غباء هو أن تحكم على من لا تعرف من شكله و مظهره فكيف من كتابته! حتى و إن كنت تتمتَّع بقوى خارقة للطبيعة أو حدس حاد ثاقب فالغالب أن حكمك سيكون باطل. العمل العام يجعل الفرد مكشوفاً "للمحاسبة" في قراراته و تصرفاته و حتى طريقة تصريحاته و ملبسه و كلامه فيُصبح "في الواجهة" فيتعرض للشكر و المدح أو النقد و الذم. التعرض للنقد في الوظائف القياديَّة الحكوميَّة أمر مُتوقَّع و يكاد يكون "ضريبة" العمل العام. فأنت تشارك في حكم الدولة و قراراتك تتعلق بحال و شؤون الناس فيها. و لأنَّ النقد منه الغث و منه المفيد الحكم يبقى على الحقيقة و المصداقيَّة فيما يكتب أو يقال. الثورة في بدايتها قام بها طلاب المدارس إشفاقاً على أسرهم من غلاء المعيشة و أبسط ما فيها "العيش"؛ ثم تصاعد الأمر من هول تصدِّي النظام لهم و غدر "سدنته" فتساقط الشهداء الكرام حتى كانت مجازر الإعتصام تتويجاً لمهرها و ثمنها الثورة فانتصرت و أُسقط السدنة بنظامهم. فعندما نُطالب بحق الشهداء "أولاً" و القصاص لهم فنحن نتعالى و نتسامى عن المطالبة بمجانيَّة الرغيف ثمناً له -حق الشهداء- و ما كنا أبداً لنُساوم على أرواحهم الطاهرة. و الإنقاذ في أوَّل أيامها لاقت الترحيب من جموع مختلفة من الشعب و وقف معها المؤيد و المدافع و المساند. حتى نميري وجد الترحيب و التهليل في أوَّل قدومه و بعد عودته الأخرى! و مع الوقت تغيَّر البعض و ثبت البعض و سكت بعض! إطلاق الأحكام المسبقة و "المُعلَّبة" شيء من طبيعة البشر عن تجاربهم التي خاضوها و ما في نفوسهم من مرارات عاشوها. إن كان البعض فيه من التشاؤم فلا بأس عليه فالتجارب و الأعمال بنتائجها و خواتيمها. تبقى الكتابة وسيلة تعبير و فضفضة؛ مِنَّا مَن يُجيدُها أو يُحاول و مِنَّا من لا طاقة له بها أو لا قدرة له عليها. نقرأ و نحاول أن نفهم لكن العقول بيننا كالأرزاق مُقسَّمَة فالفهم السليم كالكتابة يبقى "نعمه". فالتحيَّة دائماً لكل من قرأ لنا فعاب علينا أو لنا أرسل تحيَّة. الإعجاب بالجديد و الترحيب به خاصة بعد سنوات من الضيق و القهر و الظلم هو حقٌّ مشروع بل فطرة سليمة أن نتفاءل و الأمر تكرر مع كل حكومة و نظام جديد فينا. الحق أن في التاريخ كانت أصعب الأوقات و "أخطرها" على الأمم و الدول هي تلك الأيام التي تعقب الثورات مباشرة عندما تسقط و "تُقتلَع" الأنظمة و تنكشف الدولة. فالشعوب الثائرة لحظتها تتفجَّر فيها مشاعر الفرحة و النصر مع نيران الغضبة و الثأر و وقتها تسقط -وقد سقطت- شعوب و دول في حروب من صراعات و اقتتال داخلي و أخذ للثارات و غلّ الإنتقام إلا أن يتقدمها في الحكم في فتراتها "الإنتقاليَّة" الحرجة عقول تفهم المعنى و تعرف القيادة أن كيف تكون. أتتذكَّرون عندما كان البشير و نظامه "يخوِّفُوننا" من المجهول و الفوضى بسقوطهم. شعب السودان في ثوراته كلها هو أستاذ بل "مدرسة" منه الشعوب تقف إحتراماً و تتعلم. فسلميَّة ثورات السودان كلّها لم يُعَكَّر صفوها إلا غدر الأنظمة و بطش أجهزتها الأمنيَّة ثم خُذلان الحكومات الإنتقاليَّة. العدل هو ما نبحث عنه و لشهداء الثورة أولاً حتى نُؤقن أن من في الحكم اليوم قادرين عليه. فالثورة كان الثمن لها غالي فالأمر لا مُجاملة فيه فلا معنى لأن تنتظر ممَّن عجز أن يُنصف الشهداء و هو يعلم مثل ما تعلم أنت من قتلهم أي خير. و لا معنى لأن تُدافع عنهم في الزعم الصبر على إنجازاته و عدم الجُحود و النكران لها و "تبخيسها" فنحن لا نُحاكِمُهم بل نُحاسبهم و نطلب منهم أن يبدؤ بالأهم أولاً فالمهم و لا يُشغِلُوا أنفسهم و يُشغِلُونا معهم في صراعات الديكة فإن "عجزوا" فليدعوا ما لم يقدروا عليه لمن هو أقدر. فالسلطة زائلة و الحق مصيره سينتصر إن بك أو بهم أو بغيركم. فإلى الذين مازالوا يحبون إطلاق الشتائم و التخوين "بالكوزنة" و "تسطيح" الحقوق و السرعة في الردود و صرف الأحكام الجاهزة نقول لهم هي ساقية تدور بكم و عليكم كما دارت على من سبقكم و بهم. فلا أحد قادر على الزعم أنه فاهم لكل شيء حتى الذين في مجالس الحكم أنفسهم فكيف بنا نحن؟! و إلى الذين "عَيَّنوا" و فوضوا أنفسهم مُدافعين عن الحكومة في "حَبْوِهَا" و سكوتها عن الحق و تفسير الأخطاء و تعليل الضعف الذي بها نقول لهم لا أحد منهم وقت الجد كما حدث للكيزان سينفعكم فهم أساساً لا يروكم و لم يسمعوا بكم. فدعوا النقد يصل إلى غايته و إتركوهم هم من تُصيبهم حجارته و سهامه. فبيوت الزجاج أو قصوره إن كانت لنا أو لهم أو حتَّى لكم هي من سيتكَّسر فوق رؤؤس ساكنيه. و مثالكم الحي "البشير" في محبسه و غيره في مدفنه. الكتابة قد لا تعني لهم شيئاً فما لكم بما لا طاقة لهم هم به؟! فالشيطان لا حاجة له بحرَس لا عبدَة و لا سدَنة. نعود إلى سودان ما بعد الثورة و المطلب الأساسي هو الإنتصار للشهداء الذين بأرواحهم انتصروا هم للثورة التي جاءت بكل من في السلطة اليوم ممَّن حتى يوماً لم يحلم بها أو يُصدِّق بلوغها و إن في منامه! القصاص أولاً بعيداً عن أي مُزايدات أو إتهامات أو مُكايدات للمطالبين به من عقول قاصرة الإدراك و الفهم تسمي الحق هنا بغير إسمه! دعونا من الوضع المعاشي كله فذاك مقدور عليه لكن بعد إقامة العدل أولاً و ثانياً و حتى أخيراً. الحال نفسه تكرر مع كل نظام من مدافعين عنه يتَّهمُون كل رافع لمطلب حق بأنهم "مُحَبِّطين" مُثبِّطين "مُرجفين" رافضين ساخطين على كل شيء و للا شيء. النظرة الضيقة تلك من ضيق العقول التي لا ترى أبعد من موضع أقدامها! أنت يحكمك قتلة أيدهم ملطخة بالدم -و دم من؟ إخوتك و أهلك!- و تعلم و تشهد و تتفرج ثم تنتظر من ربك الفرج! بل و تريد ممن خالفك أن يتَّبع نهجك الإنهزامي الشيطاني فيسكت. أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ فلا عجب أن الكيزان في سجونهم رغم ظلمهم و جبروتهم مازالوا يُسبِّحون بكرة و أصيلاً؛ فالشياطيين اليوم كما الأمس مازالت "تتلَبَّسَنا"! "البشير" قتلَ و هم قتلَوا؛ فحُبسَ "عمر" و هم من حكمُوا! الثورة "لن" تنتصر بالدفاع الأعمى و الغيرة الحمقى و تخوين الغير؛ بهكذا طريقة تُصنَعُ من جديد "أصنام" لتُقدَّسَ فتُعبَد! و الفرعون لا محالة سَقط و سيسقط. الكتابة في كل أشكالها تُنتقد في فكرتها أسلوبها و الفائدة منها؛ لكن لا معنى لإطلاق الأحكام على أصحابها مالم نك نعرف حقيقتهم و نعرفهم حقَّاً. فنحن نقرأ للكثير من الكُتَّاب و الأسماء ممَّن نعرف و لا نعرف لكن الفرق بيننا في مقدار ما نحن نفهم هذا إن كنَّا حقاً نفهم! فمن يتعلَّم؟! سبحان الله [email protected]