سيناريوهات ليس اقلها انقلاب القبائل على المليشيا او هروب المقاتلين    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    خطوط تركيا الجويّة تدشّن أولى رحلاتها إلى السودان    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    شاهد بالفيديو.. خلال حفل بالقاهرة.. فتيات سودانيات يتفاعلن في الرقص مع فنان الحفل على أنغام (الله يكتب لي سفر الطيارة) وساخرون: (كلهن جايات فلاي بوكس عشان كدة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. خلال حفل بالقاهرة.. فتيات سودانيات يتفاعلن في الرقص مع فنان الحفل على أنغام (الله يكتب لي سفر الطيارة) وساخرون: (كلهن جايات فلاي بوكس عشان كدة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    حياة جديدة للبشير بعد عزله.. مجمع سكني وإنترنت وطاقم خدمة خاص    شاهد بالفيديو.. شيبة ضرار: (موت الشهيد مهند لن يشفي غليلنا حتى لو انتهوا الدعامة كلهم وهذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعوضنا ونقدمه له)    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    هدف قاتل يقود ليفربول لإفساد ريمونتادا أتلتيكو مدريد    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    ((أحذروا الجاموس))    كبش فداء باسم المعلم... والفشل باسم الإدارة!    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    مبارك الفاضل..على قيادة الجيش قبول خطة الحل التي قدمتها الرباعية    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    التغير المناخي تسبب في وفاة أكثر من 15 ألف شخص بأوروبا هذا الصيف    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار    ما ترتيب محمد صلاح في قائمة هدافي دوري أبطال أوروبا عبر التاريخ؟    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    السودان يستعيد عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد العربي لكرة القدم    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد إقتراح وضع السودان تحت الوصاية الدولية
نشر في الراكوبة يوم 21 - 03 - 2022

بينما الإنقلابيون متشبثون بالحكم دون سند دستوري أو شعبي ، ومتمادون في التحطيم والعبث بالدولة وأهلها في كل إتجاه ، وبينما الأحزاب لاهية تتقاذفها الأهواء وضبابية الرؤى ، وبينما تكوينات المقاومة الشبابية متمادية في سخطها علي كل شيئ وفي رفضها للآخرين شخوصاً وتاريخ ، يزداد إنحدار السودان نحو الهاوية وتتفاقم الأمور فيه بشكل مزعج ومتسارع بالشكل الذي جعله لم يعُد ذلك الوطن الذي كان أو الذي تَطَلَّع له جيل عشرينيات القرن العشرين الذين كانوا مشبعين من ناحية بروح معارك كرري الجهادية ، وخارجين من ناحية أخرى برؤى إنفتاحية وتحررية أشعلتها معارك الحرب العالمية الأولى التي نفثت فيهم روحاً جديدة تصبو للحرية و للإنعتاق من ذُل الإستعمار ، تشبثاً بحق الحياة في وطنٍ حرٍ مستقل ، يحكمه بنوه ، وتظلله مفاهيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. تلك الظروف حدت برجل في قامة البطل علي عبداللطيف أن يصدح بصرخة سجلها له التاريخ في شكل نداء أو مقالة بعنوان :- مطالب الامة السودانية ، كانت بداية لكفاح سياسي وثوري طويل وشاق ، إنتهى بخروج الإستعمار ، وإعلان إستقلال السودان في مطلع يناير من عام 1956م .
لكن ماحدث خلال الستة والستين سنة التي أعقبت الإستقلال ، يمثل في مجمله خيبة قومية لأجيال تعاقبت منذ إنهيار مؤتمر الخريجين في أربعينيات القرن العشرين وحتى يوم الناس هذا ، مما يستوجب بعثاً جديداً ونداءً متجدداً في هيئة مطالب مستحدثة وعاجلة للأمة السودانية في تيهها الحالي علها تلتفت قبل ضياع السودان نهائياً وإلى الأبد . إن الوطن ظل لعقود طويلة يئن تحت محنٍ وإحنٍ وإبتلاءاتٍ وخيبات سياسية وإقتصادية ومجتمعية تهدد بفنائه ، مما يستوجب البحث عن مخرج مستنبط من من خارج الصندوق ، بحثاً عن بداية جديدة وبعث جديد للوطن من خارج الاُطر التقليدية الداخلية التي أوردت السودان وأهله موارد الهلاك والمسغبة المهيمنة علي كل نواحيه حالياً .
دعونا نعترف بداية بأننا قد فشلنا كلنا ، مدنيين وعسكريين وتكنوقراط وسياسيين ، في إدارة وطننا سياسياً وإقتصادياً . لقد تعاقبت علينا أنظمة شمولية قاهرة ، وأنظمة حزبية فاشلة ، وتولى أمورنا من خابت آمالنا فيهم من جيل الإستقلال ، وما تلاهم من أجيال عسكرية ومدنية ، وأكملت ثلاثينية الإنقاذ رسالة الخراب والتخريب ، بينما غرق مؤخراً تكنوقراط الثورة في بحار الضعف والتردد وفقدان الإتجاه ، فاصبح في كل حين يسيطر على الأفق مَن ضعفت فيهم الوطنية وصِدْق الإنتماء ، وقويت فيهم الأنانية والتفكير الفردي الذي يجعل الذات هي المحور وماعداها يذهب إلى الجحيم ، حتى و إن كان الوطن وأهله !!!.
بالإضافة إلى هذا ففي ظني أن ترك الأمر للأجيال الشبابية الصاعدة المسيطرة علي الساحة حالياً ، لا يستقيم ولا يطمئن لأنها ببساطة غير مؤهلة بشكلٍ كافٍ ، لا أكاديمياً و لا وطنياً ، لتحقيق آمال الأمة السودانية في الحرية والعدالة والسلام ، ولا أظنها مستوعبة بقدر مطمئن لمفاهيم النهضة الإجتماعية والتنمية الإقتصادية ، لأنها رغم حماسها وإندفاعها الظاهري ، لا تمتلك الحس اللازم والصحيح لهذه المفاهيم ، ولهذا لا تُقَدِّر أهميتها ، وضرورة تحقيقها، وعِظَم عبء المحافظة عليها . ليس هذا فقط بل حتى تأهيلها العلمي و الأكاديمي ، منذ سُلم نميري التعليمي الفاشل وحتى ثورة التعليم العالي الإنقاذية التي أطاحت بسمعة الخريج السوداني ، لا يؤهلها لإخراج الوطن من ورطته ومأذقه الحالي .
أما مَن لا يزالون على قيد الحياة من سياسيي ما بعد الإستقلال وحتى الآن ، فإن الفشل مُجسَّد فيهم وفي ما خلفوه من بصمات سالبة وعجز ظاهر ، في كل شئون الحياة السودانية ، ليس أقله تركهم البلاد لحكم العسكر لأكثر من ثلثي عُمر الإستقلال !!! .
لهذا ولغيره مما لا تخطئه عين المراقب والمتابع من خارج دوائر ما يسمون بالمجموعات الفاعلة في الساحة السياسية ، فإني أعتقد أن الخروج من هذه الورطة يقتضي التفكير جدياً و سريعاً في إنقاذ السودان من عبث بنيه بوضعه مؤقتاً تحت مظلة الوصاية الدولية لمدة عشرة سنوات يكون خلالها تحت رعاية مجلس الأمن الدولي مباشرة ، وذلك من أجل تأمين البلاد مِن أعداءٍ طامعين يتناوشونها خارجياً ، ومِن أبناءٍ عاقين يسعون لتمزيقها داخلياً ، ومن هواة حُكم مفتقدين للمقدرات اللازمة .. إنها سانحة لتوفير فرصة جديدة للسودانيين لإعادة هيكلة بلادهم إدارياً وإقتصادياً علي أسس سليمة ، وإعادة توطينها في عجلة الإقتصاد العالمي وآلياته ، وقفاً للتدهور العام المريع والمتزايد ، وإنطلاقاً بالبلاد نحو آفاق تنمية حقيقية و مستدامة ، وتدريباً لكوادر شبابية جديدة قادرة على إدارة البلاد بإيجابية ومؤهلة نظرياً وعملياً لتنميتها والنهوض بها وإستدامة تطويرها.
لضمان إحداث التغيير المرتقب خلال الفترة الزمنية القصيرة المقترحة لوضع البلاد تحت وصاية مجلس الأمن ، لابد من البدء بإعادة هيكلة الدولة بحيث تُحكَم بداية بشكل مركزي في إطار خمس ولايات أو أقاليم كبرى بواسطة إداريين أكفاء مدركين لأهمية التعاون المنُتِج مع الإدارات الأهلية، إلى حين توفير بدائل تُغني عن ما نحن فيه من مفاهيم قبلية وجهوية أقعدت بالسودان وعطلت تقدمه ..
بجانب ذلك فإن تهيئة السودان للإنطلاق في ظل إعادة تأسيس وتأمين دولي ، تقتضي إعطاء أولوية كبرى لإعداد دستور دائم للبلاد ، وهي المهمة التي فشلت فيها كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان منذ الإستقلال . لقد بدأ عهد الحرية و الإستقلال بدستور أسموه دستوراً مؤقتاً أعدته قُبيل الإستقلال لجنة دولية مؤهلة ، وأُجريت عليه تعديلات طفيفة بُعَيد إعلان الإستقلال ليكون حاكماً لدولة حرة ومستقلة. لقد كانت تلك الوثيقة المُعدَّلة أفضل صيغة دستورية شهدها السودان منذ إستقلاله حيث أن الأنظمة التي توالت بعد ذلك ، عسكرياً ومدنياً ، حاولت وضع دساتير خرجت شائهة ولم تحظ ابداً بإجماع الأُمة السودانية ، ولهذا لم تجد الإحترام الواجب ، حتى من العسكريين و الوزراء الذين قاموا أمام الله والناس بأداء قسم الولاء لتلك النسخ المتعاقبة من الدساتير والحاملة لشعار الأُمة المغلوبة على أمرها. لذا فإن أُمة السودان المتطلعة لحياة مستقرة وتنمية مستدامة ، ستكون في حاجة إلى دستور دائم مُحكَم ، وذي طبيعة مدنية وإنسانية ، مُستَمدة من تجارب الشعوب التي سبقتنا في سُلَّم الحضارة الحديثة ، وبعيدٍ كلياً عن المفاهيم الدينية والنصوص الشرعية التي لم يُحدِث إقحامها في دساتير السودان المتعاقبة إلا المزيد من التشرذم والتمزق المجتمعي ، والمزيد من عدم الإستقرار السياسي الذي أدى في بعض نهاياته المحزنة إلى فصل جزءٍ عزيزٍ من السودان ، كما أدى إلى إذلال الناس عموماً ، والنساء خصوصاً ، فأصبحت الأمهات والأخوات والبنات يُجلَدن بالسياط ، وعلى مرأى من الناس ، في إنتهاكٍ مخجل لإنسانيتهن ، وإنسانية الذين يشهدون تلك العملية الوحشية التي تُرتكب باسم الدين ، دعك من الذين فقدوا أطرافهم في سرقات جوعٍ ، و أُوقفوا قسراً أمام محاكم بائسة وقضاة شائهين وغير مؤهلين .
لذلك فإن الأُمة السودانية في حاجة إلى دستور عصري يتمحور حول مفاهيم مدنية بحتة ، يبقى فيها الدين لله والوطن للجميع . ولقد آن الأوان لإعترافنا بفشلنا في إعداد دستور دائم على الرغم من مضي أكثر من ستين عاماً على الإستقلال. علينا إذاً ترك هذه المهمة إلى لجنة دولية ، مثل التي تم تكليفها قُبَيل الإستقلال ، يتم إختيارها من مجموعة خبراء دستوريين دوليين ، على أن تُخضَع مسودة الدستور المقترحة من اللجنة لإستفتاء شعبي عام حتى تصبح مجازة شعبياً وملزِمة للجميع ، إذا حازت على ما لا يقل عن ثُلثي أصوات الرجال والنساء الذين لا تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً . ويمكن إنجاز مسودة الدستور وإكمال الإستفتاء عليها بسهولة قبل إنقضاء السنوات العشر المقترحة للوصاية الدولية ، ليتم علي ضوئها إجراء إنتخابات شعبية في نهاية فترة الوصاية الدولية ، ليعود السودانيون لحكم أنفسهم فاتحين صفحة جديدة في تاريخهم السياسي و الإداري.
إن الحاجة لحكم مركزي قوي ، بداية ، لضبط الأوضاع السياسية والإدارية ، يُعطي الأُمة فرصة للتفكير في قبول دستور مستقبلي مبني على هيكلة فيدرالية للدولة ، إذ أن الفيدرالية في ما يبدو هي الحل العملي والسياسي لمشكلات الحكم المزمنة في السودان ، وهي الترياق الناجع للصراع المتنامي والمعطِّل بين المركز والهامش في سودان ما بعد الإستقلال ، شريطة أن تكون فيدرالية حقيقية للدولة ، ليست مستمدة من تجاربنا المحلية الفاشلة ، بل مستنبطة من تجارب الآخرين الناجحة ، والمطبقة بدرجات متفاوتة في العالم مثل الولايات المتحدة وكندا وسويسرا وغيرها . وبما أن إستقرار الحكم والتنمية المتوازنة والمتكاملة هي من أهم تطلعات المجتمعات ، فربما يكون من المناسب طرح نظامين دستوريين ، أحدهما مركزي والآخر فيدرالي أو كونفدرالي ، ليقرر الشعب عبر إستفتاءٍ حرٍ ما يريده لوطنه بحرية ودون إملاء .
هذه الإستراحة المقترحة من عناء التشاكس والفشل الذي طال وإستطال ، تتطلب إستقراراً سياسياً وقبولاً مجتمعياً من كافة الكيانات القومية والمحلية لكي تُعاد صياغة الحياة في السودان بعد التيه الذي خلقناه بأيدينا لأكثر من ستة عقود . ليس هذا فحسب ، بل الأمر يُحتم التفكير خارج الصندوق أو خارج الأُطر التقليدية . فالوضع الذي نحن فيه الآن وما يحيط بنا من بؤس ومسغبة وتنازع وإنهيار مجتمعي ، هو أسوأ مما كان عليه الحال أيام الإستعمار . ويزيد الأمر حرجاً أن كل ذلك حدث بأيدٍ سودانية إخترنا بعضها عبر إنتخابات يُقال أنها حرة ، ولكنها لم تكن كذلك تماماً لتَخَلُّف مجتمعنا ولإنتشار الأُمية ، وحُكِمنا بعضها الآخر عنوة باسم الجيش حنثاً بقسم أداه العسكر أمام الله وأمام الناس . ولهذا ولغيره يبقى الجيش ونَزَعَاتِه الإنقلابية هو الخطر الحقيقي المهدد دوماً لطموحات الأُمة ، ولذا لا بد من تحييده ، وإعادة بنائه ، هيكلةً وعقيدةً ، وتخليصه من الجهوية والحزبية التي أصبحت طاغية عليه ومنفية لقوميته . لكن حجم الدمار الذي أصاب بُنية الجيش في عهد الإنقاذ ربما يصعب أو يستحيل علاجه بدون تسريح كامل الجيش وإعادة بنائه من جديد ، مع إيكال أمر حفظ حدود الدولة مؤقتاً إلى قوات دولية الى حين إكمال تكوين الجيش بصورته الجديدة .. وتسريح الجيش أو إعادة صياغته هذه تعني بالضرورة إنهاء كل التشكيلات العسكرية الأُخرى نظامية كانت أو غير نظامية ، ما عدا منظومة الشرطة ذات المهام الشرطية المدنية المتعارف عليها دولياً .
من ناحية أخرى ليس بالجيش وحده يتزعزع الإستقرار فللأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الكثير من الآليات والنشاطات التي أعاقت في الماضي تحقيق مطالب الأُمة في الإستقرار والتنمية المستدامة ، وهي تمتلك الكثير مما يمكن أن تعيق به الإستقرار المستهدف للسودان وأهله. ولهذا من الضروري أن تقتنع القيادات السياسية والنقابية التقليدية بأنها قد نضب معينها ، وضاع السودان بين ثنايا نشاطاتها ، ورضخ بما يكفي لأطماع آل المهدي وآل الميرغني وأهل اليسار والإسلام السياسي . إن الوطن في حاجة إلى تنظيمات سياسية ومدنية متفهمة لحاجة الأُمة السودانية في ثوبها الجديد للخروج من دائرة الفشل المفرغة ، والإنطلاق نحو تكوين أُمة معافاة من كل ما كَبَّلها وعَطَّل حركتها، وجعلها تتقهقر إلى الخلف بخطى فاقت كل تصوُر وخيال .
لا بد من التنحي الطوعي لتلك القيادات التقليدية السياسية والنقابية و ترك الأمر لقيادات شبابية مدربة لإعادة صياغة أحزابها ومنظماتها المدنية، فكرياً وتنظيمياً ، ولتبقى عائلتا المهدي والميرغني بعيداً عن السياسة ، دعك من الهيمنة عليها بالإغراء والتمويل والدجل . فليتركوا الأُمة السودانية تحقق مطالبها ، وترسم مستقبلها ، بعيداً عنهم وعن الدجل والخرافة والصوفية التي ترعرعت بشكل ملفت ومعيق في الآونة الأخيرة ، تحقيقاً لقول إبن خلدون رحمه الله بأن الصوفية تزدهر في فترات الإنحطاط المجتمعي ، وياله من إنحطاط تدهورنا له بعد ستين عاماً من إعلان إستقلال دولتنا التي خاف العالم ولا يزال يخاف من يقظتها ، بينما عمل بنوها ولا يزالوا يعملون للوصول بها إلى أدنى درجات الإنحطاط السياسي والإقتصادي والأخلاقي .
إن كل ما جرى إستعراضه اعلاه بإختصار ينبع من مطلب أساسي للأُمة السودانية هو المحافظة علي السودان كوطن ، وعلي الأمة السودانية ككتلة حضارية مميزة ، تحقيقاً لإستقرار وتنمية متوازنة ومستدامة عن طريق القفز بالإقتصاد السوداني إلى الأمام في جو معافى ، وبطرق مبتكرة وغير تقليدية ، من الطبيعي أن تتمحور اساساً حول الزراعة لتضع السودان في طريق الكفاية والتصنيع الزراعي تمهيداً للإكتفاء الذاتي أولاً ، ومن ثمَّ الإنطلاق نحو تحقيق حلم أن يكون السودان سلة غذاء الاقليم بما حباه الله به من أرضٍ وماءٍ ومُزَارِع كفءٍ إذا توفرت له الإمكانات الإدارية اللازمة ، والتقنيات الحديثة ، والتمويل الكافي ، والرعاية الإجتماعية التي تجعل منه إنساناً منتجاً برضىً وكفاءة . وفي هذا الصدد فإن تجربة مشروع الجزيرة في فترة إزدهاره يمكن إستدعاءها بثلاثيتها المعروفة ، شركة وحكومة ومزارع ، مع تطوير يرتكز على ما برز في تلك التجربة من إيجابيات وتفادي ومعالجة ما شابها من سلبيات . وبمثل هذا المفهوم يمكن للمشروعات الزراعية الكبرى في السودان أن تستعيد ألقها بشقيها الزراعي والحيواني على أن يكون التصنيع الزراعي محوراً اساسياً للإستهلاك الداخلي والتصدير ، فهو يجعل للنشاطات الزراعية قيمة إضافية مقدرة ومطلوبة ومستحَقة .
وفي إطار الإبتكار والتفكير غير التقليدي مضمون العائد ، يمكن خلال فترة العشرِ سنوات المقترحة تنفيذ قفزة تنموية ولائية عن طريق تحديد ثلاثة مشروعات كبرى لكل ولاية في مجالات التنمية الإقتصادية والتعليم والخدمات والبنى التحتية، وتكليف مؤسسات إستشارية عالمية معروفة لتقديم دراسات جدوى لتلك المشروعات ومن ثَمَّ عرض مشروعات كل ولاية على حدة على واحدة من الدول الصديقة لتتبناها وتنافس بها الدول الأُخرى مما يخلق منافسة حميدة بين الدول الصديقة تدفع بتنمية الولايات جميعها وبشكل متوازن لتقريب الشقة التنموية بينها وبين المركز ، تشجيعاً للهجرة الطوعية المعاكسة للأقاليم، وتخفيفاً للتكدس البشري غير المنتج في الخرطوم وعواصم الولايات و الأقاليم .
إن تحقيق هذا المطلب يقتضي التركيز على الدول الغربية مثل بريطانيا وأمريكا وكندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنرويج، والإبتعاد عن الصين المتورطة في الكثير مما أقعد بالإقتصاد السوداني ، وكذلك الإبتعاد عن الدول العربية لأن مراميها في الغالب ذاتية ، ولا تملك التقانة اللازمة ، وفي تجاربها مع الإستثمار الإنقاذي الكثير من علامات الإستفهام .
وبعد ، فإن هذه خطوط عريضة لصرخة تجديد مسار تأتي بعد قرنٍ من صرخة علي عبداللطيف ، تستهدف تحقيق بعض مطالب الأُمة السودانية المشروعة عبر إتاحة الفرصة لبداية جديدة ، وبشكل غير تقليدي ، بعد أن ضلت البلاد الطريق إلى الإستقرار السياسي والتنمية المستدامة . عندها فقط يمكن أن يتحقق السودان الذي حلم به الآباء المؤسسون ، وإفتقدته الأجيال اللاحقة و تستحقه الأجيال الصاعدة .
ولك الله يا وطني.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.