* * أشار د. الشفيع خضر؛ أن بلادنا منذ فجر الاستقلال، وحتى الآن ما تزال تعيش في فترة انتقالية، ولمدة 65 عاماً. واستدرك بالقول: "هذا قطعاً شيء مؤسف؛ يجب أن نخجل منه جميعاً، خاصة النُخب الساسية، التي تصدَّت للعمل العام". وفي رده على مسألة بناء الدولة السودانية قال: إن الأزمة السياسية السودانية؛ ترجع جذورها منذ الاستقلال، ولخَّصها في أربعة محاور: كيفية ترسيخ الديمقراطية، وإصلاح النظام السياسي، وكيفية تحقيق السلام المستدام، والتنمية المتوازنة، إضافه لوحدة البلاد، في مواجهة إمكانية تفتتها وتشرذمها. وقال إن مفتاح العلاج لواقع البلاد؛ هو تقديم إجابات صائبة للأسئلة المصيرية، التي ظللنا نبحث عن إجابات لها منذ الاستقلال. وأشار في حوار مطوَّل مع "الديمقراطي"؛ للتجارب الإسلاموية وفشلها. وقال إنه لابد أن تسود قيم الديمقراطية، والحرية، وإنجاز مسألة الإصلاح السياسي. وأشار لضرورة دحر أفكار التكفيريين؛ والمهووسين؛ وقدَّم روشتة سياسية صالحة للاستخدام بخصوص موضوع استدامة الديمقراطية، والتحول الديمقراطي. وانتقد الأحزاب؛ وقال إنها السبب المباشر في حالة التوهان السياسي... * ما الذي تقصده تحديداً بالمؤتمر الدستوري؟! فهمي للمؤتمر الدستوري؛ أنه ليس مجرد جلسات مداولات عادية كبقية المؤتمرات المعروفة، وإنما هو سلسلة عمليات مركبة، Processes، تستوجب مشاركة كافة الأحزاب السياسية، وقطاعات المجتمع الأخرى من نقابات، واتحادات العاملين، والمزارعين، منظمات المرأة، والشباب، والطلاب، ومنظمات حقوق الإنسان، زعماء القبائل والعشائر، وممثلي القوميات والمجموعات التي تطرح قضايا الأطراف والمناطق المهمشة، الشخصيات الوطنية... إلخ. ويسهم في أعماله أوسع قطاع من الجماهير، في القرى والأحياء، عبر الإعلام المسموع، والمقروء، والمرئي، وعبر ورش العمل والسمنارات والندوات..إلخ. ومن هنا؛ شرط أن يتم انعقاده في أجواء تتمتع بالحرية والديمقراطية، وتسمح بالحوار الحر الواسع، دون قيد أو شرط أو رقيب. والمؤتمر الدستوري؛ لا يمكن اختزاله في مجرد جلسات نقاش بهدف الاتفاق على اقتسام السلطة السياسية. هو أكبر من ذلك بكثير. فهو أولاً ينطلق من حقيقة وجود خلل في معادلة السلطة، والثروة، والهوية، والإقرار بوجود مظالم حقيقية تُعاني منها سائر المناطق المهمشة. وهو ثانياً؛ يُعنى بمسألة إعادة بناء الدولة السودانية الحداثية، المستندة إلى دستور، وقوانين، وأنماط حكم تراعي واقع التعدد، والتنوع في السودان، من حيث التركيبة السياسية، والعرقية، والثقافية، والدينية.. إلخ. وثالثاً؛ هو يُعنى بمسألة إزالة أسباب الحرب الأهلية، ونشر السلام، وترسيخ وحدة السودان، بحيث تأتي طوعاً، وفق الإرادة الحرة لكل أهل السودان، وليست مفروضة بالقوة. ورابعاً؛ لذلك فإن جدول أعماله عندما يبحث قضايا شكل الدولة، ومستقبل الحكم، علاقة الدين والدولة، التطور غير المتوازن، وكيفية التوزيع العادل للثروة، الهوية، والثقافة.. وسائر القضايا الأخرى.. إنما يبحثها باعتبارها ستفضي إلى ثوابت دستورية مُجمع عليها، وهي التي ستشكل مواد الدستور الدائم للسودان. وبهذا الفهم، فإن قضايا المؤتمر الدستوري ليست هي ذاتها قضايا جولات التفاوض، أو مؤتمرات السلام. هي أعمق وأشمل بكثير، ولكن نتائج جولات التفاوض، ومؤتمرات السلام، هي بمثابة الطريق المؤدي إلى عقد المؤتمر الدستوري. وبحكم طبيعة المهام والوظائف ذات الطابع التأسيسي التي سيتصدى لها المؤتمر القومي الدستوري فهو في دلالاته، أقرب لأن يختط السودان بتعدد كياناته القومية، والعرقية، ومعتقداته الدينية المتعددة، وجذوره الثقافية الحضارية المتنوعة، منهجاً لحل معضلاته المزمنة لكي يستقر دولة حديثة، جديرة بأهله، ورقما ينتزع الاعتراف به في هذا العالم. وأقولها مرة ثانية؛ للأسف الشديد، النخب، والقوى الاجتماعية السياسية، التي اعتلت كراسي الحكم، سواءً عبر الانقلاب العسكري، أو الانتخاب الديمقراطي، ظلت في كل مرة تطيح بهذه الأماني، عندما تسقط هذه المهام التأسيسية من حساباتها وتركنها جنباً، تتراكم دون حلول منذ فجر الاستقلال، ولم تركز إلا على مسألة بقائها في السلطة، ضاربة عرض الحائط بأمنية أن يلحق السودان بركب التقدم. فهل يا ترى سنكرر في فترتنا الانتقالية الراهنة ذات الأخطاء، ونؤكد فعلاً إدماننا للفشل؟ * واضح من حديثك تعدد أسباب الأزمة السياسية السودانية.. وأنت تحدثت عن الأسباب الكامنة في السياسات.. فهل هناك أسباب كامنة في السياسيين؟! نعم؛ وجوهرها هو قصور الرؤى عند معظم النخب السياسية، وإن وجِدت فهي في تصادم مستمر. إضافة لغياب منهج إعادة النظر في الأفكار، والمواقف، والممارسات، والإصرار على التمسك بالموقف الأول باسم المبدئية. لكن هناك الكثير من العوامل المؤثرة سلباً في الأداء الحزبي، لدرجة إضعاف الأحزاب. من بينها: العقود الطويلة من الديكتاتوريات؛ التي تحتكر السلطة، والسياسة، وتقمع الأحزاب. ضعف المؤسسية؛ أو غيابها في العديد من الأحزاب، مما يؤدي آلياً لتسطيح الفكر، وتعطيل حرية المبادرات الذاتية، وإمكانيات الإبداع الخلاق من عضوية الحزب، هجرة العقول والكوادر الوسيطة في الأحزاب بسبب المعاناة في البلد، ذبول حركة الثقافة وتقلص دور المبدعين، رفض التجديد والإصلاح من قِبل القيادات المسيطرة في بعض الأحزاب، عدم تجديد القيادات الحزبية لعقود، وبالتالي معاناتها من الجمود، والتكلس، وفقر خطابها، وأظن أن الخطاب الحزبي أصبح يواجه معضلة في تثوير الأجيال الجديدة وإلهامها. * كيف ترى العلاج؟! أعتقد أن ضربة البداية لعلاج ذلك؛ هي أن نستمع بتفهم، واستجابة إيجابية، لكل الأصوات التي تنتقد الأحزاب وتتهمها عن حق بالتوهان في متاهة عدم اكتشاف سر المفارقات العجيبة، مثل مفارقة الحرب الأهلية، واستطالة سيطرة النظام المهترئ لثلاثين عاماً، ومتاهة المواثيق، والهيكلة، والفعالية للتحالفات الحزبية، بعيداً عن اكتشاف كلمة السر الضرورية واللازمة لإحداث الحراك الشعبي الجماهيري. * كيف نحارب التجارب الإسلاموية التي أثبتت فشلها في المجتمعات المستنيرة منذ أمد بعيد؟! أعتقد أن المدخل المباشر لذلك؛ هو العمل على تسييد قيم الديمقراطية والحرية، إنجاز الإصلاح السياسي، وتحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة، إشاعة العلم والتعليم والمعرفة، إعلاء راية الاستنارة والإصلاح الديني، العمل على تسييد قيمة حب العمل، ورفض إقحام الدين في السياسة. وبالمناسبة؛ نحن عندما ندعو لرفض استغلال الدين في السياسة، لا نسعى لفرض هذه الدعوة بحدِّ السيف، أو عبر قمع وإلغاء الآخر، وإنما من خلال خوض صراع اجتماعي، سلمي وديمقراطي، أهم مبدأ فيه هو احترامنا لوجهة نظر المؤسسات التي تحمل الطرح المغاير لدعوتنا، ونطالبهم باحترام الآخر، والنظر إليه على قَدم المساواة في الحقوق والواجبات، دون توهم اكتسابهم، هم ومؤسساتهم، لأية سمات قدسية، هي في الحقيقة غير موجودة وغير حقيقية، تضعهم في موقع الأعلى بالنسبة لهذا الآخر. ولكن قبل ذلك كله؛ علينا محاربة ودحر أفكار التكفيريين والمهووسين، الذين يعتقدون أنهم ينصبون لنا فخاً، أو يضعوننا في مصيدة أن نكون إما مع الإسلام أو ضده! وبكل بساطة نطرح عليهم مجموعة من التساؤلات، مثل: نحن مع الديمقراطية، والتعددية الحزبية، وحرية التعبير، وحرية الفرد، وحرية المثاقفة.. فهل أنتم مع أم ضد؟! نحن مع ضمان حقوق المرأة؛ ومساواتها مع الرجل، ندافع عنها، ونقف ضد أي قانون يحط من كرامتها، أو يقلل من شأنها.. فهل أنتم مع أم ضد؟! نحن مع التداول السلمي الديمقراطي للسلطة، ومع أن يكون الناس سواسية أمام القانون، لا كبير ولا شريف على القانون، ولا حصانة لأحد.. فهل أنتم مع أم ضد؟! نحن مع حرية البحث العلمي، والاجتهاد الفلسفي والديني، ومع تحرير العقل، ومقارعة الفكرة بالفكرة، وضد التكفير، والجمود، والانغلاق، والتجهيل، والعنف، في مواجهة الآراء والأفكار، ومع التعامل بذهن مفتوح مع متغيرات ومستجدات العصر، ومنجزات الحضارة الإنسانية، من الشرق أو الغرب، فهل أنتم مع أم ضد؟! نحن مع ما توافقت عليه التجارب الإنسانية، ولخصته في مواثيق وعهود دولية وإقليمية لحقوق الإنسان، لا يجوز انتهاكها، ولا يعلو عليها، أو يتعارض معها أي قانون أو تشريع، فهل أنتم مع أم ضد؟! نحن مع حرية الفن والإبداع، ومع الفنانين المبدعين بصفتهم الأكثر انحيازاً للتعبير المتفرد عن الذات وآلام الآخرين، وباعتبارهم مرآة للمجتمع ولروح العصر فما هو موقفكم؟! نحن ضد تكنيز وتهريب الذهب والفضة، وضد سياسة التمكين، واحتكار الوظائف والإعلام، وضد الخصخصة الجائرة، وضد أن تكون ميزانية الحرب وحفظ الأمن أضخم من ميزانية الصحة والتعليم، وضد تقاعس الدولة عن تبني المشاريع التنموية والإنتاجية التي تستوعب المواطنين وطاقاتهم وطموحاتهم، فما هو موقفكم؟! إلى غير ذلك من التساؤلات التي يمكنني مواصلة طرحها إلى ما لا نهاية! * نأتي لمسألة التحول الديمقراطي.. كيف نحافظ عليه.. وماهي مهددات الديمقراطية؟! التحول الديمقراطي؛ يتحقق بإنجاز مهام الفترة الانتقالية كاملة، وهي مهام واضحة ومنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، والفشل في إنجازها هو المهدد للديمقراطية، لأنه سيسمح للحلقة الجهنمية، أو الشريرة، بمواصلة دورانها. ولقد تناولنا هذه المسألة بالتفصيل في إجاباتنا عن الأسئلة السابقة. * ما هي المهددات الحقيقية التي تواجه الفترة الانتقالية؟! والله الفترة الانتقالية وهي بالمناسبة الخامسة والأربع السابقات كان عنوانها الفشل. يستوجب علينا جميعاً، النظر إليها كفترة مصيرية وأساسية، تخاطب جوهر ما يمكن أن يحقق أملنا في بناء الدولة السودانية الحداثية والمستقرة، لا أن يتم الاكتفاء بقصر التدابير الانتقالية على مجرد التغيير السطحي والشكلي، وحصره في إعادة توزيع كراسي السلطة بين القوى التي كانت تُعارض النظام البائد. فالنجاح في تنفيذ التدابير الانتقالية لا علاقة له بالمناصب والمحاصصات، وإنما يُقاس بتنفيذ تلك المهام جوهرية والمصيرية، والنجاح في تنفيذ هذه المهام يضمن الحفاظ على وحدة بلادنا، والسير بها نحو مرافئ التقدم والرقي. بينما الفشل هو أساس الحرب الأهلية وتفتت الوطن. وأي مشروع للتغيير كالذي تطمح إليه ثورة الشعب السوداني لا يضع هذه الرؤية نصب عينيه، سيظل مجرد وهم يحرث في البحر. هذا هو المهدد الرئيس. طبعاً هناك تفاصيل كثيرة مثل فشل السلطة الانتقالية، ولأكثر من عام، في البدء مجرد البدء وليس الإنجاز في تكوين المفوضيات، وهي آليات رئيسة في استعادة الدولة المخطوفة، ناهيك عن الفشل في الكثير من القضايا التي ألهبت غضب الشارع. وأحياناً يبدو لي "وكأن سلطتنا الانتقالية لا تعيش نبض الثورة، أو أن ثورة ديسمبر لم تمر بشوارعها". أما المهددات الخارجية؛ فحدِّث ولا حرج، منها محاولات البعض في هذا الخارج وزن بوصلة الفترة الانتقالية، لتسير وفق رؤاه ومصالحه الاستراتيجية التي يمكن أن تتناقض ومصالح السودان، ومنها أن السودان يعيش في قلب موقع "جيوسياسي" مشحون بالتوتر والاضطراب. * هل الاندماج في المجتمع الدولي؛ هو الروشتة السياسية الصحية، خاصة بعد العزلة الدولية التي عاشها السودان، طوال العهد البائد؟! طبعاً التعامل مع المجتمع الدولي؛ شيء صحي، وضروري، وموضوعي، ومطلوب. نحن نعيش في عالم؛ لا يقبل العزلة والانعزال، عالم تحكمه قوانين العولمة التي لا فكاك منها، والتي توفر تربة خصبة لتجلِّي ظاهرة موضوعية وحتمية، هي ما نشهده من تفاعلات وتداخلات بين مكونات هذا العالم. لكن؛ كل تفهمنا واعترافنا هذا، لا يعني التسليم وأعيننا مغمضة بروشتات المجتمع الدولي، ويجب ألا تعمينا من رؤية الجانب السلبي لمساهمة المجتمع الدولي في المشهد السياسي في بلدنا، والذي في رأينا يتعلق بمحتوى وأهداف هذه المساهمة، من حيث إمكانية ضعف المحتوى وخلله، ومن حيث الأهداف التي تُعلي من مصالح المجتمع الدولي على حساب مصالح بلدنا وشعبنا. يعني باختصار كده نحن، لا ننادي بدس المحافير عن من يود مساعدتنا على الحفر، ولا يمكن أن نرفض مساهمات المجتمع الدولي لحل أزماتنا، ولكن كل ما نود قوله هو.. أولاً؛ لا يمكن حل قضية شعب من خارجه، وثانياً؛ أن السياسي الذي يظل فاغراً فاهه منتظراً مساهمات الخارج دون أن تكون لمساهماته هو، كداخل، القدح المعلى، أو دون أن يأخذ حذره من مساهمات الخارج هذه حتى لا تأتي على حساب مصالح شعبنا هو سياسي فاشل. * برأيك؛ هل فشل الإنقاذ كان سياسياً أم أخلاقياً.. وهل للأحزاب التقليدية دور في هذا التردي السياسي طوال ذلك العهد؟! الاثنان؛ سياسياً وأخلاقياً. وأعتقد كل الأحزاب وليست التقليدية وحدها لها دور سالب بدأ منذ أول وهلة، عندما أساءت التقدير حول انقلاب 30 يونيو، وإمكانياته وقوته، وكانت تُكرر أنه لن يستمر سوى أيام معدودة، دون أن تقرن القول بالفعل، وتواجه الانقلاب، حتى استمر 30 عاماً. ثم لاحقاً عندما مكنت الأحزاب النظام من اختراقها وشرذمتها وإضعافها. الديمقراطي