في 17 ديسمبر 1903، نجحت أول رحلة لطائرة تعمل بالطاقة في التحليق لمسافة 120 قدماً (36.5 متراً) فوق الكثبان الرملية بالقرب من منطقة "كاتي هوك" بولاية كاليفورنيا الأميركية. وبعد مرور أكثر من 115 عاماً على ذلك التاريخ، استخدم العلماء في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا قطعة قماش من تلك الطائرة كشريط عازل حول كابل يقع أسفل اللوح الشمسي لمروحية ستكتب تاريخياً جديداً في علوم الطيران. وفي 19 أبريل الماضي، طارت المروحية "إنجينونتي-ingenuity" والتي تعني "إبداع"، لأول مرّة في التاريخ فوق الكوكب الأحمر (المريخ) لتُسجل نفسها كأول طائرة تُحلّق في أجواء غير أرضية. اختلاف جذري ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن، حلّقت الطائرة 4 مرات كاملة، كان أحدثها الجمعة الماضي، إذ بلغت رحلتها 266 متراً وهي على ارتفاع يقترب من 5 أمتار فوق سطح الكوكب الأحمر. وعلى الرغم من أن طلاب الجامعات التقنية في أنحاء العالم قادرون على تصنيع طائرات صغيرة مثل المروحية المريخية بسهولة لتطير بكفاءة شديدة على الأرض؛ إلا أن أياً من هذه الطائرات لا يمكنها الارتفاع سنتيمتراً واحداً إذا ما تم تجربتها على المريخ.. فكيف تختلف المروحية المريخية عن نظيرتها التي تطير بكفاءة في جو الأرض وتحت سمائها؟ يختلف المريخ بشكل جذري عن كوكب الأرض، فعلى الرغم من أنه كان يوماً ما يملك غلافاً جوياً سميكاً بما يكفي لسريان المياه على السطح، إلّا أنه اليوم رقيق للغاية، أقل بحوالي 100 مرة من سُمك الغلاف الجوي للأرض. كما أن الغلاف الجوي المريخي يتكون من تركيبة غازية مختلفة يُسيطر عليها ثاني أكسيد الكربون بنسبة 95%، وهو ما يعني اختلاف ظروف الطيران تماماً وجذرياً عن الأرض. ويعتمد الطيران على توليد قوة رفع LIFT (force) عن طريق إحداث فرق الضغوط بين أسفل الجناح (أو المروحة) وأعلاه. وفي حالة المريخ، يصعب توليد تلك القوة بسبب الكثافة المنخفضة للغاية لغلاف المريخ الجوي، إلّا أن تلك الصعوبة – ولحسن الحظ – تقابلها جاذبية المريخ المنخفضة التي تبلغ نحو ثلث جاذبية الأرض. وطبقاً لتلك المعطيات، فإن كل طيران لارتفاع متر واحد على سطح المريخ يُقابله على الأرض نحو 27 ألف متر، وهو ارتفاع لم تتمكن المروحيات الحالية من بلوغه على الإطلاق. كما أن سرعة دوران مروحة "الهليكوبتر المريخية" يجب أن تبلغ نحو 2400 دورة في الدقيقة الواحدة، أي حوالي 5 أضعاف أسرع شفرة مروحية على سطح الأرض. التوّصل إلى حل.. كيف؟ قام المُصممون بالعودة إلى التاريخ، وتحديداً عام 1754، وهو الوقت الذي قدم فيه العالم الروسي "ميخائيل لومونوسوف" أول تصميم في التاريخ لطائرة هليكوبتر ذات نموذج ل"دوّارات متحدة". والدوّارات المتحدة أو المحورية هي زوج من الشفرات المثبتة واحدة فوق أخرى على أعمدة متحدة المركز، وتقوم تلك الشفرات (المروحيات) بالدوران في اتجاهين متعاكسين، لكن، مع محور الدوران نفسه. وقام مصممو المروحية المريخية باستخدام هذا المبدأ العلمي لعمل دوّارات متحدة المحور ذات دوران معاكس يبلغ قطرها حوالي 1.2 متر. أما على كوكب الأرض، تُصنّع شفرات مروحة الهليكوبتر من الصلب. في الماضي، حاول العلماء صناعة تلك الشفرات من الألومنيوم أو حتى أخشاب الماهوجني، إلا أن الصلب أثبت كفاءة عالية وتحملاً للضغوط واستدامة كبيرة، إلّا أن من ضمن عيوبه ثقل الوزن، وهو ما يجعله يستهلك الكثير من الطاقة للدوران في السرعات العالية. مشكلة الوزن لم تكن هذه المشكلة الوحيدة التي واجهت فريق تصميم المروحية المريخية، إذ واجههم كذلك مشكلة متعلقة بمصدر الطاقة لتشغيل المروحية، والذي لم يكن يخرج عن الطاقة الشمسية، لعدم وجود طريقة أخرى لتزويد الطائرة بالوقود، وكان التحدي في أن الطاقة المولدة عن طريقه تكفي بالكاد لطيران مركبات خفيفة الوزن. لذا، درس العلماء مادة مجموعة من المواد خفيفة الوزن، القادرة على تحمّل العمل في بيئة المريخ المتقلبة بين البرودة الشديدة والحرارة المرتفعة، والاهتزاز أثناء الإقلاع، وأيضاً قوة التسارع الناجم عن دوران الشفرات، وانخفاض معاملات التمدد الحراري. وجد العلماء ضالتهم في المواد الكربونية ذات الصلابة العالية، والتي تتميز بخفتها مقارنة بحجمها، لدرجة جعلت وزن الطائرة بالكامل لا يتعدى 1.8 كيلوغرام. لكن، ماذا عن الثبات أثناء الطيران؟ تبلغ سرعة الرياح المتوسطة في كوكب المريخ نحو 22 كيلومتراً في الساعة الواحدة، وهي سرعة تجعل تحليق المركبات المصنوعة خفيفة الوزن غير مستقر، لذا قام العلماء بإعادة الحسابات من جديد. استثمار لم يذهب هباءً في عام 2014، نشر مختبر الدفع النفاث تصميماً نظرياً للطائرة، ثم طلب 15 مليون دولار أميركي لتطوير ذلك التصميم. واستقر رأي المُصممين على ضرورة الحفاظ على طيران منخفض ل"إبداع" في حدود 5 أمتار فوق تربة المريخ، مكنّهم ذلك من تقليل سرعة دوران المروحة لما دون 2500 دورة في الدقيقة، بهدف تقليل الاهتزازات الناجمة عن الدوران، وهو الأمر الذي ساهم بدوره في زيادة استقرار الطائرة. بحلول عام 2019، كانت وكالة ناسا قد استثمرت نحو 85 مليون دولار في المركبة المريخية، إلّا أن تلك الاستثمارات لم تذهب هباء. ففي 19 إبريل الماضي، حلّقت الطائرة في تمام الساعة 7:34 بالتوقيت العالمي، لمدة 39.1 ثانية، على ارتفاع 3 أمتار كاملة، لتثبت قدرتها على التحليق والثبات في الجو. وبعد ثلاثة أيام، تحركت الطائرة مسافة تقدر ب4.3 متر في الاتجاه الأفقي، على ارتفاع 4.9 متر من سطح المريخ، لتثبت في تلك المرحلة قدرتها على التحرك بشكل أفقي. وبعد مرور نحو 6 أيام، ولمدة 80 ثانية كاملة؛ تمكنت الهليكوبتر المريخية التي تمدها خلايا شمسية بالطاقة اللازمة للطيران، من التحليق على ارتفاع 5.2 متر ولمسافة أفقية تُقدر ب100 متر، زادت لتصل إلى 266 متراً في التجربة التي تمت في 30 أبريل واستمرت لنحو 117 ثانية.