يبدو أن الصراع مع إثيوبيا يسير في اتجاه آخر يعيد التاريخ إلى سنوات مضت اسدلت خلالها الستائر السوداء بين الدولتين، وذلك حين قدّمت إثيوبيا الدعم للراحل جون قرنق ليشعل الحرب في الجنوب قبل أن تنتهي العلاقات بقطيعة في عهد الرئيس الاثيوبي منقستو هيلا مريام لم تهدأ بعدها الا في الثمانينيات من القرن الماضي. إثيوبيا وعقب هذه السنوات، تعيد التاريخ مجدداً، من خلال تقديم دعم لوجستي، لقوات نائب رئيس الحركة الشعبية قطاع الشمال قيادة الحلو، جوزيف توكا بالنيل الأزرق لاحتلال مدينة الكرمك بإسناد مدفعي منها، وبتقديم أسلحة وذخائر ومعدات قتال كما اتهمت الحكومة إثيوبيا، في وقت كشفت فيه عن دخول المعدات منطقة يابوس بتاريخ 27 فبراير 2021، وكان في استقبال الدعم القائد جوزيف توكا وبعض قادة قواته. الحكومة أشارت خلال اتهامها إلى أن الحكومة الإثيوبية تهدف لاستخدام القائد جوزيف توكا لاحتلال مدينة الكرمك بغرض تشتيت جهود الجيش السوداني على الجبهة الشرقية، فهل تنجح المساعي الإثيوبية؟ وهل تفلح مليشيات توكا في زعزعة الحكومة؟ كيف ستمضي العلاقات بين البلدين عقب تبادل الاتهامات؟ والى اي مدى يمكن أن يؤثر هذا الاتهام في إكمال العملية السلمية، سيما أن توكا يعد نائب رئيس الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو؟ لماذا الدعم؟ ظل السودان ومنذ استعادة أراضيه الحدودية مع إثيوبيا، والسيطرة عليها، يعلن ويردد على الدوام، عدم خوضه حرباً، لكن إثيوبيا في مقابل ذلك ترى بأن السودان باغتها، حين استرد أراضيه المحتلة من قبلها أثناء انشغالها بالحرب في إقليم تقراي، وتسعى الان لرد الضربة إليه عبر زعزعته وتشتيت جهوده بدعم مليشيات لاحتلال مدينة الكرمك المتاخمة لها، وهي ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها هذا الأسلوب. أيضاً من الأسباب التي دفعت إثيوبيا لدعم مليشيات توكا، هو التقارب السوداني المصري مؤخراً، في ظل توتر العلاقات بسبب سد النهضة، فضلاً عن اعتقادها بأن السودان يعمل بايعاز من مصر. وفي اتجاه آخر يرى البعض أن جهة ثالثة تقف وراء هذا الدعم والامداد، لم تستبن بعد، لديها أغراض في إشعال الصراع بين الدول الثلاث، بينما يرى البعض الآخر أن أهداف وغايات، أخرى تستهدف عدم إكمال العملية السلمية، كانت السبب في دعم إثيوبيا لجوزيف توكا لاحتلال الكرمك، الذي يعتبر نائب رئيس الحركة الشعبية قطاع الشمال، عبد العزيز الحلو، في وقت تستعد فيه الحكومة لاستئناف التفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، وقد التقى البرهان خلال زيارته مؤخراً لجوبا بالحلو في المطار. وفيما يقلل البعض من نفوذ توكا وقدرته على زعزعة الجيش، يرى المحلل السياسي نصر الدين أبوبكر، أن نفوذ توكا على الأرض كبير. لكن يذهب أبوبكر في حديثه ل(الانتباهة)، إلى وجود عملية تمويه أكبر يخطط لها في الخفاء من آخرين، تظهر معالمها قريباً، وأوضح أن الغاية هي تمزيق السودان إلى دويلات خاصة في ظل الحكومة الانتقالية. إمكانية نجاح الخطوة في ظل الدعم الإثيوبي للمليشيات السودانية، تدخل العلاقة بين البلدين حيزاً آخر، يذهب إلى مربع الحرب والقطيعة بينهما، بعد أن اتسمت بالسلام لسنوات عدة، كان آخرها وساطة رئيس الوزراء ابي احمد لرأب الصدع بين العسكر والمدنيين، والتي كانت تنتظر فيه بالمقابل إثيوبيا أن يرد السودان الجميل لها، بطريقة أخرى وليس باسترداد أراضيه. وتعد خطوة إثيوبيا في نظر البعض هي محاولة قد تخطئ وربما تصيب، كما أنها أشبه بفرفرة المذبوح، سيما أن إثيوبيا تتباكى على أراضيها، رغم اعترافها بالحدود بينها وبين السودان، لكن وبحسب الخبير العسكري اللواء الهادي عبد الباسط فإنه من الممكن أن تشتت المليشيات المدعومة جهود الجيش السوداني. وقال عبد الباسط ل(الانتباهة) إن الجيش السوداني على قدر كبير من التيقظ ويعلم جيداً ما يحاك حوله، واضاف: اي شرارة تحدث سوف تكون وبالاً على إثيوبيا، وهي تعلم ذلك ولذلك أرادت تشتيت جهود الجيش عنها، لانها لن تستطيع أن تخوض حرباً مع السودان وهي تعاني وضعاً داخلياً معقداً. وأوضح أن احتلال المدن الطرفية بسبب عدم وجود وحدات دفاعية كافية، وأن كل السقوط الذي حدث في الكرمك كان سببه ذلك. مخطط ماسوني ويتقلد الفريق جوزيف توكا، منصب نائب رئيس الحركة الشعبية شمال، ويعتبر قائداً ذا شكيمة وله نشاط كبير وواسع، ويعتمد عليه الحلو في عملياته. وبحسب مصادر تحدثت للصحيفة أن الاسناد الدفاعي المقدم لتوكا، سيعيق استمرار عملية السلام، لان جوزيف لم ينشق عن الحلو، ويعد ذراعاً له. ووفقاً للمحلل السياسي الدكتور ادريس تيراب، فإن هناك أجندة سياسية تنفذ على مستوى عال حتى لا يعيش السودان سلاماً. وأكد تيراب في حديثه ل(الانتباهة) أن كل المطلوب هو إحداث قتل واقتتال، منوهاً إلى أن السودان بحاجة لبناء قوى استراتيجية، مشيراً إلى وجود صراع سياسي الغرض منه القضاء على الدولة السودانية. واتهم تيراب جزءاً من أفراد الحكومة الانتقالية بالضلوع في تنفيذ اجندات خارجية تهدف إلى تقسيم السودان، وقال: الهدف الان هو القتل، وعندما شعروا بوجود تناغم بين العساكر والمدنيين، يريدون تحويل هذا التناغم الي تناقض، وتابع: نحن الآن بحاجة إلى تضافر الشعب السوداني لحماية بلده. إعادة التاريخ وتعد الكرمك مدينة حافلة بالمعارك العسكرية، فوفقاً لتاريخها وسيرتها المبذولة، على مر الحقب والأزمنة، ففي الحروب الاستعمارية التي وقعت بين القوى الغربية الكبيرة وبالتحديد بين إيطاليا وبريطانيا تم احتلال الكرمك من قبل القوات الإيطالية في شرق أفريقيا الإيطالية وذلك في اطار المرحلة الأولى من حملة شرق أفريقيا. وباندلاع الحرب الأهلية الثانية كانت الكرمك مسرحاً للقتال طوال 22 عاماً بين القوات السودانية، وقوات الحركة الشعبية بزعامة جون قرنق. ففي عام 1987 م، دخلتها قوات الجيش الشعبي بقيادة سلفاكير ( الرئيس الحالي لجنوب السودان) ومشاركة عبد العزيز الحلو، قائد قوات الجبهة الثورية السودانية، الحالية المعارضة للحكم في السودان. وفي عام 1988م، استعادتها القوات المسلحة السودانية إبان حكومة الصادق المهدي بعملية اطلق عليها عملية وثبة الأسود، ثم عاد الجيش الشعبي لاحتلالها مرة أخرى في عام 1997 م، بقيادة مجاك أكود، لتستردها منه القوات المسلحة السودانية. وبحسب مدونة للجيش السوداني، فقد تم احتلال الكرمك، في العام 1988، عندما كان يتم التحضير، لوداع العميد محمد العباس الامين قائد اللواء السابق وتسليم، القيادة للعميد عامر الزاكي، وردت إشارة من قيادة حامية الكرمك، بان الكرمك تتعرض لقصف مركز من داخل الأراضي، الاثيوبية من منطقة، بعيدة داخل العمق الإثيوبي. وعلى الرغم من أن الجميع لم يكترث للأمر، لاعتبارات أن المنطقة تعتبر من احصن الحاميات، فضلاً عن ان بها أكبر الترسانات الحربية، لكن ازداد القصف في اليوم التالي، وتطور الموقف، لان المتمردين كانو يستخدمون الراجمات والصواريخ، التي كانت قوتها التدميرية، هائلة، فصدرت الأوامر بالانسحاب في آخر لحظة بعد أن توغل الخوارج داخل الحامية. عقب ذلك صدرت تعليمات من القيادة العامة للقوة المنسحبة بالارتكاز، في منطقة دندرو، جنوب الدمازين على بعد حوالى ثلاثين كيلو متراً، في وقت بدأت فيه قيادة الجيش الشعبي بث الحرب النفسية وسط المواطنين، بالدمازين، للحد الذي دفع بعضهم بإعداد مستلزماته استعداداً لمغادرة المدينة. في تلك الأثناء، كانت هنالك قوة صغيرة بقيادة النقيب، وقتها، الطيب المصباح، قامت بدخول، الأراضي الإثيوبية ثم عادت إلى الأراضي السودانية، وانسحبت إلى منطقة، شالي غرب الكرمك في اتجاه أعالي النيل، فيما اتجه المتمردون، إلى قيسان مستغلين قوة الدفع التي، حصلوا عليها، باحتلال الكرمك فاسقطوا قيسان ثم اتجهوا إلى شالي، بغية اسقاطها. كانت حينها القوة المنسحبة قد انضمت إلى قوة شالي، التي، كانت تتواجد فيها قوة من المشميكا ( المشاة الميكانيكية ) بمدرعات ام 113 الأمريكية، ثم نصب المتمردون مدافعهم وبدأوا في قصف شالي بالهاونات 120، ولكن قوة من شالي، بقيادة الملازم عماد حيدر، قامت بالهجوم على مدفعيات المتمردين وباغتتهم فولوا هاربين تاركين مدفعيتهم، وبث ذلك الطمأنينة في نفوس الجميع. وعقب التوقيع على اتفاقية نيفاشا للسلام في عام 2005 ، شهدت الكرمك فترة من الهدوء لكنه لم يدم طويلاً عندما دخلتها قوات مالك عقار حاكم ولاية النيل الأزرق آنذاك والقيادي بالحركة الشعبية قطاع الشمال، لكن سرعان من استردها الجيش السوداني .