رحل أمس الأول الشاعر الغنائي الكبير الجيلي محمد صالح، فتداعت أمامي ذكرياتنا القريبة والبعيدة معه، وهو يرتدي بدلاته واقمصته العتيقة بكل فخر: (هذه اشتريتها سنة 52.. وتلك قام بتفصيلها الفنان محمد حسنين.. وذاك القميص تاريخه قريب 1962.. أما البنطلون فقد اشتريته من سوق الأبيض سنة 58.. وهذا المنديل عمره 30 سنة فقط)... وللتاريخ والحكايات نكهة تخفف حمل الراهن وتفتت حصاوى الوقت في حضرته...!! أكتب عنه.. وكأنه أمامي... فقد كنا نمشي سوياً.. وبيننا فارق نصف قرن وزيادة: يا الطال غيابك طال.. سنة وزيادة قول لى كيف.. ألقى السعادة..! فهو كما قال لي مراراً: (ولد أثناء الكسوف الكلي للشمس منتصف نهار الجمعة 23 يوليو 1930م).. وله تفسير لذلك الميلاد مفاده أن من يولد أثناء الكسوف يبدع أو يكون مميزاً.. أما أنا فقد ولدت في العهد العسكري الثاني أيام النميري.. ولذلك كان يشفق على جيلنا ويعتبره مظلوماً لأنه لم ير الاشياء والزمن كما رأت عينه وقلبه الذي خفق في الجهات الثمانِ للوطن، وقد تمدد الجيلي في رحابه حينما كان موظفاً في السكة الحديد 1947 1971م..! يحدثك عن القبائل والشخوص .. والمفترى عليهم في التاريخ.. وعدم انتمائه لحزب سياسي أوطائفة دينية... كما كانت له ذاكرة ذهبية في حفظ أزمنة الوقائع وتفاصيلها... يحدثك عن مغامراته في جبال النوبة وهزيمته للمصارع العملاق أنقلو... وهو المحبوب أينما أرتحل.. والمكرّم بموهبته وطيبته.. حتى تغنت له بنات الأبيض في ذلك الشتاء الستيني: الجيلي يا الراسي... قاعد في الكراسي ود الحلال وينو... كتر لي هلواسي وبين عطبرة والخرطوم والأبيض وبورتسودان وجبال النوبة، أسهم الجيلي محمد صالح في النشاط الثقافي، الرياضي، ناشطاً في العمل الإجتماعي وتأسيس الصروح الإنسانية منذ منتصف الأربعينيات... لكن الأوساط عرفته كشاعر غنائي عالي المقام في بساطة مفرداته ومباشرتها للمحبوب.. وكما يقول عن نفسه: أنا محافظ على صحتي بالصدق والصراحة وأكل التمر..!.. وقد وجدت أغنياته مكانتها وعنايتها في الأفئدة، مثل ماضي الذكريات للفنان عثمان مصطفى: رحت في حالك نسيتني... واعتبرت الماضي فات لما إنت خلاص جفيتني... ليه بتحكي الذكريات ثم: توبة والحِبيِّب لمحمد وردي... ومن أجمل ما تغنى به العاقب محمد حسن في ألحانه الدافئة الحزينة تظلمني ليه..... وغنى له عثمان حسين كفاية.. وكتب لعبد العزيز داوود، ابن البادية، صلاح مصطفى، محمد حسنين، احمد فرح، التجاني مختار، شرحبيل، وغيرهم. وله رسائل غنائية عذبة سكنت معنا طرباً وقيمة... فكنت كلما رأيته قادماً علينا تبادرت هذه المعاني: الجفا بعذب ضميرك *** وانت من طبعك مسالم فيها أيه تدي التحية *** حتى لو قصدك تخاصم كان رجلاً ضد الخصومة كما عرفته من خلال حوارات عدة بدأت من صحيفة الوان سنة 2000م... وهو ضمن شعراء الإلفة الذين يدعون للتصافي، مثلما حملت أغنية خصام بصوت الفنان صلاح مصطفى: ليه يا حنين.. ليه الخصام.. شايفك نسيت.. دي الدنيا عيد.. وعارف خصام العيد حرام. الجيلي محمد صالح الفكي.. رحلة امتدت عبر تموجات السنين الطويلة بالعديد من التجارب والمشاهدات والأشعار الجميلة.. فإذا طوى الموت الجسد، فإن روح العطر باقية.. اللهم اغفر له.