نحو سودان أخضر .. مستقر ومزدهر 14 – 15 د. عيسى محمد عبد اللطيف (14) مشروع استراتيجي لتغيير الفكر السياسي والإداري في السودان دخل العالم حقبة جديدة بعد انتشار جائحة الكورونا التي كشفت هشاشة النظام الإقتصادي العالمي بسبب هيمنة الرأسمالية الطفيلية على عالم المال والأعمال. وعليه تتم الآن مراجعات فكرية وعلمية لهذا النظام على مستوى الدول وعلى المستوى الدولي. ومن المؤكد أن عالم ما بعد الكورونا لن يسير على النمط الذي ساد قبلها. أما في السودان فاننا أكثر حوجة ليس فقط لتغيير النظام الاقتصادي، واما لتغيير الفكر السياسي والإداري تجاه احتياجات المجتمع الأساسية من أمن وصحة وتعليم وتنمية، إضافةً إلى أولويات التخطيط وأولويات تخصيص التمويل الحكومي. وهذا ينطبق على كل المجالات تقريباً وأهمها التخطيط العمراني وتخطيط المشاريع الزراعية والصناعية والسياحية بحيث تراعى فيها الاستدامة التي تعني الكفاءة الإقتصادية والعدالة الإجتماعية وشمولها والمحافظة على رأس المال الطبيعي الذي يعتمد عليه الإنتاج. المحور الثاني: مفهوم الحكم ووظيفة الحكومة نود هنا التركيز على مفهوم الدولة والحكم وما هو الغرض من الحكومة ؟ والأصل في الحكم هو التركيز على الوطن والمواطن أولاً. والصورة الحالية مقلوبة، إذ أن المواطن في خدمة الحكومة وليس العكس، فهو يدفع الرسوم والضرائب ويؤدي الخدمة الوطنية ولكنه لا يتلقى مقابل ذلك أي خدمات تستوفي العقد الإجتماعي الذي أدى على أساسه الطاقم الحكومي القسم. وذلك بسبب أن مفهوم الحكم عند اصحاب النفوذ السياسي من مدنيين وعسكريين هو *}قسمة السلطة والثروة بين أصحاب النفوذ{* وليس }*خدمة المواطن وتنمية الوطن*{. والدليل على ذلك أن الصراع على السلطة دائماً يحتدم في المركز ويُبرز الوجه القبيح في المحاصصات التي لا تهتم بالكفاءات، بل تلقي بهم خارج الساحة السياسية وأكثرهم خارج الدولة لأنهم لا يجدون فرصة لتطبيق ما تعلموه وخبروه. ومن الواضح أن النفوذ السياسي الآن محصور في ثلاث فئات تشكل مثلث الداء هي: أولاً: السياسيين المنتمين للأحزاب التي تقدم أجندتها الآيديلوجية أو الشخصية على الأجندة الوطنية. وفي اعتقادي أن هذه الفئة تشمل كل الأحزاب الحالية بلا استثناء. وكثير من الأحزاب هي شظايا احزاب كبيرة انقسمت لبناء امبراطوريات تطالب بنصيبها أو نصيب رئيسها في السلطة والثروة مهما كانت صغيرة ولا هدف لها غير ذلك. ثانياً: النُخب العسكرية التي تعتقد أن من استطاع إدارة حرب يستطيع إدارة بلد، وأنهم الأولى بالحكم لأن البندقية ( القوة الباطشة) في يدهم. وهذا الفكر تعمّق منذ ستينات القرن الماضي لدرجة أن نسبة كبيرة جداً منهم يعتقدون أن الحكم حق كفله المولى عز وجل لهم. ولكن الشاهد أن الحكم العسكري لم ينجح في بناء أي بلد في العصر الحديث، وكل الدول العربية والافريقية التي ظلت حكوماتها عسكرية هي الآن ضمن قائمة الدول الفاشلة. ثالثاً: الإعلام الحربائي الذي ظل يتلون مع السلطة وتخصص في إلهاء المواطن بالإثارة المتمثلة في التركيز على أحداث العنف والجريمة والرياضة الأحادية والفن الغنائي فقط، بينما البرامج والمواد التي تساهم في رتق النسيج الاجتماعي وترقية المجتمع، مثل التوعية الصحية والبيئية وتعزيز القيم والخلق القويم والسلوك الايجابي، لا تجد الإهتمام اللازم و لاتشكل أي نسبة تذكر من المساحة الاعلامية المرئية ولا المسموعة ولا المكتوبة. بمعنى آخر الاعلام السوداني في أغلبه أداة هدم، خاصةً بعد زخم الوسائط الالكترونية التي زادت الطين بلة. إن فكرة قسمة السلطة والثروة أيضاً تتجلى في الفكر الإداري حيث نجد في كل مؤسسات الدولة، سواء كانت خدمة مدنية أوصحية أو تعليمية أو عدلية، أن هناك امبراطورية متمثلة في رئاسة المؤسسة تحوز على النسبة الأكبر من موارد المؤسسة المادية وأفضل الكوادر الإدارية. ولو دخلنا أي مؤسسة وقمنا باحصاء عدد وجودة العربات وأجهزة الطباعة والتصوير وعدد الموظفين النشطين وخدمات الضيافة وغيرها في مكتب مدير أو رئيس المؤسسة. ثم بعد ذلك أخذنا جولة على الأقسام التي تؤدي العمل الحقيقي لتحقيق أهداف المؤسسة، لوجدنا الأخيرة تفتقر الى أبسط الإمكانيات وكأنما المؤسسة وُجدت لتخدم مكتب المدير وليس العكس. هذه الصورة المقلوبة سائدة حتى في أعرق الجامعات ومراكز البحوث. وقد كنت استاذاً بكلية العلوم جامعة الخرطوم التي يعتمد التعليم فيها على العمل الميداني ولا تجد من المركبات ما يعينها على ذلك بكفاءة بينما كان بمكتب المدير عدد من المركبات الممتازة لا يتناسب مع حجم العمل الذي يؤديه. هذه الصورة المقلوبة في الفكر الإداري لا يمكن تعديلها إلا إذا قمنا بتحويل التركيز من رئاسة المؤسسة إلى الأقسام التي تؤدي العمل وتشكل قاعدة الهرم، وذلك عن طريق اصدار قوانين ولوائح تحدد سلطات وصلاحيات الإدارة العليا والامكانيات المتاحة لها كنسبة من امكانيات المؤسسة، مع ضرورة تقييم الأداء والمساءلة الدورية بناءً على الإنجاز. ويجب أن يكون رضاء المواطن عن الخدمة التي تقدم له هو المحك. ومن الصور المقلوبة طبعاً احساس المواطن بانه يستجدي الموظف لأداء واجبه، واحساس الموظف بأنه هو رئيس لهذا المواطن. أما الصورة المقلوبة في الفكر السياسي فلا يمكن تعديلها إلا إذا قمنا بتحويل التركيز من المركز إلى الأطراف وتحقيق التنمية الريفية المستدامة، اعتماداً على العمل البلدي لأنه يخدم المواطن مباشرة. إذ لا يمكن بناء السودان من المركز مع كل هذه النخب المُتكالبة على السلطة ومُصرّة على المحاصصات في تقسيم الوظائف. وهذا يتطلب تفصيل هيكل الحكم المحلي على احتياجات وبيئة المجتمع المحلي وبناء هيكل الحكم الولائي لدعم وتسهيل مهام الحكم المحلي لتحقيق التنمية المستدامة من القاعدة إلى أعلى، بحيث تتولى الحكومة المحلية وضع البرامج وتنفيذ الخطط والرقابة والتقويم وفق رؤية وطنية وخطة استراتيجية شاملة لكل البلاد تراعي التنوع والتوزيع الجغرافي للموارد الطبيعية والقدرات البشرية لكل إقليم. وهذا بدوره يتطلب إعداد تشريعات وهيكل تنظيمي ووظيفي جديد للحكم المحلي يلبي تطلعات ثورة ديسمبر المجيدة في المشاركة الشعبية ويرسي دعائم الحكم المدني الديمقراطي ويحقق التنمية المستدامة. وقد تمت مناقشة تطوير الحكم المحلي في ورشة العمل التي نظمتها مبادرة الباحثين السودانيين حول "مبادرة اعادة هيكلة المحليات وتأهيلها للقيام بالعمل البلدي" التي تبنتها وتعكف على دفع الحكومة لتنفيذها منظمة Sudan NextGen. وهذا هو الرابط أدناه: https://www.facebook.com/Anwarking/videos/10164773448570252 ولنا عودة لمحاور أخرى من المشروع الاستراتيجي لتغيير الفكر السياسي والإداري باذن الله. نسأل الله تعالى أن يخرج بلدنا الطيب من عنق الزجاجة إلى بر الأمن والأمان والإستقرار والرخاء في سودان أخضر، مستقر ومزدهر. مستشار العناية بالبيئة واستدامة التنمية [email protected] 12 فبراير 2021