لا تكاد حدود السودان تهدأ حتى تشتعل مرة أخرى. فعلى مدار العقود والسنوات، شهدت البلاد نزاعات بشأن حدودها مع أكثر جيرانها. ففي الشمال، تتوتر العلاقات مع مصر من الحين للآخر بشأن مناطق مثل مثلث حلايب وشلاتين، وفي الجنوب عانت البلاد طويلًا إلى أن انقسمت وظهرت دولة جنوب السودان. وفي الشرق، يعود النزاع على الحدود مع إثيوبيا إلى أكثر من 120 عامًا، عندما أتمت بريطانيا احتلالها للسودان، وبدأت في ترسيم حدوده مع جيرانها. في ذلك الوقت، وكما في كل وقت، كانت الموازنات السياسية تحكم البريطانيين، الذين يمكن القول إنهم صاغوا الاتفاقات بغموض يسمح بتأويلها من الأطراف المختلفة، كلٌ على هواه. لكن الخلاف الذي كان خافتًا خلال أكثر السنوات الماضية، عاد ليظهر بعنف هذه المرة. فقد شهدت المنطقة المتنازع عليها، والتي تسمى "الفشقة"، ويقطنها مئات المزارعين الإثيوبيين رغم أنها تقع داخل أرض السودان، أكثر من احتكاك ومناوشة بين الجيش السوداني وقوات إثيوبية، غالبًا ما تكون تابعة لمليشيات قريبة من الحكومة. وفي الأسبوع الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بدأ الجيش السوداني بسط سيطرته على المناطق التي لم ينتشر فيها منذ ربع قرن تقريبًا معلنًا موقفا جديدا، ومثيرًا الجانب الإثيوبي. التحرك السوداني على الحدود أقلق أطرافًا عدة، وجعل الكثيرين متأهبين لتدهور الأوضاع في القرن الأفريقي. في هذه التغطية نسلط الضوء على الجوانب المختلفة من النزاع السوداني الإثيوبي، في محاولة لاستشراف مستقبل المنطقة ومآلات الصراع. الفشقة هي المنطقة المتاخمة للحدود الإثيوبية السودانية. يحدها شمالًا نهر ستيت، وشرقًا نهر عطبرة. وتنقسم الفشقة إلى الكبرى: ويحدها نهر ستيت شمالًا وبحر باسلام جنوبًا ونهر عطبرة غربًا، والصغرى: ويحدها شمالًا بحر باسلام، وغربًا نهر عطبرة، وشرقًا الحدود مع إثيوبيا. وهي أرض شديدة الخصوبة، تخترقها العديد من الأنهار الموسمية، وتبلغ مساحتها 251 كيلومترًا مربعًا، وتقدرها مصادر أخرى ب600 كيلومتر مربع. والفشقة تحدها الأنهار من جميع جوانبها داخل السودان إلا جانب الحدود مع إثيوبيا، وهو ما يفرض عليها عزلة عن بقية الأرض السودانية خاصة خلال مواسم الفيضان. لكن الخصوبة ليست السبب الوحيد للتدخلات الإثيوبية، التي وصلت إلى حد إنشاء قرى ومدن كاملة على الأرض السودانية. إذ تعتقد العرقية الأمهرية الإثيوبية اعتقادًا راسخًا بانتماء أراضي هذه المناطق إليها تاريخيًا، ولا يرى أبناء الشعب الأمهري أن من حق أحد، سواء كان الإمبراطور منليك الثاني عام 1902 أو حتى رئيس الوزراء ميليس زيناوي عام 1996، أن يتخلى عن السيادة الإثيوبية عليها. خلال العامين الماضيين، جرت في نهر السياسة مياه كثيرة، سواء في السودان الذي شهد انتفاضة أطاحت بحكومة الرئيس عمر البشير، أو في إثيوبيا التي انتخبت قيادة جديدة عام 2018 وتشكل فيها ائتلاف حاكم لا يضم حزب جبهة تحرير شعب تيغراي، الذي كان قد عقد اتفاقات مع حكومة السودان تقضي باعتراف إثيوبيا بالسيادة السودانية على الفشقة. ورغم أن التوترات الحدودية وانتهاكات الجانب الإثيوبي لم تتوقف منذ سنوات طويلة، فإن مراقبين يرون أن المكون العسكري السوداني في الائتلاف الحاكم بعد ثورة 2019، يحتاج إلى تدعيم وزنه السياسي أمام مواطنيه، وهو ما أدى إلى اتخاذه خطوات في اتجاه السيطرة على الوضع على الحدود. جانب آخر من القلاقل يتمثل في الربط الإثيوبي بين ملف الحدود وملف سد النهضة، وهو الذي انعكس على تصاعد التوتر الحدودي مع المسارعة الإثيوبية في ملء خزان السد، ورفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق واشنطن في فبراير 2020، وهو الذي تبعه توغل سوداني في الفشقة في مارس/آذار. تطورت الأمور سريعًا، فرغم اتفاق السودان وإثيوبيا خلال جلسة محادثات عسكرية في الخرطوم في أبريل/نيسان 2020 على التنسيق المشترك لضبط الحدود، وقع اعتداء في مايو/أيار أدى لمقتل وإصابة عسكريين سودانيين، وهو ما أدى بالجيش السوداني لإصدار بيان اتهم فيه الجيش الإثيوبي صراحة بدعم الهجمات على قواته ومواطنيه. ومع اندلاع صراع داخل الأراضي الإثيوبية بين قوات الحكومة المركزية وقوات إقليم تيغراي الذي يحده السودان من الغرب، وفرار عشرات الآلاف من اللاجئين إلى داخل الأراضي السودانية، قرر الجيش السوداني انتهاز الفرصة وإعادة الانتشار في كامل منطقة الفشقة لضبط الحدود. ورغم إعلان وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين سيطرة جيش بلاده على كامل الحدود مع إثيوبيا في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، استمرت هجمات مليشيات الشيفتا بحسب ما أعلن السودان. ففي 12 يناير/كانون الثاني، قالت وزارة الخارجية السودانية في بيان، إن المليشيات هاجمت منطقة "القريشة" الحدودية مما أدى إلى مقتل 5 سيدات وطفل وفقدان سيدتين. نشأت ميليشيات الشيفتا في خمسينيات القرن الماضي كعصابات صغيرة من عرقية تُعرف باسم الولغاييت بغرض النهب، وفي منتصف التسعينيات تحولت إلى ميليشيات كبيرة ومنظمة معظمها من عرقية الأمهرا، وامتلكت أسلحة رشاشة وآلية ومدفعية، وشنت هجمات منظمة على الأراضي السودانية تمكنت خلالها من تفريغ كامل شرق نهر عطبرة من الوجود السكاني السوداني. كما أزالت قرى وطردت المواطنين والمزارعين، وفتحت المجال أمام المزارعين الإثيوبيين للاستيلاء على تلك المواقع، وتولت حمايتهم على طول حدود ولاية القضارف. وفي السنوات الأخيرة باتت تلك الميليشيات تمارس خطف المواطنين داخل الحدود السودانية مقابل فديات، كما قتلت وأعدمت العديد من المواطنين السودانيين. في معرض توضيحه لهوية ودوافع الميليشيات الإثيوبية المتنوعة وعلاقتها بالمؤسسة الأمنية الفدرالية يقول عبد المنعم أبو إدريس الباحث السوداني المتخصص بشؤون القرن الإفريقي إن التركيبة الأمنية في اثيوبيا ذات طبيعة ثنائية منسجمة مع النظام الفيدرالي الإداري المتبع في البلاد فاثيوبيا لديها الجيش الفيدرالي الخاضع للحكومة المركزية، وله هيئة أركان في أديس أبابا عاصمة البلاد، ويتكون من خمسة قطاعات تتوزع جغرافيا على كامل مساحة البلاد. أما القسم الثاني فيضم قوات تتبع لكل إقليم من أقاليم البلاد العشرة تتولى قيادتها حكومة الاقليم، وهي تتكون من شقين واحد نظامي بالكامل تعينه حكومة الإقليم ، والآخر عبارة عن ميليشيا. وعن ظروف تشكل هذه الميليشيات وتركيبتها يقول أبو إدريس إنها تكونت أيام القتال ضد الحكم العسكري لمنغستو هايلي مريام وحافظت على تكوينها بعد سقوطه في مايو/أيار 1991 ولديها استقلالية في إدارتها ، لكنها تحظي بالمقابل باعتراف الحكومة، ويجوز لها الاستعانة بها في ضبط الأمن . كما أنها يمكن أن تقوم بخدمة رجال الأعمال أو الشركات مقابل المال. ويجوز لها أيضا الاستفادة من خبرات المتقاعدين من الجيش والشرطة. ولا يقتصر استخدام الميليشيات في حملات السيطرة التي ترافقها عمليات نهب وقتل على إثيوبيا. فقد أشارت دراسة أعدتها عام 2008 الباحثة الأميركية شيري ماكفرلند إلى أن ثلاث دول في القرن الأفريقي هي إثيوبيا والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية استخدمت الميليشيات المحلية إما للسيطرة على جماعات مهمشة تنشط في الجغرافيا المحلية المترامية، أو لمواجهة مجموعات متمردة أخفقت محاولات مؤسسات الدولة الوطنية في إخضاعها. بحسب محللين ومراقبين، يبدو طرفا النزاع على استعداد لتبني تهدئة مؤقتة، والاتجاه لوقف الصراع مؤقتًا. السيناريوهات الأخرى الأكثر تشاؤمًا تتضمن الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مفتوحة بين البلدين، نتيجة تكرار المناوشات، لكن لا يبدو أن أحدًا من الأطراف يريد الوصول إلى هذه المرحلة. أما السيناريو الأكثر تفاؤلًا فيتمثل في قبول الجانب الإثيوبي بترسيم نهائي للحدود، والاتفاق على إطار يضمن الحفاظ على مصالح القبائل الأمهرية، وتقنين أوضاع المزارعين الإثيوبيين. لكن في كل الأحوال، يبدو أن السودان قد حصل على مكاسب آنية، تتمثل في حدها الأدنى في تعزيز وجوده العسكري على الحدود وفرض سيطرته على منطقة الفشقة بالكامل تقريبًا، وهو ما سيؤدي إلى تدعيم الموقف السياسي للجيش، وموقفه التفاوضي داخل البلاد مع اللاعبين السياسيين الآخرين، أو مع الطرف الإثيوبي المستنزف بالفعل جراء الصراعات الداخلية.