و ما زلنا نمضي في ذات الإتجاه المصحوب بالأسئلة التي ختمنا بها حلقتنا السابقة حول من هم الذين يختطفون المشهد عشية كل تغيير يقوم به السودانيين و ما هي أدوات الإختطاف؟ أيضا فتحنا التساؤل حول تكوينات العقل لأي مجتمع بشري و خصينا مجتمعنا السوداني بالرغم من افتقارنا الي حلقات تاريخ متماسكة منذ اقدم العصور و الي وقت تشكلات الممالك السودانية ، هذا الافتقار افقدنا قدرتنا على استبصار التاريخ الإجتماعي الذي رافق هذه المسيرة الطويلة من التاريخ و مساهمة هذا التاريخ الاجتماعي في تكوين ملامح هذا العقل و تراكمات خبراته و هذا حالنا في مجمل الدراسات الإجتماعية المتصلة بدراسة الفرد /المجتمع السوداني، لكن الشاهد الأكبر في تركة و آثار هذا التاريخ تظهر ميراث روحي /قيمي للسودانيين ضارب في القدم و في عمق تكوينات عقلهم الجمعي، و لربما يعود ذلك إلي اول حضارة تشكلت علي الأرض السودانية و في دراسات مستحدثة أولي الحضارات البشرية (كوش) ، فهذه الحضارة الكوشية كانت حضارة ذات ميراث روحي بلا منازع و شكلت مهد ديانات التوحيد الأولي، لذلك قد لا نري آثار ضخمة مجسمة كالاهرامات في الجيزة (إستكمال الحضارة ) و لكن نجد الأثر الروحي في الحجر و النقوش _ المهملة_ في مناطق النقعة و المصورات و البجرواية التي تعبر عن ميراث روحي عميق كان يكتنف هذه الحضارة و التي لا نعلم علي وجه التحديد كيف تتداعت مثل هذه الحضارة العظيمة و بقيت جيناتها في داخل تكوينات عقل إنسان السودان عبر التاريخ يحمل بذراتها في سلوكه و روحانيته و علاقاته الإجتماعية، و هذا مبحث عميق و كبير أردنا فقط الإشارة إليه لخدمة موضوعنا في سبر غور تكوينات العقل السوداني و إشكال تدينه و الروحانية التي اكتنفت هذا التكوين حتي عهود قريبة ثم تكالبت عليه عوامل و أدوات عمشت لديه الرؤية و ما زالت تحاول أن تخلق له قطيعة مع موروثه المشرق . .. تجدر الإشارة إلى أننا عندما إخترنا مصطلح لاهوت التحرير فنحنا هنا وظفنا هذا المصطلح مع محاولة تغذيته بمفهوم _ سيتضح في مقتبل المقالات_ لرفد واقع الصراع الاجتماعي /السياسي /الثقافي السوداني . .. نشأ مصطلح لاهوت التحرير في مجتمعات أمريكا اللاتينية فيما بعد منتصف القرن العشرين (1968 ) مع مؤتمر عام أساقفة امريكا اللاتينية في كولمبيا، هذا المؤتمر الذي قرر مفاهيم ثورية نابعة من الإنجيل، و كان البروز الأكبر لنجم حركة لاهوت التحرير في فترة السبيعنيات بسبب تورطها في النضال السياسي لأجل المحرومين ضد هيمنة النخب المحتكرة للمال و تم توجيه النقد بشدة للحركة من قبل الفاتيكان كمركز للمسيحية في العالم و وصي علي ميراث المسيح و الديانة المسيحية و جري إتهام القساوسة القائمين علي حركة لاهوت التحرير من قبل الكنيسة بأنهم إمتداد للماركسية (شيوعيون ) ! . .. في فترة التسعينيات لجأت الكنيسة الكاثوليكية الي البابا يوحنا بولس الثاني ليحد من تأثير الحركة، و قد فعل بتعيين أساقفة جدد أكثر تحفظا في البرازيل و في بقية دول القارة اللاتينية . .. جرا كل هذا الصراع علي خلفية مفاهيم جديدة تبناها بعض الأساقفة الذين انحازوا لقضايا مجتمعية تتعلق بالفقر و التهميش الطبقي وقفوا فيها مع قضايا الفقراء و المضطهدين من منظور ثوري نابع من فهم للأنجيل نفسه، من أن السيد المسيح لم يكن فقط "المخلص" و لكن أيضا المحرر للشعوب التي ترزح تحت وطأة الظلم و العوز و الاضطهاد .. إنجيل لوقا 53:52 ( تسبح مريم الرب "أنزل الأعزاء عن الكراسي و رفع المتضعين. أشبع الجياع خيرات، و صرف الأغنياء فارغين " ) .. أي وفق فهم لاهوت التحرير، فأن السيدة مريم تعبر عن فرحها لأن الله قد حرر الفقراء و اطعم الجياع و أنزل الأغنياء من بروجهم المتعالية . .. علي خلفية هذه المفاهيم و أخري منضافة لها معنية بالأنحياز لمجتمعات الفقراء و العمل علي حل قضاياهم في المساواة و العدل و الحرية، واجهت حركة لاهوت تحرير امريكا اللاتينية حربا من المراكز الدينية الكنسية التي احتكرت الخطاب الديني و وظفته لصالح السلطة المتحالفة معها و هو بالضرورة تحالف قائم علي مصالح مشتركة /متشابكة ؛ بهذا الشكل وجد في الفضاء الاجتماعي و الديني اللاتيني خطابان دينيان متناقضان، خطاب تقليدي يدعم السلطة و توجهاتها و تتبناه المؤسسة الرسمية الدينية المعترف بها من السلطة، و خطاب آخر لا يعترف بالمؤسسة الرسمية و يقدم قراءة للدين يحاول من خلالها أن يجسد قيم ارفع للدين مع رفع قضايا الظلم و المعاناة عن المواطنين المأزومين اقتصاديا و اجتماعيا و يرجع للدين نقاوته و صداه في الحياة بعد أن وضعته المؤسسة الدينية في خدمة مصالحها و أجندة السلطة الحاكمة . .. نواصل جبير بولاد مصادر : 1/ ندوات و أحاديث _أستاذ بدر الدين السيمت _ صفحة جذوة التاؤيل و اليوتيوب . 2/ لاهوت التحرير _الدين و الثورة في العالم الثالث _ د.حيدر ابراهيم. 3/ لاهوت التحرير : إنجيل الفقراء في أمريكا اللاتينية _ احمد عبد الحميد حسين 4/ عقيل سعيد _ الآداب الإلكترونية