غادرت السودان لفترة تجاوزت العقدين، فعدت اتجول في الشوارع كالطفل الذي تاه، فظللت ابحث عن اهلي في عيون المارة، فانظر لأحدهم اجده غريباً، و همساً اقول لم يعد ذات مولاي الشعب الاسمر. ثلاثين عِجاف غيّرت كل شيئ، و طمست حتي معالم الإنسان الذي تم إستهدافه بعناية، فاصبح عبارة عن اشلاء، و حطام بلا روح. من هول المصيبة كل ما خرجت، و تجولت في الشوارع تُصيبني نوبة من الجنون، و السؤال من اين نبدأ؟ طرق منهارة تماماً، زبالة في كل مكان، تغطت الطرق بالرمال، و الركام، مناظر كئيبة لا يمكن ان تنتج حالة نفسية سليمة، و ما نعانيه من خلل نفسي إنعكس علي مجمل حياتنا. اجد نفسي عاجزاً امام السؤال من اين نبدأ بمقياس الآلات، و معدات الصيانة، و البناء، و الإمكانيات المادية. يُصيبني العجز حد الكُساح عندما انظر إلي سلوكنا العام في البيوت، و الشوارع، و الطرقات، و الحواري، و المدن، و القرى. دخلت مول للهواتف المحمولة " الموبايلات" في موقف جبرة وسط الخرطوم حيث المال، و تجارة العصر، و كل فترينة خلفها رجل تظهر عليه النعمة، و طراوة العيش، و تحت قدميه، و امام محله اكوام من الزبالة، و في الطرقات، و السلالم جبال من القمامة، اينما حطت رجلك اسراب من الذباب لسان الحال مهلاً لنا حياة تحت قدميك، و مساكن. عليك التركيز حيث تضع قدمك، و انت تتسوق، فتنقسم حواسك بين المناظر القبيحة الطاغية علي المشهد امام الفترينات، و بين ضالتك في ارفف الفترينات، و الصناديق الزجاجية الملمعة عبثاً. ما رأيته في المول مجرد مثال لكل تفاصيل حياتنا، فالمسألة ليست لها علاقة بالفقر، او العدم، إنه تدني في السلوك، و خلل في التربية. كل ما تقع رجلي في حفرة او تدوس علي كوم زبالة تحضرني معاركنا العبثية، و صراع الأيديولوجيا، و القبيلة، و اللون، و الجنس. آخر معاركنا العبثية الإنقسام حول المناهج بين الكفر، و الإيمان، فاصبح الدين هو المعيار في التمكين، و الإستهداف، و يقف الشيطان علي حدي السيف بين الفريقين. لا يمكن لمجتمع ان يسمو، و يرتقي بلا سلوك، و ادب، و تربية سليمة تبدأ بإماطة الاذى عن الطريق، و تنتهي بحب الحياة.. و من احياها كأنما احيا الناس جميعاً. الاكيد اننا فشلنا في تدريس الدين كمادة إنسانية تُعنى بالسلوك، و الحضارة، و الثقافة، و التقدم. كل الذي نعرفه عن الدين هو العبادات بعيداً عن السلوك، نتوضأ، و تحت ارجلنا القاذورات لنتطهر عبثاً للصلاة، قياماً، و ركوعاً، و السجود لينتهي عنده اداء الواجب في الحركات فقط. قال رسولنا الكريم : الدين المعاملة. الحقيقة إختزلنا الدين في المظاهر التي أصبحت معيار للتقوى، و الصلاح، فتفسخ المجتمع، و غابت الامانة، و اصبح الهلع، و الجشع قاسم مشترك بيننا، حيث تدنت القيّم، و المبادئ. ما يهمنا، و يهم المجتمع هو ان نتعلم السلوك، كيف نستطيع تطويع الإمكانيات البسيطة لخلق بيئة نظيفة تليق بآدميتنا كبشر. يجب ان تكون المرحلة الإبتدائية من حياة اطفالنا هي لتعليم السلوك، و الادب، و الاخلاق، فبدونها يمكن ان نجد طبيباً بلا ضمير، و مهندساً بلا شرف، و موظفاً مرتشي، و مواطن بلا مبادئ. في الغرب الكافر إماطة الاذى عن الطريق عبادة في محراب الإنسانية بيان بالعمل، اما نحن فقرأناها مطالعة، و نصوص في كتب السيرة، و التاريخ فكانت حياة قبل اربعة قرون كشعبة من شعب الإيمان حقاً، و صدقاً، فعليك ان تنظر في محيطك لتعرف حجم المسافة التي تفصلك عن الإيمان، و القيّم الإنسانية. رأيت من يُفرغ كيس الزبالة في قارعة الطريق ليستفيد من كيس البلاستيك الفارغ. غياب الدولة يبرره غياب الضمير في المجتمع، و تدني السلوك، و إنحطاط القيّم، و الاخلاق. ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الصور المرفقة من مول موقف جبرة وسط الخرطوم