أخذ يعتمل في نفسي شعور غامر بالحبّ. ما لبث أن أخذ يفيض متدفقاً باتجاه الخالق والكون وعزيزتي الجميلة كيتي سام. ولم يكن ثمة من مفر قد يحول طويلاً دون أن أطرح عليها ذلك السؤال: "كم مرة مارستْ عزيزتي كيتي الجنس، حتى الآن"؟ كما لو أن تكويني العاطفي، حتى وأنا أتجاوز لحظتها منتصف الثلاثينات "للتو"، لم يتجاوز مرحلة المراهقة، خطوة واحدة! لما طرحت عليها ذلك السؤال، كان رأس كيتي لا يزال مترعاً بتفاصيل حميمة عن فتيان أحلامها في زمان لم يعد لأولئك الفتيان فيه حتى في نفوس أغلب من ظلّ حيّاً من عشّاقهم وأكثرهم جنوناً مثل ذلك الزّخم القديم، الذي تخيل هؤلاء الفتيان معه آنذاك أنّهم في وجدان الخلق أعلى مكانة من "الديانة". إنّهم فتيان فرقة "البيتلز".. الخنافس. تلك المجموعة الغنائية البريطانية ذهبت كيتي سام في عشقها إلى أقصى مشارف الشغف، مدى حياة كاملة. لعل الفرق الوحيد بين الجميلة كيتي سام هذه وبين أمّها ليندا جونسون هنا في مقام الطرب هذا أن الأخيرة كان قلبها يحجّ في تلك الأوقات السعيدة إلى "جريسلاند"، جنة الفيس بريسلي، ملك الروك آند رول، بيته الحلم، ذلك الحصن الدافيء الذي أُقيم في البدء لا لصدّ عدو محتمل، بل لينهض كما حاجزٍ لتلطيفِ موج بحر أولئك المحبين المتدافع آناء الليل وأطراف النهار. "حقاً ما هذا الكتاب الغريب، يا هاميد"؟ كدتُ أن أقول لها بُعيد إجراءات تسليم وتسلّم تلك الوردية "إنه كتاب كارل ماركس "الآيديولوجية الألمانية"، عزيزتي كيتي سام". أحجمتُ، بالكاد، عن قول قد لا يجدي. نلت حظي من مطالعة النظريات والكتب. ما تبقى وقت للجسد. أو كما لو أنني لم أستمتع بعسل مها الخاتم زمناً في القاهرة. لقد أُصبت رغماً عني بالرغبة الماسّة في ملامسة ما لم يكن بوسعي ملامسته سنوات المراهقة النائيّة وفوران الشباب. آنذاك، بينما كانت تنتظر ابنتها دوريان لتقلّها كالمعتاد إلى البيت بسيارتها الفورد تلك، سألتني عنه، وهي تراه معي لأول مرة. وقد حاولتْ كيتي سام قبلها جاهدة فك طلاسم أحرف الكتاب المترجم إلى اللغة العربية. لم يكن الكتاب محتوياً في طبعته تلك على حرف لاتيني واحد. نظرتُ بدوري إلى صورة كارل ماركس الباهتة تلك على ظهر الغلاف. كانت ملامحه غائمة وراء الآثار المتراكمة لأصابع يدي عبر الزمن. حين بدا أن كارل ماركس في صورته تلك أكثر شبهاً براهب طيب عجوز، قلت لها بكل جديّة: "هذا، عزيزتي كيتي، كتابنا المقدس". بدت كيتي متفهمة لتلك الإجابة، وقد تساءلت: "هل يؤمن به الكثير من الناس هناك، يا هاميد"؟ قلت: "بل يعتقدون، عزيزتي كيتي، أن مجرد ترتيله آناء الليل وأطراف النهار بمثابة سبب كاف لتقليل رقعة الفقر ومحو فساد الحكام". أخذتْ كيتي سام تالياً تتطلع بقلق إلى إحدى شاشات المراقبة، قائلة: "للأسف الناس هنا في كندا لا يبالون بالسماء كثيراً". كمن يستدرك أمراً تمّ تذكره على حافة الوقت، سألتني كيتي سام، قائلة: "آه، نسيت، هل تؤمن أنت بالله، يا هاميد". كانت الإجابة على مثل ذلك السؤال عالقة في داخلي منذ زمن بعيد. قلت: "فقط حين لا ينوب عنه الآخرون في الأرض"! كنت أدرك أن حيِّز المعلومات الضخمة في دماغ "عزيزتي كيتي" عن "جون لينون" و"بول مك كارني" و"جورج هاريسون" ورفيقهم الرابع الذي أنسى دائماً اسمه ربما لأنّه كان عازفَ إيقاع بأكثر منه شيئاً آخر لم يتح لها في النهاية سوى ذلك الهامش للتفكير في أشياء خارج ساعة قمار واحدة من كل أسبوع مدفوعة كل مرة باستعادة أمجاد غنى آفل قديم. فجأة، وهي تنظر إلى السقف متبرمة من تأخُّر ابنتها، وثمة شعور الحبّ ذاك تجاه الله والكون وهي نفسها قد أخذ يزداد عنفاً وضراوة عبر مسارب روحي؛ تناهى صوتها، وهي تتغني بإحدى روائع جون لينون الأخيرة بنبرة أقرب ما تكون إلى الدندنة: "كل ما نقول به.. امنحوا السلام فرصة". رأيتها بعدُ تتراجع بمقعدها المتحرّك إلى الوراء في تثاؤب. كانت كيتي أنهتْ لحظة دخولي عليها كتابة بعض الملاحظات على دفتر التقرير اليومي. شبكتْ أصابعها وراء عنقها ناظرة إلى شاشات المراقبة في ضجر ونفاد صبر. كانت تلك من المرات النادرة التي تأخرت فيها ابنتها دوريان عنها إلى ذلك الحدّ. قالت تبدد سأم السكون المشوب بالانتظار: "لا شيء هام حدث أثناء وردية الليل". بدأتُ أتأمّلها مجدداً من الطرف الخفيّ ذاك نفسه. قلت أُخاطبها في سري ولا أدري لماذا: "إذا تمعنّا في الأمر، عزيزتي كيتي، فكل ما يحدث في الحياة مجتمعاً قد لا يبدو على تلك الأهمية التي نظنّ". كان الشعور بالحبّ ذاك قد طغى وفاض مجدداُ عن ماعون قلبي ولم يعد محتملاً، حين استدرتُ نحوها في جلستي تلك، قبالة شاشات المراقبة، ورجوتها: "ممكن أمرر يدي هذه، على شعرك"؟ شَعْرُها ذهبيّ. ظلّ يوقد في قلبي الحرائق كلما ألقت برأسها إلى الوراء، هكذا عابثة ضاحكة. ما لبث أن أخذني الفزع، وتصاعد صوت دقات قلبي، لحظة أن بدأت العجوز تقترب مني هكذا بمقعدها المتحرّك، وقد مال رأسها بتلقائية على كتفي. ضاعف مدى دهشتي هذه المرة أن شعرها لا يزال يحتفظ بالفعل بجاذبية ونعومة شعر فتاة في العشرين، حتى وهي تقف على بعد خطوات من سن التقاعد ونهاية الخدمة المدنية. كانت كيتي في تلك المرحلة العمرية نفسها التي يأخذ فيها أمثالها من نواحي بلادي في تجهيز قوارب الإبحار صوب عالم الفناء. ولم ينسوا أثناء هذا التجهيز لرحلة الأبد أن يضعوا على متن قواربهم القِربَ المليئة بماء الإستغفار، السلال المكتظة بزادي الصوم والصلاة، ثم مجذافيّ الإيمان، وبعض فواكه الحجّ إلى بيت الله الحرام في مكة إن أمكن، وقليل منهم كان يملأ حقائب الإسعافات الأولية تلك بالزكاة وطلب المغفرة ممن قد آذوهم في لحظات ضعفهم الكثيرة، ولم يعد يشغلهم من بعد من أمر الحياة شيء. وددتُ لو أنني أستمر في تمرير يدي على شعرها، حتى قيام الساعة. لكنّها انفصلت عني. أخذت تتشاغل بالنظر إلى شاشات المراقبة الماثلة قبالتنا. كما شيء يُذكِّرك أن الحياة قد تتسرب في أحيان كثيرة بلا معنى. عندها فقط، أدركت أن كفّ الزمن أخذت منذ وقت بعيد في حياكة تلك الغضون الدقيقة حول شفتيها الرفيعتين. لعلها أحسَّت بعاري الخفي. وقد بدأت كوامن الرغبة تتحرك بين ساقيّ بعناد. مع ذلك، واصلتْ العجوز الطيبة حد سرقة طعامها التطلع إلى تلك الشاشات في وجوم متناسية ما قد بدر مني. لكنّ وجهها اعتكر للحظة خطفاً. ولا أثر هناك بعد قد يدل على حضور ابنتها. كان هاتف ابنتها دوريان المحمول لا يزال مغلقاً والملل أخذ يجتاح العجوز كيتي هذه في قربي ذاك إلى الدرجة التي بدا معها وجودها هي نفسه وسط ذلك الخجل المتفاقم في نفسي مثل شيء ثقيل باعث على الغثيان. لم يعد ثمة ما يقال وقد أخبرتني منذ حضوري تقريباً بكل ما هو جديد عن ابنتها وحفيدتها. لم يغب عنها أن تحدثني بشيء من الحزن عن خسارتها التي لا تعوّض أثناء لعب القمار في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. أخيراً، خرج من جوفي، كما لو أنني أبدد بقايا حريق لا منطق له في عرف الطبيعة بحريق من نوع نشاز آخر؛ ذلك السؤال الذي ظلّ يغلي في داخلي لفترة طويلة: "كم مرة مارستْ عزيزتي كيتي الجنس، حتى الآن"؟ على عكس مخاوفي تلك تماماً، عادت الحياة تدب في أوصال السيدة العجوز. ألقت بشعرها بكلتا يديها إلى الوراء. أخذتْ تضرب على الأرض بقدميها ضاحكة كفتاة على أعتاب العشرين لا تزال مغمورة في وهج الشعور أن العالم لا يزال واعداً في مقبل السنوات بالكثير من الأشياء الطيبة. "فريق البيتلز أكبر من المسيح". هكذا، وهي تفتح أمامي خزائن أسرارها على ذلك النحو، وأنا أراها وهي تصغر في الحكي أكثر فأكثر، ثم أكثر، خطرت على ذهني تلك العبارة التي أطلقها جون لينون في عام 1966. وكنت قرأت قبل أيام قليلة مقالاً في مكان ما من شبكة المعلومات جاء فيه "لم يكن لينون ومكارتني عندما كانا يجتمعان في حجرة مكارتني الضيقة لعزف الموسيقى ووضع كلمات الأغاني يعيان أنهما يؤسسان لتاريخ الفن الغربي عموماً، وأن الفكر العفوي الذي كان يكظمه الفتية الأربعة هو امتداد لموجة الحداثة التي اجتاحت التشكيل والأدب". أتذكر: كان رابعهم ذاك يدعى باسم: "رينجو". كنتُ لا أزال شابة صغيرة. مات أبواي يا هاميد في حادث تحطم طائرة مروحية خاصّة على شواطيء خليج هيدسون على الحدود ما بين محافظتي أونتاريو ومنيتوبا. تركا لي ملايين الدولارات وفراغاً لا يني يتعاظم كلما تقدم الوقت. كانا محور حياتي. كما لو أن أحداً لم يحب أبويه مثلما أحببتهما. لا تزال ضحكاتهما بين أصدقائهما ترن داخل أذنيّ متناهية عبر ذكرى حفلات الشواء في الهواء الطلق. كل شيء بموتهما آل إلى سكون. كنت في جوع لا نهائي إلى تبديد الصمت المتفاقم من حولي. أوه، يا هاميد، لا أحد يعلم في مثل عمري على وجه التحديد كم مرة مارس خلالها الحبّ في حياته. ذلك أمر لا يُحسب بعدد المرات"! شيئاً ما تحول غرامي القديم بفرقة البيتلز، ولا يزال نوعاً ما، إلى شيء أخذ يملأ من نفسي مجتمعة منافذ الروح والجسد. لم يكن الأمر تعلّقاً بصيحة في عالم الغناء أقامت الدنيا وقتها. بل كان الحياة. كان بمثابة الهبة الإلهية أن تتنفس مع أربعتهم هواء العالم نفسه. حين أقدم ديفيد شابمان مساء الثامن من ديسمبر من عام 1980 على اغتيال جون لينون وجدتني ثانية أسيرة الفراغ العظيم ذاك نفسه. قال إنه ظلّ يسمع أصواتاً في رأسه تأمره بقتل رسول الحبّ. "تصوَّر إلى أين يصل الهراء بالناس؟ قال، دعني أتذكر، آه، قال كان قراره باغتيال جون لينون أمراً "أشبه بقطار ينطلق بأقصى سرعته، لا سبيل لوقفه". أحسست باليتم مرة أخرى. كما لو أن العالم لم يعد فيه أحد. "يا هاميد، أي قوة غامضة هناك تدفع بالناس إلى قتل أجمل الأشياء لديهم"؟ استيقظتْ دودة اليساريّ. وقد كدت أن أقول لها إن ما تفوهت به للتو شكل حجر الزاوية في كتاب "الآيديولوجية الألمانية". وكنت أعني سؤال ماركس: "لماذا يسلك البشر أحياناً ضد مصالحهم الخاصّة". بدأتْ العجوز وهي تواصل حكيها ترتعش حد إثارة مخاوفي من أن يغمى عليها دفعة واحدة في أي لحظة. ثم.. وبلا مقدمات شرعت كيتي سام الجميلة تبكي. يا إلهي.. بعد كل هذه السنوات لا تزال تذرف دمعاً. "الدمع، لو تعلمين، عزيزتي كيتي سام، ما قد يفعله الدمع في العادة بدواخل "المنفيّ الغريب". الدمع الدمع، عزيزتي كيتي، أيبعثه فينا الحنين، الغبطة، الفقد، الوداع، اللقاء، الحزن، الفرح، المسرَّة، أم اليأس والأمل؟ أي قوة هائلة ينطوي عليها ذلك السائل المائي الذي يدعى "الدمع"؟ وضع الله "عزيزتي كيتي" في ابتسامتنا الجسور، في حناجرنا الغناء، في قلوبنا الخفقان، في رؤوسنا الفكر، في أقدامنا المشي، وفي ملتقى ساقينا الرغبة، لكنه جعل من الدمع أكثر هباته تلك وضوحاً وأسى ولوعة. كنت أواصل النظر إلى كيتي مصغياً إليها مفتشاً في الوقت نفسه ما بين ندف الحطام المتراكمة داخل أعماقي عسى أن أعثر على إجابة ما، ولا أدري أن ما أُعايشه معها من توحد مجرد كابوس أم واقع آخر من هلوسات منفىً لا محيد عنه؟