* كلما طرَقت جدار القلب واحدة من أغنياته تراءى ذلك الوجه الذي تكاد الابتسامة تشقه فرحاً..! تتقافز أمامي ذكرياتنا القريبة والبعيدة معه، وهو يرتدي بدلاته واقمصته العتيقة التي لا يكف عن الفخر بأزمنتها؛ ويعتبره البعض يُبالغ ونحن في الألفية الجديدة حين يقول: (هذه البدلة اشتريتها سنة 53م؛ وتلك قام بتفصيلها الفنان محمد حسنين.. وذاك القميص يرجع للعام 1963.. أما هذا البنطلون فقد اشتريته من سوق الأبيض سنة 58..) ثم يخرج شيئاً عزيزاً من جيبه تبدو عليه آثار القِدَم؛ فيضيف: (المنديل دا عمره 30 سنة.. يعني أحدث شيء عندي).. ثم يضحك بصفاء ويرتحل (كطائر نادر) إلى عشه الدافيء؛ حيث يعيش بين جدران تعبق برائحة الكتب والأوراق القديمة في حى أركويتبالخرطوم.. لكل كتاب ولكل قطعة قماش يحتفظ بها تاريخ وذكريات..! للتاريخ والحكايات نكهة تخفف حمل الراهن وتفتت حصاوى الوقت في حضرة هذا (الولوف)…! * أكتب عن شاعرنا الجيلي محمد صالح وكأنه حاضر… فقد كنا نمشي سوياً؛ وبيننا فارق نصف قرن من العمر؛ ذلك قبل أن يتوارى عن دنيانا ويفجعنا بكل هذا الحنين إلى أيامه في مشاوير الخريف والشتاء.. من يعرفه عن قرب وعمق ويصادقه لا يشعر بفارق السنوات مهما صغر الصديق.. أكتب عنه الآن وقد طال فراقه؛ وهو المرهف الذي عذبه النوى حتى استبان في أغنياته بتعبيرات تأخذ شتى ألوان الأسى: يا الطال غيابك طال سنة وزيادة قول لى كيف ألقى السعادة..! * قال لي مراراً: (ولدت أثناء الكسوف الكلي للشمس منتصف نهار الجمعة 23 يوليو 1930م).. وله تفسير طريف لذلك الميلاد؛ مفاده أن من يولد أثناء الكسوف يبدع؛ يكون مميزاً؛ أو مجنوناً.. وكان يسخر أحياناً من ميلادنا المتأخر في أيام ثورة مايو ويقول: (والله إنتو يا أولاد مايو مساكين خلاص؛ ما شفتو حاجة).. يعتبر جيلنا مظلوم لم ير الاشياء (الحلوة) كما رأت عينه الوطن، وقد تجول الرجل في رحابه الواسعة حين كان موظفاً بالسكة الحديد (1947 1971م). * يحدثك عن القبائل ودلالات أسمائها.. والمفترى عليهم في تاريخ السودان.. وعدم انتمائه لحزب سياسي أوطائفة دينية.. كما تفرَّد شاعرنا بذاكرة ذهبية في حفظ أزمنة الوقائع وتفاصيلها كأنه جزء منها… يحدثك عن مغامراته في جبال النوبة وهزيمته للمصارع العملاق (أنقلو).. وهو المحبوب أينما أرتحل، المُكرّم بموهبته و(طيبته)؛ حتى تغنت له عفيفات مدينة الأبيض في ذلك الشتاء الستيني: الجيلي يا الراسي قاعد في الكراسي ود الحلال وينو كتَّر لِي هلواسي * بين عطبرة؛الخرطوم؛ الأبيض؛ بورتسودان؛ وجبال النوبة، أخلص في النشاط الثقافي؛ الرياضي وهو شاب آنذاك.. تألق في العمل الإجتماعي وأسهم في تأسيس بعض صروحه منذ منتصف الأربعينيات.. وهذه لمحه قصيرة جداً من سيرة نشاطه: 1 عضو مؤسس ورئيس لرابطة نهر عطبرة الأدبية المدرسية (1945م). 2 عضو مؤسس ورئيس فرقة كردفان الفنية بالأبيض (1956م). 3 عضو مؤسس ورئيس لرابطة السجانة الفنية ورئيس لجنة النصوص (1959م). 4 رئيس اتحاد شعراء الأغنية السودانية عند إعادة تأسيسه عام 1973م؛ وإلى 1979م * نال عضوية وسكرتارية أندية رياضية ثقافية اجتماعية في مدن سودانية مختلفة (وادي حلفا؛عطبرة؛بورتسودان؛الخرطوم) ومارس الملاكمة وكرة القدم.. لكن الناس عرفوه كشاعر غنائي عالي المقام ببساطة مفرداته ومباشرتها للمحبوب.. عرفوه بدأبه في أزقة الحياة بلا أنين وتذمر وقد ولّى الشباب.. كما عُرف بخفة دمه..! يقول عن نفسه في أحد حوارتي معه: (أنا محافظ على صحتي بالصِدق والصراحة وأكل التمر.. وآخر حبّة للملاريا بلعتها بالغلط سنة 1952)..! * عَبَرَت أغنياته ونالت مكانتها وعنايتها في الأفئدة؛ مثل "ماضي الذكريات" للفنان عثمان مصطفى: رحت في حالك نسيتني واعتبرت الماضي فات لما إنت خلاص جفيتني ليه بتحكي الذكريات * راجت أغنياته مثل "توبة" و"الحِبيِّب" لمحمد وردي… ومن أجمل ما تغنى به العاقب محمد حسن ذلك اللحن الدافئ الحزين "تظلمني ليه".. وغنى له عثمان حسين "كفاية".. وكتب لعبد العزيز داوود، ابن البادية، محمد حسنين، أحمد فرح، التجاني مختار، شرحبيل، وغيرهم. * له (غنائيات) عذبة سكنت معنا طرباً وقيمة… كنت حين أراه مقبلاً نحونا تتبادر هذه المعاني الندية: الجفا بعذب ضميرك وانت من طبعك مسالم فيها أيه تدي التحية حتى لو قصدك تخاصم * تذكرت الجيلي وقد حظيتُ بخط يده المُميز؛ فبعد جهدٍ مضنٍ عثرت على كراس أهداني له ذات مرة (تذكار) وطلب مني أن أحفظه! هذا الكراس أعاد للذاكرة ليالٍ كنت أوثق فيها لكل شاردة وواردة عنه وهو يحكي..! ما ألطف صحبته.. كان طيباً بكل ما للكلمة من وقار ونضار لدى السودانيين.. يؤمِّل خيراً على الدوام.. متفائل في أحلك اللحظات.. ويبغض الخصومة كما خبرته من خلال شخصيته المتسامحة.. رافقته وجلست معه في حوارات عديدة بدأتها من صحيفة "الوان" سنة 2000م.. إنه من شعراء (الإلفة) الذين يدعون للتصافي، مثلما حملت أغنيته الودودة (خصام) بصوت الفنان صلاح مصطفى: ليه يا حنين.. ليه الخصام شايفك نسيت.. دي الدنيا عيد وعارف خصام العيد حرام. * لا غرو فشاعرنا أبعد الناس عن الخصام.. ظل حتى وفاته يحلم بوطن من غير خصام.. كانت لحظاته (عيد) من التسامح في رحلة امتدت عبر تموجات السنين الطويلة بالعديد من العلاقات الاجتماعية والتجارب والمشاهدات والأشعار الجميلة.. فإذا طوى الموت الجسد، فإن روح العطر باقية.. رحمه الله.