لا يخفى أن الطبيعة شديدة التعقيد للمهام الانتقالية الحالية تفرض الكثير من الحذر في تنفيذ الإجراءات، كما تفرض الدراسة المتأنيّة للفرص والمخاطر، ثم تصميم خطة ببرنامج زمني تقوم بمرحلة المطلوبات بصورة تتلافى المخاطر وتعظم الفرص وتضمن قيام الملاجئ قبل هدم المنازل. ولأن الثورة قد أزالت الأسوار وفتحت شهية الرأي العام والفعل الشعبي على لعب دور أكثر عمقاً في صياغة السياسات، وجب تكثيف النقاش في الأولويات حتى نضمن الاستثمار الأفضل لطاقاتنا عن طريق إضافة بُعد زمني للرؤية الثوريّة. القصد من هذا الرأي ليس عمل تقييم لأهمية شئ ما بقدر ما هو محاولة لتحديد الترتيب المناسب لعمل مجموعة من الإجراءات، الترتيب الذي لا تمليه الأهميّة بقدر ما تمليه تضاريس الواقع. بالتحديد، أحاول عرض بعض الآراء عما يجب علينا القيام به قبل المطالبة ب: تسريح/ دمج الدعم السريع، وإنجاز العدالة. في البداية تلزم الإشارة إلى أن الطريق الذي يحاول هذا المقال السير فيه يعترف بالوثيقة الدستورية كوسيلة لقسمة مسؤوليات السلطة الهادفة إلى تحقيق إرادة الشعب السوداني التي عبّرت عنها ثورة ديسمبر المجيدة، وليس كسند ملكيّة لبعض الأطراف لمغانم من جهاز الدولة بما يتيح لهم حق ممارسة سلطة مطلقة غير مقيّدة بالإرادة الشعبية أو بالمؤسسات المعبّرة عنها. لذلك فهو يتخذ خيار الدعوة إلى الإظهار الواضح والمضطرد للإرادة الشعبية في الإجراءات المطلوبة بحيث يقطع هذا الإظهار الطريق أمام أي استخدام للسلطة الممنوحة من الوثيقة الدستورية بما يناقض أهداف الثورة. لا أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لدمج قوات الدعم السريع في الجيش أو تسريحها. لا يسعنا العبث بميزان القوى الذي جاءت عليه الثورة ودُشّنت في ظله المرحلة هكذا من دون توخي الحذر اللازم، وموقع حميدتي في مجلس السيادة لا يجب أن يُقرأ كمنحة من صديق، لا يجب التخمين في المسائل الحرجة بهذه السرعة، يجب أن نقرأ الواقع على أساس أن كل سلطة تم انتزاعها انتزاعاً، وهي معبرة عن ما يختبئ خلفها ويُمليها من قوة عسكرية. الثورة تريد أن تلغي معيار القوة العسكرية في الفوز بالسلطة، هذه غاية الغايات ولها طريقها ووسائلها. حميدتي مثال صارخ على هذا الاختلال في منطق السلطة الذي تمقته الثورة ويمقته كل من يرجو خيراً للشعب السوداني. ولكن، من يضمن أن الجيش بتركيبته وعقيدته الحالية سيتمسك بالعملية الانتقالية حال خلو الساحة من الدعم السريع؟ لا أقول أن حميدتي هو حامي حمى الانتقال الساهر، ولكن لدينا إطار دستوري متفق عليه والدعم السريع جزء منه، وهو وضع استقرّت عليه الأمور بعد أن أتيح لكل الأطراف تجربة جميع أسلحتها. ماذا سيحصل إن غاب الدعم السريع عن المعادلة؟ ولا حاجة لتكرار المُكرر حول حقيقة جيش الإنقاذ. إذاً فما العمل؟ هل يبقى الدعم السريع إلى الأبد؟ بالطبع لا يمكن أن ينادي عاقل باستمرارية وجود هذه القوات التي يقودها أَخَوَان، ولكن قبل التصرف بشأنها يجب ضمان وجود جيش ذو عقيدة ديموقراطية، مع الأسف يبدو أن عملية الإصلاح هذه ما تزال بعيدة عن تفكير القادة العسكريين. على حميدتي ما يكفي ويفيض من المآخذ، ولكن هذا لا يعني الانصراف عن واجب تقييم مخاوفه الشرعيّة ومعالجتها برويّة، فرأسه هو أول ما سيتدحرج بانقلاب الثورة المضادة المستحيل، ولكنه لا يرى استحالته لأن معاييره عسكرية بحته، بل ويمكن أن يراه حتمياً حال تفكيك قواته، وهذا احتمال يجب أن لا يترك للصدفة أو محض الآراء والتوقعات حول الثورة وطبيعة الجيش وتوازناتهما. يجب مزامنة إصلاح الدعم السريع مع إصلاح الجيش بطريقة منهجيّة مراقبة ومُتحكم بها مدنياً وتحفظ ماء وجه المؤسسة العسكرية، وهذه مرحلة لها متطلباتها والأرضية المناسبة لها التي لم يتم خلقها بعد. ولكن هيهات أن نحصل على درجة ثابتة من التعقيد في ظل هذه التركة الكارثية للعقود الثلاثة المظلمة: تجاوزنا اليوم الوضع البسيط نسبياً إلى معضلات دمج الحركات المسلحة الموقِّعة أوالتي يُنتظر توقيعها، مع الأسئلة الصعبة حول التأهيل والتجنيد العشوائي. مع العلم بأن هذه الحركات قد اختارت الدخول من نفس باب الدعم السريع: منطق السلطة بالقوّة العسكريّة والابتزاز بالقدرة على صناعة الخراب. بدلاً من أن تدعم هذه الحركات المدنيين للحصول على المزيد من السلطة على المؤسسات العسكريّة لضمان عمليات إصلاح حقيقي تسمح بترتيبات أمنية مطمئنة، اختارت أن ترسم خطاً فاصلاً بينها وبين الثورة لتفاوضها تفاوض الأعداء، ونسيت أن أعداءها الحقيقيين ما زالوا يحتفظون بمواقعم الحصينة بمنأىً عن أي تأثير ثوري داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية. ورغم تعقيد هذا المشهد، أعتقد أن الحل ينطلق من مبدأ بسيط: كل هذه الجيوش هي جيوش سوادنيّة، كلها فيها المؤهل وغير المؤهل، فيها المهني والعقائدي، النزيه والفاسد، لذلك فإن عمليات الإصلاح المؤسسي بالإضافة إلى عمليات التسريح وإعادة الدمج المعهودة والتي تستند على مؤشرات تقييم موحَّدة للعسكريين مع أهداف بخلق التنوع الكافي والمُطّمئن للمكونات الوطنية، هذه العمليات هي ما يمكن الاعتماد عليه لحل هذا التعقيد. يجب أن يحدث ذلك عن طريق مفوضيّة تتبع لمجلس الوزراء بممثلين من كل الأطراف العسكريّة، لأنه لا توجد طريقة للحصول على الثقة الكافية في العملية من كل الأطراف إلا تحت قيادة مدنية. تقوم هذه المفوضية بوضع المعايير وعرضها على البرلمان وضمان الاتفاق الكافي حولها ثم تطبقيها، تطبيقاً يشمل عمليات الإصلاح المشار إليها سابقاً للجيش و الدعم السريع. أما الآن، يبدو أن كل ما ستنجزه الترتيبات الأمنيّة على حسب اتفاق جوبا هو إدخال كتل غير متجانسة –ومزيّفة في بعض الأحيان- إلى داخل المؤسسات العسكرية قبل تنقية هذه المؤسسات من عدائها العقائدي للكتل الجديدة، وبطريقة مثيرة لحفيظة منتسبي هذه المؤسسات مما ينتهي إلى عملية دمج صوريّة ترفع أسواراً معنويّة عالية بين المكونات. على قادة الحركات التعلم من تجاربهم في الوظائف الصوريّة والحواجز غير المرئية مع النظام البائد. هنالك هم وطني عسكري كبير لا يمكن اختزاله في الترتيبات الأمنيّة، ويجب التعامل معه بالاتساق والعمق والشمول الذي يستحقه عندما يحين الأوان. لا يستطيع المراقب لأحوال البلاد والمطالبات الشعبية غض الطرف عن الحاجة إلى الإصلاح المؤسسي كعامل مشترك بين جميع المشاكل المتداولة، سواء من حيث محوريته كجزء من إجراءات العدالة الانتقالية، أو دوره في أداء جهاز الدولة الذي ينغص كل أوجه الحياة اليوميّة. بالنسبة للعدالة، فإنها ليست ثمرة عمل الأجهزة العدلية فقط -وهي أيضاً بحاجة للإصلاح، ولكنها تقوم أيضاً على البنية الأمنية التحتية التي تمتلك شبكات المراقبة والتحري التي يصعب أن تقوم المؤسسات العدلية بتعويضها. الأجهزة الأمنية بتكوينها وعقيدتها وقيمها وثقافتها الحالية تشكل موضع قلق حول إخلاصها الكامل للعدالة وتثير التساؤل حول ما يمكن لقوى التمكين التي ظلت سالمة فيها تلفيقه أو إخفاؤه في قضايا تحمل الكثير من الاحتقان الشعبي بل والكثير من النفوذ المالي- العسكري- الإعلامي والمخابراتي أيضاً. النقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هي تأثير عمليات سير العدالة في جرائم ارتكبها بعض منتسبي الأجهزة الأمنية والعسكريّة على التوجّه السياسي لهذه الأجهزة: سوف تشكل هذه العمليات ضربة للكبرياء المهني والروح المعنوية لهذه الأجهزة وذلك بسبب عقيدتها الموروثة التي تضعها كقبيلة منفصلة وصاحبة امتياز في مقابل "الملكيّة" الفوضويين، لتقوم بالتالي بتوسيع الشرخ الواسع أصلاً بين هذه القوات والنظام الذي أتت به الثورة، وتضعها في حالة تأهب لاستغلال أي فرصة لمساندة الثورة المضادة سواء بالتمادي في التخاذل أو بالفعل الإيجابي. إذن، فعدالة ما قبل الإصلاح مشكوك في عدالتها حيال جرائم الماضي، كما أنها مشكوك في عدالتها تجاه مستقبل البلاد. لا أتصور أن يوجد حالم يتوقع سهولة تطبيق عمليات الإصلاح المؤسسي على الجيش والدعم السريع، ولكن أعتقد أن بداية العملية في جهازي الشرطة والأمن هي ما يمكن أن يرفعنا خطوة في طريق إنجاز المطلوبات الكبيرة، وهذا أيضاً تحدٍ كبير يلزم المثابرة الشعبيّة رغم وجود الإصلاح الأمني كواحدة من الأولويات الخمسة لمجلس الوزراء الحالي. وقد سمعنا أخبار جهاز الأمن الداخلي وقانونه المثير للجدل الذي كشف الصراع الأمني بين المدنيين والعسكريين في أجهزة الحكم، حيث بدأ الحديث عن الجهاز المزمع في مارس 2020 كما أعتقد ولم يتم أي إنجاز يُذكر إلى الآن بعد مرور أكثر من عام، مما يعطي فكرة عن ذعر القيادة العسكرية من إعطاء أي إمكانات أمنية للمدنيين، فما بالك إن كان الحديث عن الجيش. إذا تمكن الجانب المدني من السيطرة على الشرطة وإصلاحها بنجاح فسوف ينعكس ذلك سريعاً على جوانب الأداء الحكومي الأخرى، ويقوم بتقوية الحكومة وشعبيتها وصناعة بعض المجد للمدنيين وبناء شيئ من الثقة مع العسكريين بعد تبيان أثر الإصلاحات في ترميم العلاقة بين المؤسسات والشعب واستعادة الاحترام المفقود، مما يضع الحكومة في موقع أفضل لإنجاز الخطوات التالية. تبدو الصورة شديدة الوضوح: لا أمل في أي إنجاز في المضمار الأمني- العسكري ما لم نقم ب: 1) تجزئة الإصلاحات ومرحلتها إلى شرطة وأمن ثم جيش ودعم على الترتيب، و2) تحقيق سند شعبي عارم لهذه المطلوبات بصورة مستمرّة ومنفصلة لكل مرحلة. وقد وصل لاعب الضغط الدولي إلى الميدان مبكراً عن طريق القانون الأمريكي لدعم الانتقال الديموقراطي، وهو في انتظار انتظام زملائه لاعبي الفريق الشعبي وإطلاقهم صافرة البداية. نأمل ثواب الحركات المسلحّة إلى رُشدها والانضمام إلى فريق الانتقال الديمقراطي بعدما فقدنا الأمل في "النموذج السوداني" بسبب إصرار القادة العسكريين على الحرمان الأمني الكامل للثورة. الحوجة إلى الإصلاح المؤسسي تجعلنا نحتاج أولاً إلى برلمان يخلق له الإطار التشريعي المناسب ويراقب تنفيذه حتى لا يتم الاختباء خلف اسم الإصلاح لزيادة تمكين القادة العسكريين الجدد وربما نقل العدوى العشائرية إلى الأجهزة. دورنا في هذه المرحلة هو التعجيل بتكوين برلمان حقيقي يحمل اسمه كمجلس للشعب، كمطلب مفتاحي وواضح واحد لا يحتمل المماطلة أو الاختزال بتنفيذ ربع مطالب القائمة. لماذا لا نسترجع مواكب الخميس ونقوم بتثبيتها للمطالبة بالمجلس التشريعي؟ هذه المرّة يجب أن نحذر من التحايل في تنفيذ المطالب، فالبرلمان ليس منتجاً ثابت المواصفات، يمكن أن نقوم بالضغط بالصورة المطلوبة لنفاجأ ببرلمان صوري تعمل أغلبيته بتعليمات من دوائر ضيقة خارجه- والله أعلم بما يتم طبخه حالياً. ولكن ما من سبيل لحلول مثالية الآن. أقترح أن تكون المطالبات بتكوين البرلمان خلال شهر من انطلاقها، والمناداة بتفويض ومسؤوليّة كاملين لرئيس الوزراء حول كل تفاصيله إلى أن يباشر أعماله، وذلك لحسم الخلافات اللانهائية حول المقاعد. قد يتخوف البعض من الخلط بين السلطات ولكن لا يوجد حزب اسمه حزب رئيس الوزراء يمكن أن يبصم أعضائه على كل ما يصدر منه، بالإضافة إلى أن الرجل يبدو أقرب كثيراً للكتلة الشبابيّة الثورية غير الحزبية بالمقارنة مع القادة الحزبيين المتناكفين، كما أنه يمكن أن يشكل المخرج الوسط الذي تحتاجه البلاد ما بين الهبوط الناعم والاصتدام العمودي بالمدرج. في كل الأحوال نحتاج مخرجاً عملياً الآن، مخرج لا يقبل الفشل ولكنه لا يسعى وراء الكمال. يجب أن تصل الرسالة واضحة لما تبقى من الحرية والتغيير أن المماطلة في المجلس التشريعي وصلت لمدى غير مقبول اختبر حد صبر الشعب السوداني ويهدد دستورية الوضع القائم برمته. يجب إعلان جميع المؤسسات الانتقالية بما في ذلك الحرية والتغيير مؤسسات تسيير أعمال غير مفوضة بالصلاحيات الكاملة إلى حين قيام المجلس التشريعي، والمزيد من المماطلة تعني أننا نعيش في ظل نظام انقلابي. بالإضافة إلى أن مباشرة البرلمان لأعماله سوف تلقي مرساة الانتقال التي طال انتظارها على شاطئ الديمقراطية وتوفر شبكة أمان قادرة على ترسيخ النظام وتغيير الحكومات العاجزة بدون مخاطرة، فإنها كذلك سوف تفتح الطريق للمرقاة التالية والنضال الشعبي للمناداة بإصلاح أمني شامل مشرَف عليه مدنياً ومراقب بممثلين موثوقين. اقتباس من موقع المركز الدولي للعدالة الانتقالية ICTJ: " غالبًا ما تكون المؤسسات العامة – مثل الشرطة والجيش والقضاء – أدوات للقمع والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان. عندما تحدث التحولات إلى حكومة ديمقراطية ، فإن إصلاح هذه المؤسسات أمر حيوي. الإصلاح المؤسسي هو عملية مراجعة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة بحيث تحترم حقوق الإنسان وتحافظ على سيادة القانون وتكون مسؤولة أمام ناخبيها. من خلال دمج عنصر العدالة الانتقالية ، يمكن لجهود الإصلاح توفير المساءلة للجناة الأفراد وتعطيل الهياكل التي سمحت بحدوث الانتهاكات. يمكن أن يشمل الإصلاح المؤسسي العديد من الإجراءات المتعلقة بالعدالة ، مثل: التدقيق: فحص خلفيات الموظفين أثناء إعادة الهيكلة أو التوظيف للتوقيف من الخدمة العامة أو معاقبة المسؤولين المسيئين والفاسدين. الإصلاح الهيكلي: إعادة هيكلة المؤسسات لتعزيز النزاهة والشرعية ، من خلال توفير المساءلة ، وبناء الاستقلال ، وضمان التمثيل ، وزيادة الاستجابة. الرقابة: إنشاء هيئات رقابة مرئية للعامة داخل مؤسسات الدولة لضمان المساءلة أمام الحكم المدني. تحويل الأطر القانونية: إصلاح أو إنشاء أطر قانونية جديدة ، مثل اعتماد تعديلات دستورية أو معاهدات دولية لحقوق الإنسان لضمان حماية وتعزيز حقوق الإنسان. نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج: حل الجهات المسلحة – مثل الجماعات شبه العسكرية – وتوفير العمليات والوسائل المراعية للعدالة التي يمكن من خلالها للمقاتلين السابقين الانضمام إلى المجتمع المدني. التعليم: برامج تدريبية للمسؤولين والموظفين العموميين حول معايير حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المعمول بها. يهدف الإصلاح المؤسسي كإجراء من إجراءات العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بالضحايا كمواطنين وأصحاب حقوق وبناء الثقة بين جميع المواطنين ومؤسساتهم العامة. وتشمل التدابير للمساعدة في ذلك تعزيز حرية المعلومات ، وحملات الإعلام العام حول حقوق المواطن ، وتدابير الإصلاح الشفوية أو الرمزية مثل النصب التذكارية أو الاعتذارات العامة. "