الناس قليل في عاصمة السودان الجديد.. هل خرج شعب الله الاستوائي للبراح استعدادا لموسم المطر، أم أنهم يعيشون في التلال داكنة الخضرة حول المدينة؟ هذا مارس الحر اللهيب، شهرٌ يُسعِّره الرُعاة والمزارعون بمزيد من الحرائق لتنقيح الأرض من العُشب والبقول، ومِن بقايا سيقان غلالٍ تترع فيها السماء لتسع شهور وربما أكثر، إذا عاد الزمان سخياً كما كانَ قبل التغيُّر المناخي. للمرأة حضور كبير في عاصمة السودان الجديد.. المرأةُ في جوبا غزال ينعم بحظه من الحرية.. حرية لا فصل فيها بين دين ودولة.. حريّة لا تبرُّج فيها إلا بقدر ما يحتوي ذهن المتنطِّع من نصوص قانون النظام العام.. هنا تتدثر أنثى الأبنوس بما تشاء من عفاف العُرف، وباللّاوريه، وبالتوب السوداني – التوب الواحِد ده – وبيونفورم العمل أوالحِراسة أولبوس الراهبات.. فالمرأة هي كل شيئ، هي المعلمة والفنانة وست البيت، و، و،، و (مَا بان عليك أثر العُمُر)..! تحتوي شوارع جوبا جيلاً من شباب يشبه إلى (درجة قِف) متاريس حامِد الجامِد في ميدان الاعتصام.. تقرأ في عيونهم أحزان نخبة الشمال على رحيل جون قرنق الذي هلَّ عليهم هنيهةً ثم خبا، تاركاً وراءه شعباً عملاق يتقدّمه أقزام.. لا أثر لكهول السودان القديم في دروب مدينة تتربص عند منحنياتها سيارات كثيرة، تراها مركونة فوق دقول النّيم.. جرارات ولاندروفرات وكابينات يابانية الصنع، ربما هي الأثر الباقي من تلك الحرب، أولعل اقتصاد السوق دفع بها لمعترك أحكامه الغالِبة، فأضحى الأمل فيها مضيَعة للوقت والمال.. يقولون أن سعر السيارة في الخرطوم ضِعف سعرها في مدينة جوبا التي تتفتّح الآن على أسواق الدنيا دونَ ضغوط جمركية مُرهِقة،، لكن كل هذا العتاد – مِن وجهة نظري – لا يحتاج إلا للميكانيكي الشاطر. أكثر الأوتومبيلات الراكضة هي الموترسايكل. الشوارع ضيِّقة تتماوج على أتربة التِلال، تفصل بين فرجاتها جُدر الأسمنت الذي يتعالي فوق حصائر القنا وألواح الزِنك وقطاطي مُطلَقة السراح تتقافز عليها السحالي وأجناساً من هشيمٍ بعضه معروف، وبعضه الآخر يشتهيه هفيف اللّحظة العابِرة. في صيف هذا المدار، تتكوّر ثمار المانقو فوق الاغصان.. لا يخلو مربوع في هذه الجنّة من شجرة الخُلد، أما المُلك، فإنه يبلى بِطباع الليالي المُثخنات بالصِراع. تسأل عن كجور البلد، فيمدون لك أياديهم نحو جبل طويل المدى يرقد في الجانب الغربي من السهل: داكْ جبل كُجور! ولكن أين جبل الرجاف، أم أنّه لا يُرى؟ ذاك جبل يعود بذاكرة السودانيْن إلى حقبة الجهادية، عندما كان خليفة المهدي يرسل بعض مساجينه إلى سفحه كي تأكلهم الضواري، لكنه – يرحمه الله – رغم بعد المسافة ووعثاء السفر، لم يقطع رحم العَشم. في قلب عاصمة الانفصال قدم لنا سلطان مساليت دعوة على العشاء… لو اعتمدنا – نحن السودانيونَ من أرضٍ وماء – لو اعتمدنا تصنيفنا النمطي لبعضنا البعض، فإن قبيلة المساليت هم عرب الشمال الصحراوي، فمن أين لهم بمشيخة في هذه المناطق المُحررة من حركات المندكرو؟؟ نقلاً عن المواكب