وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحلام باريس والعودة للواقع المرير
نشر في الراكوبة يوم 25 - 05 - 2021

عادت الوفود من مؤتمر باريس لتواجه الواقع الحقيقي بكل قتامته وسوءاته في أرقام لا يمكن انكارها أو التحايل عليها أو زخرفتها وتلوينها وتحويلها إلى ورود زاهية ونغمات موسيقية حالمة أو أكاليل من الندي لتحجب الأشواك التي تُطَوِّق حياة الناس اليومية وتحاصرها من كل الاتجاهات، أو تُخفي حقيقتها المُرَة من خلال نماذج رياضية وعروض تقديمية مبهرة لا تتجاوز شاشات الحواسيب الالكترونية لتعكس صورة زائفة عن مناخ الاستثمار في السودان وتدفع بمعديها لتصديق هذا الوهم المصنوع بأيديهم وتحلق بمشاهديها في عالم من الخيال والحلم. عادت الوفود لتجد عجز الميزان التجاري كما هو في حدود 5 مليار دولار، وأن الكتلة النقدية خارج القطاع المصرفي لا زالت تمثل 94%، وأن سعر الدولار في السوق الموازي وقد وصل إلى ما يزيد عن 430 جنيه، ومعدل التضخم وقد قفز من 341.78% في نهاية مارس 2021م إلى 263.14% في نهاية إبريل 2021م (العربية نت 18/05/2021م) وقد انعكس ذلك تلقائيا على جميع أسعار السلع عنوة واقتدارا دون أي حاجة لحواسيب أو نماذج رياضية أو عروض تقديمية. فعلي جبهة أسعار الأدوية المنقذة للحياة على سبيل المثال فقد صعد سعر الإنسولين من 150 إلى 720 جنيه، وبخاخ الفانتولين من 150 إلى 660 جنيه، أموكلان من 800 إلى 2500 جنيه، البلافيكس من 800 إلى 3500 جنيه، جرعة غسيل الكلي من 7000 إلى 22000 جنيه، والدِرِب من 84 إلى 280 جنيه (بيان الصيادلة، 15 مايو 2021م). أما أسعار السلع الغذائية حدِّث ولا حرج، فقد قفز سعر جوال السكر 5 كيلو من 1300 إلى 1500 جنيه، وعبوة الزيت 1 لتر من 700 الى 800 جنية، والعدس والارز إلى 420 جنيه للكيلو، وصابون البودرة سعة 2 كيلو الى 1100 جنيه، وصابونة الغسيل 120 جنيها، ورطل الشاي إلى 1000 جنيه وكيلو الجبنة البيضاء 1500 جنيه، وعلبة الصلصة 400 جنيه، ودستة البيض 600 جنيه. وقفز سعر كيلو العجالى إلى 2000 جنيه والضأن 2300 جنيه والسجق 2500 جنيه، وكيلو اللحمة المفرومة إلى 3 ألف جنيه، وكيلو الدجاج إلى 1300 جنيه. وبلغ سعر كيلو الطماطم 500 جنيه والبطاطس 400 جنيه والبامية 500 جنية والباذنجان 300 جنيه والفلفلية 400 جنيه ودستة البرتقال 1500 جنيه والموز 300 جنيه ودستة المانجو 2000 جنيه (الراكوبة، 19 مايو 2021م). أما المواد البترولية، المواصلات داخل المدن وبين الأقاليم، غاز الطبخ، الكهرباء والماء، الاتصالات، الملابس وإيجارات المساكن ... إلخ فقد زادت بمعدل 6.2% شهريا أي حوالي 0.62% خلال ثلاثة أيام فقط هي فترة مغادرة وعودة وفود مؤتمر باريس، وعادت صفوف الوقود لسيرتها المعتادة. وقد عادت الوفود أيضا من باريس مدينة الفن والجمال إلى الخرطوم عاصمة النفايات بلا منازع حيث تتوسط جبالها شوارع الخرطوم، أزقتها، وأسواقها وتحيط بها من كل جانب ليتنسموا روائح دخان حرائقها في كل مكان وتغطي أدخنتها المتصاعدة سمائها ليلا ونهارا لتشكل سحبا من دخان ملوث تُطِلُ عليهم عبر نوافذ طائرة العودة من مطار شارل ديغول إلى الواقع الحقيقي المؤسف بعد حلم جميل في غفوة عابرة.
ما يميز الاقتصاد عن غيره من العلوم أنه مرتبط ارتباط عضوي يومي بحياة الناس يتأثر بها ويؤثر فيها، وأنه يتعامل بالأرقام ويعبِّر عن نفسه بها ولا يفرق في ذلك بين اشتراكية أو رأسمالية، براغماتية نفعية تقدم المصالح على أي شيء أخلاقي أو إنساني أو دوغمائية متعصبة لفكرة واحدة دون غيرها. ولذلك مهما بلغت درجة الدعاية والضجيج الإعلامي لأي سياسة اقتصادية معينة فإنها تعبِّر عن نفسها في نهاية الأمر بأرقام لا يمكن انكارها وأن أي محاولة لتزييفها أو تبريرها تكشفها الأرقام على أرض الواقع وتصدقها حياة الناس اليومية. فالمستوي المعيشي لحياة الناس ومعاناتهم اليومية هو المقياس الحقيقي للسياسة الاقتصادية. وأن أي سياسة اقتصادية لا تنعكس علي حياة الناس فورا وعاجلا فهي سياسة خاطئة وعلى عرابيها تحسس خطواتهم ومراجعة أنفسهم وضمائرهم ألف مرة.
في أول تصريح له عقب تعيينه لحظة وصوله من إثيوبيا أعلن السيد رئيس الوزراء في مطار الخرطوم تبنيه للبراغماتية. والبراغماتية في اللغة والاصطلاح تعني النفعية، أو تغليب المصلحة الخاصة على أي شيء أخلاقي أو إنساني. وعندما يقال إن هذا الشخص براغماتي فهذا يعني ببساطة أنه إنسان نفعي أو (مصلحجي) باللغة الدارجة. والبراغماتية وفقا لهذا الفهم في العلاقات الدولية تعني العلاقات القائمة على المصلحة المتبادلة التي تستبعد أي معايير أخلاقية أو قيم أخري تتعارض مع هذه المصلحة، وبالتالي لا مانع للسيد رئيس الوزراء (على سبيل المثال) من التطبيع مع إسرائيل طالما أن هنالك مصالح مادية مشتركة بغض النظر عن جانب التاريخ والانتماء والمواقف المبدئية من قضايا العنصرية والاحتلال واغتصاب الأرض وانتهاك العِرض وارتكاب جرائم الحرب والتطهير العرقي وانتهاك حقوق الإنسان.
وإذا كانت قوي الهبوط الناعم والمكون العسكري بمختلف أقسامه الأمنية والشرطية والمليشية وحركات جوبا وطفيلية المؤتمر الوطني وحلفائهم المتحكمين في مفاصل الاقتصاد اليوم، وبقايا وفلول النظام البائد في الخدمة المدنية والقطاع المالي والمصرفي قد وجدوا ضالتهم في براغماتية السيد رئيس الوزراء ولفظوا جميعا برنامج الثورة، ممثلا في إعلان الحرية والتغيير وبرنامج السياسات البديلة والبرنامج الإسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي الأول، ورموا به في سلة المهملات ووصفوا مناصريه والداعين إليه من قوي الثورة بالمؤدلجين والدوغمائيين المتعصبين لآرائهم (ذوي العقل الإحتجاجي) وتمسكوا بسياسة التبعية الكاملة لصندوق النقد والبنك الدوليين والاعتماد بالكامل علي الخارج مقابل التفريط في السيادة الوطنية والتطبيع مع إسرائيل وتنفيذ الوصفة المعهودة ممثلة في رفع الدعم عن السلع الرئيسية، تعويم الجنيه، زيادة الضرائب، التحرير الاقتصادي والاعتماد علي القطاع الخاص. فقد سقطت هذه السياسة وفضحها الاقتصاد نفسه بالأرقام والواقع المؤسف الذي يعيشه الناس اليوم والتدهور المريع في كل القطاعات الاقتصادية وفيما يلي نتناول بعض مظاهر ذلك السقوط الداوي:
أولا: أقامت الحكومة الدنيا وأقعدتها بأن دعم السلع وعلى رأسها المحروقات هي السبب الرئيسي لتشوهات الاقتصاد وأن هذا الدعم هو سبب العجز في موازنة الدولة وفي تهريب الوقود للسوق الأسود المحلي ولدول الجوار، وفي ندرة الوقود وتزايد الصفوف والازدحام في محطات التوزيع، وأنه لا يذهب لمستحقيه والمستفيدين منه هم أصحاب البرادو الأثرياء والميسورين حالا. وأن رفعه هو مفتاح الحل للأزمة الاقتصادية، ولم يترك مستشاري السيد رئيس الوزراء الاقتصاديين وغير الاقتصاديين منبرا إعلاميا واحدا لتسويق ذلك الوهم والكذب الصُراح إلا وملأوه ضجيجا. وساعدهم في ذلك جماعات الهبوط الناعم في قوي الحرية والتغيير وخارجها، وبعض الصحفيين وأصحاب المنابر الإعلامية المستأنسة للسلطة في كل زمان ومكان إلى أن تم رفع الدعم عن المحروقات. والنتيجة اليوم ارتفاع أسعار المحروقات لمستويات غير مسبوقة وغير محتملة حيث بلغ سعر جالون البنزين 675 جنيه وجالون الجازولين 562 جنيه في آخر زيادة لأسعار الوقود في بداية إبريل 2021م وانعكس ذلك تلقائيا على كل السلع الأخري، وأصبحت الندرة في الوقود وتزايد الصفوف والاختناقات في محطات توزيع الوقود هي القاعدة والوفرة المؤقتة هي الاستثناء. ولا يزال السوق الأسود للوقود متربعا على العرش داخل العاصمة والمدن الرئيسية والطرق السريعة بين الولايات عينك يا تاجر أمام نظر الحكومة وبعلمها، ولا يزال التهريب إلى دول الجوار كما هو دون تغيير فقد سبق وأن اشتكي السيد وزير الزراعة والموارد الطبيعية دكتور عبد القادر تركاوي في يناير 2021م في حديثه عن مشاكل الموسم الزراعي الشتوي 2021م من تهريب الوقود إلى دول الجوار وأوضح أنه من المشاكل التي تؤرق الحكومة ملقيا باللوم على وزارات الزراعة بالولايات والمشاريع القومية، قائلا إن السودان يستورد الوقود بالدولار رغم شح العملة الصعبة، ولكن يهرب إلى دول الجوار (السوداني، الموسم الشتوي تحديات وصعوبات، 4 يناير 2021م). وتفاقمت أزمة المواصلات العامة داخل المدن وبين الأقاليم، وأصبحت أسعار الوقود تتزايد بمتواليات هندسية مع كل باخرة بترول قادمة أو مرابطة في انتظار التفريغ خارج ميناء بورتسودان، واضحت الحكومة بعيدة كل البعد عما يدور في دورة الوقود التشغيلية والتجارية وأصبح المتحكمين الرئيسيين فيها هم أعضاء محفظة السلع الاستراتيجية من بنوك وتجار وشركات توزيع البترول المعروفة للجميع بأنها مملوكة لتجار المؤتمر الوطني المحلول وطفيلية النظام البائد وحلفائهم حتى تاريخ اليوم كالنحلة، بشائر، نبتة، الكريميت، غازبيرو، الرضوان، قادرة، الواجهة، ماثيو، وادي السندس، المتحدة، نوافل، الطريفي.
ثانيا: أما فيما يتعلق بعجز الموازنة العامة فقد زاد العجز أضعاف ما كان عليه قبل رفع الدعم، فبينما كان العجز المستهدف في موازنة 2020م 73.1 مليار جنيه فقد زاد إلى 254.3 مليار جنيه في موازنة 2020م المعدلة أي بزيادة 181.2 مليار جنيه. وبينما استهدفت موازنة 2021م عجزا بقيمة 99.9 مليار جنيه فقد بلغ عجز الموازنة التقديري خاصة بعد قرار تعويم الجنيه حوالي 1,320 مليار دولار على افتراض ثبات المصروفات الجارية على ما هي عليه لمزيد من التحوط وزيادة المصروفات الرأسمالية بمعدل 6.82 مرة هي معدل انخفاض قيمة الجنيه بعد التعويم. ولكن إذا افترضنا أن المصروفات الجارية ستزيد أيضا بنفس المعدل فإن العجز سيقفز إلى حوالي 6,494 مليار جنيه.
ثالثا: وفيما يتعلق بادِّعاء السيد البدوي وزير المالية السابق كتبرير لرفع الدعم عن السلع وعلي رأسها الوقود بأنه سيوفر 252 مليار جنيه تمثل حوالي 36% من مصروفات الموازنة العامة كان سيتم تغطيتها بالاستدانة من بنك السودان (أي طباعة النقود) مما يساعد علي تخفيض معدلات التضخم. إلا أن الزيادات الجامحة لمعدلات التضخم تنسف هذا الافتراض بكل بساطة. فمعدل التضخم عند إعداد موازنة 2020م في ديسمبر 2019م كان يبلغ 51% وكانت الموازنة تستهدف تخفيض التضخم في عام 2020م إلي مستوي 30% إلا أن معدل التضخم واصل الارتفاع ليصل إلي 98.8% في إبريل 2020م (تاريخ قرار البدوي المفاجئ بزيادة المرتبات) ثم إلي 114.3% في مايو 2020م إلي 136.6% في يونيو وتوالت الزيادات بمتوالية هندسية ليصل إلي 269.33% في ديسمبر 2020م ثم إلي 304% في يناير 2021م إلي 330.78% وهكذا حتي وصل إلي 363.14% في إبريل 2021م علما بأن معدل التضخم المستهدف في موازنة 2021م هو 95%. والبيان رقم (1) أدناه يعكس الصورة المأساوية بشكل أكثر وضوحا للقارئ فالصورة خير برهان. وستتصاعد باستمرار معدلات التضخم لتصل إلى مستويات كارثية كلما تمسكت الحكومة بسياسة الاعتماد علي الحلول الخارجية والخضوع لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين.
رابعا: ملأت الحكومة الدنيا ضجيجا اعلاميا أيضا بان تعويم أو توحيد سعر الصرف (سمه ما شئت) سيقضي على السوق الموازي ويوفِّر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي جراء تدفق تحويلات السودانيين العاملين بالخارج وأنها ستتجاوز ال 8 مليار دولار سنويا. ولكن للأسف لم يتحقق شئيا من ذلك فحصيلة القطاع المصرفي كله خلال الفترة الماضية منذ بداية تنفيذ القرار في 21 فبراير 2021م وحتى تاريخ تصريح السيد محافظ بنك السودان في لقاء أجرته معه المندرة نيوز نُشِر في الراكوبة بتاريخ 20 أبريل 2021م بلغت 700 مليون دولار فقط وهي حصيلة زهيدة جدا لا تغطي شيئا يذكر من حجم الطلب على الدولار الذي يفوق ال 9 مليار دولار هي قيمة فاتورة الاستيراد سنويا. وحتى هذه الحصيلة لم تستمر لعدة أسباب أهمها أولا: أن البنوك لا تمتلك السيولة الكافية من النقد الأجنبي لشراء العملات الأجنبية حيث أن الكتلة النقدية الموجودة في البلد هي 433 مليار جنيه منها 408 مليار جنيه تمثل 94% من إجمالي الكتلة النقدية موجودة خارج الجهاز المصرفي و24.8 مليار جنيه تمثل 6% من إجمالي الكتلة النقدية موجودة داخل القطاع المصرفي (العرض الاقتصادي والمالي سبتمبر 2020م) وتشهد علي ذلك الاختناقات والاحتجاجات التي شهدتها صالات البنوك والصرافات خلال الفترة الماضية نتيجة عجزها عن الوفاء بقيمة تحويلات العاملين بالخارج مما دفعهم للتعامل مع السوق الموازي من جديد وثانيا: أن الحكومة قد بالغت في تقديراتها لتحويلات المغتربين والمهاجرين بما يتجاوز ال 8 مليار دولار سنويا بشكل غير علمي لا يستند إلي إحصاءات وبيانات دقيقة في حين أن تحويلات المغتربين والمهاجرين في أفضل أحوالها عام 2008م لم تتجاوز ال 2.9 مليار دولار عندما كانت احتياطيات النقد الأجنبي كبيرة وكان الميزان التجاري يحقق فائضا لصالح الصادرات قبل انفصال الجنوب. والشكل رقم (2) يعكس بوضوح الحجم الحقيقي لتحويلات السودانيين العاملين بالخارج خلال الفترة 2007م – 2019م والتي تبين أنها تدهورت من 2.9 مليار دولار عام 2008م إلي 149 مليون دولار عام 2015م ثم بدأت في الزيادة الطفيفة جدا لتصل إلي أقصي حد لها في 2019م بقيمة 423 مليون دولار وهو ما يكشف تخبط الحكومة في قراراتها وأنها تعتمد علي الضجيج الإعلامي والتضخيم بدلا عن الاستناد إلي أرقام الاقتصاد الحقيقي الموجودة في بيانات الحكومة المنشورة نفسها التي لا يمكن إنكارها أو تزييفها وسرعان ما تتكشف للناس مهما بلغت حملات التضليل والتضخيم وثالثا: أن الحكومة أصلا لا تمتلك احتياطيات كافية من النقد الأجنبي لتكون قادرة علي تحرير سعر الصرف. ففي ظل الظروف الحالية كان لابد من توافر علي الأقل 9 مليار دولار تمثل قيمة فاتورة الاستيراد كاحتياطي نقدي في القطاع المصرفي قبل أن تقوم بتحرير سعر الصرف. في حين أن هذا الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة موجود خارج النظام المصرفي في جيوب تجار السوق الموازي ولذلك هم المتحكمون في سوق النقد الأجنبي في السودان ولا تستطيع الحكومة منافستهم أو التغلب عليهم بل وأنهم قادرون من خلال شبكة سماسرتهم داخل القطاع المصرفي امتصاص أي كمية من العملات الصعبة تدخل القطاع المصرفي وقد سبق وأن دخلت ودائع مليارية من الدولارات لبنك السودان ولكنها انتهت في جيوب تجار السوق الموازي خلال أيام معدودة رابعا: أن الطبقة الطفيلية المحيطة بالحكومة مدنية كانت أم عسكرية هي التي تتحكم في السوق الموازي وهي التي تكتنز العملات الصعبة خارج القطاع المصرفي وأصدق دليل علي ذلك الوديعة المليارية الخاصة باتحاد أصحاب العمل دعما للحكومة وأعلن السيد وزير الصناعة ضمنها مساهمته فيها بمليون دولار بصفته الشخصية كصاحب عمل.
خامسا: وهو الأهم في كل ما سبق بالنسبة للحكومة التي لا تري سبيلا لإصلاح الاقتصاد غير الاعتماد علي الخارج واتخذت موقفا سلبيا من أي دعوي للخيارات الوطنية والاعتماد علي الذات دون أن تطرح مبررات منطقية لذلك بل ولم يكن لها استعداد من أصله للاستماع لفكرة إمكانية الإصلاح الاقتصادي بالاعتماد علي حشد الموارد الذاتية بل ولا تستأنس للقوي الثورية الداعية لذلك مما يؤكد أنها جاءت منذ البداية ببرنامج معد سلفا للسير في نهج التحرير الاقتصادي واستبعاد الدولة من الاقتصاد والاعتماد علي القطاع الخاص والتبعية لصندوق النقد والبنك الدوليين وهو ما يدعمه الحضور المشترك للسيد رئيس الوزراء وبعض قيادات القطاع الخاص ورموز الهبوط الناعم لمؤتمرات شاتام هاوس قبل وبعد الثورة وتبني كل ما جاء فيها والعمل علي تنفيذها من قبل الحكومة الانتقالية. وبالتالي فإن برنامج قوي الثورة، الممثل في وثيقتي السياسات البديلة والبرنامج الإسعافي الذي تم تسليمه للسيد رئيس الوزراء في اكتوبر 2019م ومقررات المؤتمر الاقتصادي الأول فيما بعد، قد تم التقاضي عنه والرمي به في سلة المهملات. ويقوم برنامج الحكومة علي الانصياع الكامل لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين ضمن برامج مراقبة موظفي الصندوق بحيث تلتزم الحكومة خلاله برفع الدعم عن السلع الرئيسية، وزيادة أسعار الكهرباء، تحرير سعر الصرف، تحرير الاقتصاد بما فيه تحرير التجارة، زيادة الإيرادات الضريبية، وضع استراتيجية لمحاربة الفقر وفقا للبدائل المطروحة من صندوق النقد والبنك الدوليين والقائمة بشكل أساسي علي فكرة الدعم النقدي بتمويل من البنك الدولي. ومن ثم العمل علي إعفاء الديون ضمن مبادرة الهيبك والتي تبدأ بتسوية الديون السيادية ممثلة في متأخرات الديون المستحقة للبنك الدولي، بنك التنمية الإفريقي، وصندوق النقد الدولي تمهيدا لإعفاء كل أو جزء من مديونيات نادي باريس والدول خارج نادي باريس بهدف فتح الباب لمزيد من القروض والتمويل من المؤسسات الدولية، وفتح الباب للاستثمار الأجنبي بشروط ميسرة تنتهك السيادة الوطنية وتجعل السودان خاضعا للشركات عابرة القارات الكبري في كافة المجالات بما فيها مشاريع البنية التحتية والزراعة والثروة الحيوانية. وفي سبيل كسب الحكومة الانتقالية التأييد لهذه السياسة كرست كل أجهزة الدولة الإعلامية وغيرها المملوكة للقطاع الخاص ووسائط التواصل الاجتماعي لإقناع الناس بأنه ليس هنالك ثمة طريق آخر لإصلاح الاقتصاد السوداني والخروج بالبلاد إلي مصاف الدول المتقدمة غير هذا الطريق. بل وفي سبيل تمرير روشتة الصندوق ضخمت قضية الديون الخارجية وصورتها للناس باعتبارها القضية الأولي التي تمثل العائق الرئيسي للإصلاح الاقتصادي والتي يجب تقديمها علي كل القضايا وتنفيذ كل الشروط التي تقود إليها في إطار مبادرة الهيبك وهي لا تزال تبذل مجهود فوق العادة لجعل الشعب يصدق ذلك بل ويكون لديه الاستعداد لتحمل الغلاء الطاحن وتردي الخدمات الرئيسية وانعدامها من صحة وتعليم ومواصلات وكهرباء ومياه لحين رضاء الصندوق والبنك الدوليين ونادي باريس وغيرهم من الدائنين عن السودان وإعفاء الديون ومنح السودان ديون وإعانات جديدة تزيد العبء مجددا علي المواطن وفي نفس الوقت لا يوجد ضمانات مؤكدة لاستغلال هذه الديون الجديدة في مصلحة المواطنين ورفع كاهل المعاناة عنهم، والاستثمار في مشروعات البنية التحتية والتحكم فيها وتحويلها لمشروعات ربحية تصب في مصلحة المستثمر الأجنبي وشركائه المحليين من طفيلية النظام البائد بشقيها العسكري والمدني المتحكمة في مفاصل الاقتصاد اليوم مما يؤدي لتزايد معدلات الفقر. وبما أن الاقتصاد يستند كما قلنا لأرقام غير قابلة للإنكار فيما يلي تقييم اقتصادي لنتائج مؤتمر باريس ولسياسة الحكومة المذكورة:
* صحيح أن القروض التجسيرية التي منحتها أمريكا لتسوية متأخرات البنك الدولي وبريطانيا والسويد وإيرلندا لتسوية متأخرات بنك التنمية الإفريقي قد تم تغطيتهما بمنح من البنكين، ولكن في نهاية الأمر تم تقييدهما على السودان كالتزامات مالية بكامل قيمة المنح في حين أن السودان لم يستلم أية مبالغ من بنك التنمية الإفريقي بعد سداد المتأخرات وإرجاع مبلغ القرض للدول التي منحته خلال 48 ساعة. وبالتالي فإن هنالك التزام مالي بقيمة 425 مليون دولار تم تقييدها في حساب السودان لدي بنك التنمية الإفريقي كمنحة دون أن يستلمها أو يستفيد منها فعليا. وبنفس المستوي فإن قيمة القرض التجسيري الذي منحته أمريكا بقيمة 1.15 مليار دولار تم بموجبه إطفاء متأخرات السودان لدي البنك الدولي وتم إرجاع قيمة القرض لأمريكا خلال 48 ساعة وفي نفس الوقت تم تقييد ما قيمته 1.3 مليون دولار في حساب السودان لدي البنك الدولي (موقع البنك الدولي، صفحة السودان) كالتزام مالي في شكل منحة في حين أن السودان سيستلم منه فقط الفرق أي ما قيمته حوالي 150 مليون دولار تقريبا. وعلي الرغم من أن هذه الالتزامات تعتبر منح للسودان ولكن لها شروطها التي تجعل السودان مقيدا بشكل لا فكاك منه للبنك الدولي ولبنك التنمية الإفريقي وأن أي إنحراف عنها سيترتب عليه وقف التعامل مع السودان ومطالبته من جديد بسداد كافة الالتزامات المترتبة عليه. أما القرض التجسيري من فرنسا بقيمة 1.5 مليار دولار فهي لسداد متأخرات السودان لدي صندوق النقد الدولي البالغة 29 مليون حقوق سحب خاصة (Special Drawing Rights SDR) أي (SDR964.29Million) وهي ما تعادل حوالي 1.8 مليار دولار أي أن السودان يحتاج لحوالي 300 مليون دولار إضافية لسداد التزاماته لصندوق النقد الدولي علما بأنه وبعد سداد 1.5 مليار دولار لفرنسا قيمة القرض التجسيري سيتم تقييد ذلك كالتزام جديد علي السودان في شكل قرض من الصندوق. أي أن السودان سيسدد قرض جديد لم يستلم قيمته أصلا وأن العملية كلها عبارة عن إعادة جدولة لدينه للصندوق لمدة أخري وبسعر فائدة جديد حيث أن الصندوق عادة، وعلي عكس البنك الدولي، لا يقدم منح وإنما قروض قصيرة الأجل وأنه قد بيَّن بشكل واضح في صفحة السودان لديه بأن الموارد المتاحة في الصندوق الائتماني ضمن خطة التمويل الأصلية لم تتضمن تكلفة تخفيف عبء الديون عن السودان أي لا توجد موارد أصلا مخصصة يمكن تقديمها كمنحة للسودان ولكن وبما أن السودان قد أحرز تقدمًا ملموسًا نحو نقطة القرار، فهناك حاجة لتعبئة موارد لصالح السودان حسب تعبير الصندوق. وبالتالي وبالرغم من أن هذا الكلام يعتبر سعيا من الصندوق لإعفاء هذا القرض الجديد صمن مساهمة الصندوق في رفع عبء الديون على السودان ضمن مبادرة الهيبك إلا أن ذلك غير مضمون أو مؤكد حيث إنه يعتمد على قدرة الصندوق علي حشد موارد من بعض الدول الأعضاء لتغطية قيمة الدين، ولكن الصندوق لا يقوم بإطفاء الديون من محفظة التمويل العادية الخاصة به والمخصصة فقط لمنح القروض قصيرة الأجل (صفحة السودان في موقع الصندوق).
* وعلي الرغم مما أكده السيد رئيس الوزراء بشكل قاطع في مؤتمره الصحفي بمطار الخرطوم فور عودته من باريس، وعلي الرغم من الضجيج الإعلامي الممنهج بتضخيم نتائج مؤتمر باريس بإعفاء 80% من ديون السودان أو ما يعادل 45 مليار دولار إلا أن ذلك سابق لأوانه ولا يعتبر أمرا مؤكدا، وأن هنالك التزامات علي السودان ضمن شروط الصندوق وشروط الهيبك نفسها لابد من الوفاء بها حسبما جاء في المؤتمر الصحفي رقم (87/21) الخاص بنتائج الإجتماع المشترك لمجلسي البنك الدولي والصندوق المنعقد خلال الفترة 23-26 مارس 2021م بواشنطون والتي تتمثل في الانتهاء من تسوية دين الصندوق المذكور أعلاه، وأيضا الوفاء بمتطلبات برنامج مراقبة موظفي الصندوق الخاصة بتوحيد سعر الصرف حيث لا زالت هنالك أسعار صرف متعددة برغم قرار تعويم سعر الصرف رقم (1/2021م) والمتمثلة في سعر البنك وسعر السوق الموازي وسعر الدولار الجمركي وسعر الصرف الخاص باستيراد الأدوية وهي مهمة معقدة جدا ومن الصعب الوفاء بها ما لم تغير الحكومة كل سياستها النقدية بشكل يتناقض تماما مع شروط الصندوق نفسه، وكذلك توفير حماية اجتماعية عبر برنامج الدعم النقدي بدلا عن الدعم السلعي وثبات فعاليته ونجاحه خاصة فيما يتعلق بجودة استخدام الدعم المالي المقدم من البنك الدولي، وتحقيق شرط الارتقاء بإدارة المالية العامة (Public Finance Management PFM) ومكافحة الفساد والشفافية ومكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وهي مهمة أيضا صعبة وتحتاج لوقت خاصة وأن ملفات الفساد لا تحظي بالاهتمام المطلوب من قبل الحكومة الانتقالية، هذا بجانب شرط الاصلاح الضريبي وإلغاء الإعفاءات الضريبية وتوسيع وتنويع القاعدة الضريبية ومكافحة التهرب الضريبي وإصلاح جهاز الضرائب، وكذلك مطلب جرد جميع الشركات المملوكة للدولة بما فيها الشركات العسكرية والأمنية وإخضاعها لرقابة وزارة المالية والاستعانة بالبنك الدولي فنيا لدعم تطوير ملكية الشركات المملوكة للدولة وترتيبات الرقابة عليها ووضع خارطة طريق لإصلاحها وضمان هيمنة وزارة المالية علي مواردها ضمن الموازنة العامة. هذا بجانب شرط إصلاح الخدمة المدنية والذي قامت وزارة المالية بتعيين شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PwC) لإنجازه وتعتبر حتى الآن في مراحلها الأولي، هذا بالإضافة لشرط إصلاح القطاع المصرفي وضمان استقلالية البنك المركزي وهو ما لم تحرز فيه الحكومة أي تقدم يذكر فيما عدا صدور التعديلات القانونية الخاصة بالنظام المصرفي المزدوج والتي تعتبر غير كافية وتحتاج للكثير من التعديلات والترتيبات من النواحي القانونية والإدارية والتقنية برغم التصريحات التي أطلقها السيد المحافظ ولا تجد ما يسندها علي أرض الواقع. وبالتالي فإن ما تمخض عنه مؤتمر باريس هو مجرد وعود لإعفاء الديون ولكن لا زالت المهمة شاقة جدا ويمكن أن تمتد إلي فترات أطول تتطلب برامج إضافية لمراقبة موظفي الصندوق وكان من الأفضل والأجدي للسودان أن يسلك الطريق الوطني لإعفاء الديون الذي يبدأ أولا بالاعتماد علي الذات وحشد الموارد المحلية والنهوض بالإقتصاد وتحسين المركز الائتماني للسودان الذي يؤهله للتفاوض مع المؤسسات الدولية من موقع الاستقلالية واحترام السيادة الوطنية لإعفاء الديون بعد مراجعتها بالكامل وإعداد ملفات قضائية محكمة تدين من أسهموا في تبديد تلك الديون وسرقتها وتهريبها للخارج والاستعانة بالدول الدائنة نفسها في استعادة الأموال المنهوبة ومهربة للخارج. فالواقع الاقتصادي المرير الذي يعيشه الاقتصاد ويزداد سوءا ومرارة علي المواطنين يدفع بالفشل التام للسياسة النقدية التي اعتمدتها الدولة استجابة لشروط الصندوق وعلي رأسها توحيد سعر الصرف. فقد أصبح الوضع كما حذرنا في مقالات سابقة بأنه سباق لا نهاية له بين سعر السوق الموازي وسعر البنك. فقد بدأ قرار التعويم بتخفيض قيمة الجنيه بحوالي 6.82 مرة من 55 جنيه إلي 375 جنيه إلا أنه زاد خلال الفترة منذ صدور قرار التعويم بحوالي 35 جنيه وذلك من 375 جنيه إلي حوالي 410 جنيه بتاريخ 22 مايو 2021م أي ما نسبته 9.3% أو 1.1 مرة وهذا يعتبر فشل باين غير قابل للإنكار أو التبرير لفشل سياسة توحيد سعر الصرف.
سادسا: سياسة التبعية لمؤسسات بريتون وودز سياسة جربتها العديد من الدول ولم تقودها إلا للفشل المؤكد. والسودان نفسه يعتبر أحد الأمثلة الحيَّة لفشل هذه السياسة فقد جربها عام 1978م لتبدأ مسيرة التدهور الاقتصادي التي لا يزال يعاني السودان آثارها الكارثية وأن التزاماته تجاه صندوق النقد الدولي البالغة 1.8 مليار دولار والتي تسعي الحكومة حاليا لتسويتها عبر قرض تجسيري من فرنسا وبعض الدول الأخري ما هي إلا نتيجة لمسيرة التبعية والفشل الممتدة لحوالي أكثر من 43 عاما لصندوق النقد الدولي والسياسة الاقتصادية القائمة علي القروض الخارجية، وأن العديد من متأخرات الديون الحالية سواء لأعضاء نادي باريس أو خارجه أو الديون التجارية هي أيضا تمثل واقعا مؤسفا فرضته أيضا سياسة التبعية والاعتماد علي الخارج التي شوهت سمعة السودان المالية وأضعفت جدارته الائتمانية وأصبح من الدول ذات السوابق في التعثر في سداد القروض وعدم الوفاء بالالتزامات المترتبة عنها. وبالتالي من المستحيل الخروج من هذا المركز الائتماني الردئ بتجريب المجرب والاستمرار في نفس دوامة التبعية والإعتماد علي القروض الخارجية ولابد من طريق وطني يعتمد علي حشد الموارد الوطنية والاعتماد علي الذات فالسودان ليس دولة فقيرة وهو غنيٌ بموارده الطبيعية والبشرية التي تؤهله ليصبح من الدول الحديثة الرائدة من خلال برنامج وطني قابل للتطبيق بإرادة سودانية موحدة وهو ما تم ترجمته في وثيقتي برنامج السياسات البديلة والبرنامج الإسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي الأول والتي تمثل مجتمعة عصارة ما توصل إليه وأنتجه السودانيون من فكر تنموي سوداني وطني خالص واضح المعالم والرؤية والأهداف ومن شأنه في المستقبل القريب أن يقوي المركز الائتماني للسودان مما يجعل مؤسسات التمويل الدولية تتسابق للتعامل مع السودان، ويؤهله لإعفاء الديون القائمة دون إملاءات والحصول علي قروض جديدة ميسرة متي ما شاء ذلك وفقا للشروط التي يمليها السودان كما كان يحدث في فترة الستينات. وبرغم الوقت الذي تم تبديده من قبل الحكومة الانتقالية للجري وراء السراب والذي أوصل الأحوال الاقتصادية لما هي عليه الآن وأدي إلي مضاعفة معاناة المواطنين وشظف العيش والتخلف والتدهور علي كافة المستويات إلا أن الوقت لا يزال مناسبا للرجوع لبرنامج الثورة وللخيارات الوطنية وللإصلاح الاقتصادي الحقيقي الذي يبدأ بإصلاح أحوال الموطنين المعيشية والارتقاء بالخدمات الصحية والتعليمية والبيئية فالتنمية الاقتصادية تبدأ بالاهتمام بالمواطن وأي تصور آخر للتنمية يطلب من المواطن الصبر علي الجوع والمرض وتلوث البيئة والجهل وتدني الخدمات التعليمية هو تصور خاطئ يتناقض مع مبادئ الاقتصاد وأهداف السياسة الاقتصادية لأي بلد المتمثلة في التشغيل الكامل للموارد البشرية، استقرار الأسعار، النمو الاقتصادي، العدالة في توزيع الدخل، وتوازن ميزان المدفوعات.
سابعا: أما فيما يتعلق بجذب الاستثمارات كأحد أهم أهداف مؤتمر باريس فليس هنالك نتائج ملموسة على أرض الواقع وما تم إعلانه من اتفاقية مع شركة أوركا الكندية للتنقيب عن الذهب بقيمة 350 مليون دولار لإنتاج حوالي 8 طن من الذهب سنويا لا تتناسب مع حجم الدعاية التي تمت للمؤتمر ومستوي طموح الحكومة الانتقالية. وبالتالي فالأمر لا يزال في طور التطلعات والوعود. ولكن كلما يمكن قوله هو أن أي خطة لجذب الاستثمارات لابد وأن تكون قائمة على تعزيز السيادة الوطنية على موارد البلاد الطبيعية والبشرية وتركيز الاستثمارات الأجنبية في الصناعات الإستخراجية في قطاعات النفط والغاز وبعض المعادن غير النادرة، وبعض مجالات الصناعات التحويلية والتكنلوجيا ذات رأس المال الكثيف والتكنلوجيا المعقدة وأن تراعي السيادة الوطنية ونقل المعرفة والخبرة والتدريب وتوفير الوظائف وتشجيع قيام الصناعات المحلية الصغيرة والمتوسطة المساندة أو المكملة لها. وأن تحظر الاستثمارات في البنيات التحتية المتمثلة في السكة حديد والنقل الجوي والنهري والبحري والخدمات الصحية والتعليمية وصحة البيئة والطرق والجسور والزراعة والثروة الحيوانية والبنيات الأساسية لقطاع تكنلوجيا المعلومات والاتصالات على المستثمر الأجنبي. ولذلك قبل التوجه للخارج كان لابد من إخضاع قانون الاستثمار قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص لمزيد من الدراسة والعصف الذهني بين الخبراء والمتخصصين وأصحاب المصلحة وأن تسبقهما عملية تقييم كامل لكل تجارب الاستثمار الأجنبي والشراكة بين القطاعين العام والخاص في السودان بشكل علمي وتحديد نقاط القوة في البيئة الداخلية والفرص المتاحة في البيئة الخارجية علي ضوء نقاط الضعف الداخلية والتهديدات في البيئة الخارجية ومن ثم تحديد الرؤية والرسالة والأهداف التي يسعي لها السودان خلال الفترة القادمة. هذا بجانب العمل علي تحسين مناخ الاستثمار باعتبار أن الواقع الاقتصادي والسياسي الحالي في السودان يعتبر طاردا بامتياز للاستثمار الأجنبي وذلك بالعمل علي النهوض بالبنيات التحتية ودعم القطاعات الانتاجية والخدمية وتقوية السياسة النقدية وضمان استقرارها من خلال تشجيع الصادرات وتقليص الواردات بهدف تقليل الطلب علي النقد الأجنبي وزيادة احتياطياته لدي بنك السودان والعمل علي تغيير العملة وإصلاح القطاع المالي والمصرفي ومحاربة الفساد والتخلص من الدولة العميقة ولن يتأتي ذلك إلا بتوحيد الإرادة نحو تنفيذ برنامج السياسات البديلة والبرنامج الإسعافي ومقررات المؤتمر الاقتصادي الأول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.