علي يس . مع أنّ أقدم تداول لمصطلح (الشرعيّة الثوريّة)، في مقابل مصطلح (الشرعيّة الدستوريّة) ربما كان إبّان الثورة الفرنسيّة ، إلا أن "تطبيق" مدلول المصطلح قديم جدَّاً ، قِدَم "الثورات" في تاريخ البشر. ذلك أن الأوضاع السياسية التي تستوجب انفجار ثورات جماهيريّة كاسحة ، هي بالضرورة أوضاعٌ تكون قد بلغت من الفساد حدّاً يجعل هدف الثورة الأول إزالتها بالكامل ، و في وقت الثورة تماماً و ليس بعده ، و إلاّ ، فما جدوى الثورة إذاً؟؟ . المتتبّع لتاريخ ثوراتنا الثلاث ، التّي جاءت في أعقاب (إنقلاباتٍ ثلاثة) ، يرى عجباً .. فالانقلابات الثلاثة ، انقلاب نوفمبر 1957 ، ثم انقلاب مايو 69 ، و بعده انقلاب يونيو 89، جميعها سمّت نفسها ، أوّلاً ، (ثورات) ، ثم ، تأسيساً على هذا الادّعاء الكاذب ، المسنود بالبندقيّة ، أحلّت لنفسها تدمير البنى السياسيّة و الاقتصاديّة ، و أحياناً الاجتماعيّة الثقافيّة القائمة ، تحت عنوان (الشرعيّة الثوريّة) ، مع ملاحظةٍ مربكة ، هي أنّ جميع الانقلابات الثلاثة كان العسكر فيها في البدء مجرّد منفِّذين لرغبات من يقفون خلفهم من المدنيّين (الحزبيّين) ، و بالتالي كان استخدام مصطلح (الشرعيّة الثوريّة) في التدمير من بنات أفكار المدنيّين الذين يتوارون خلف الانقلابات .. . في المقابل ، جاءت الثورات الجماهيريّة الثلاث الكاسحات ، أكتوبر 64 ، ثم أبريل 85 ، و أخيراً ديسمبر 2018م ، بعد أن بلغ احتمال الناس حدّه الأقصى الذي يعقبه الانفجار ، و كانت شعاراتها التي ردّدها الثُّوّار جميعاً تخاطب مطالبهم العاجلّة المتمثِّلة في اجتثاث النظام الانقلابي و مؤسساته بالكامل، و محاسبته الناجزة على فساده و جرائمه ، و لكنّ الجماهير ، التي لا تعرف قيادة غير قادة الأحزاب التي ألِفتها ، ظلّت ، بعد أن تنجز ما عليها ، تضع ثوراتها في أيدي أولئك الساسة الذين لا تعرف غيرهم ، كي يكملوا ما بدأته الجماهير الثائرة الساهرة ، باستخدام شرعيّة الثورة في ردّ المظالم مع التجاوز الكامل لمؤسسات النظام الانقلابي الذي اقتلعت الثورة قيادته، بانتظار أن يكمل الساسة اقتلاع جذوره.. لكن .. . يجد الساسة ، الذين دائماً ما يلحقون بقطار الثورة متأخرين ، لاهثين ، فيتشبثون بآخر عربات القطار (عربة الفرملة) ، يجدون أنفسهم جاهزين للحكم ، و غير جاهزين للمحاسبة ، و غير قادرين على استخدام (الشرعية الثورية) ، التي استخدموها هم أنفسهم من قبل ، من وراء ستار العسكر .. يتذكّرون ، دائماً، أن فترة حكم العسكر الطويلة قد شهدت تحولات و انقسامات "عائلية " بينهم ، ألقت بقسم من أبناء (عوائلهم) الحزبيّة في أحضان النظام الانقلابي ، أحياناً بدعوى العمل على هدايته للسراط المستقيم ، و أحياناً أخرى بدعوى "تدميره من الداخل"، فولغوا قليلاً في فساده (دون قصدٍ ، طبعاً)، و بالتالي فإن إنفاذ طلب الجماهير المتسرّعة باستخدام الشرعيّة الثوريّة سيؤدي قطعاً إلى قطع الكثير من وشائجهم العائلية ، و تهديد كثير من مصالحهم الاقتصاديّة ، و تمزيق كثير من روابطهم الحزبية .. ها هنا يظهر من يسمون أنفسهم بال(حكماء) الأجاويد.. أنصار (المصالحة الوطنية) و (الهبوط الناعم).. . أقول لشبابنا ، من فجّروا هذه الثورة و ودّعوا المئات من إخوانهم شهداء ، إن هذا التخاذل لم يحدث في ثورتكم هذه فقط ، بل حدث مع ثورة آبائكم في أبريل ، و مع ثورة أجدادكم في أكتوبر .. و إن الذين استلموا ثورات أجدادكم و ثورات آبائكم هم ذات الرموز السياسية التي تنتظرون منها أن تستخدم شرعيّة ثورتكم في اجتثاث الفساد و رموزه ، و في القصاص لشهدائكم ، و من مات من أولئك الرموز خلفه أبناؤه أو أحفاده ، و من بقي منهم حيّاً تعرفونه في لحن القول و في أغنية "الهبوط الناعم".. . إسألوا أنفسكم جهراً : ما الذي يجعل ثوراتنا تتردّد في استخدام (شرعيتها الثورية المستحقّة) في الإصلاح، بينما يسارع الانقلابيون في استخدام (شرعيتهم الانقلابية) في الإفساد؟؟؟ . لقد لدغنا من ذات الجحر مرّتين (مع أنّ المؤمن لا يُلدع من جحر مرّتين).. فإيّاكم ، إيّاكم و الثالثة .. المواكب