عرضت في المقال الأول موقف لينين من التكتيكات المطروحة في المرحلة الانتقالية، حيث دعا العمال للمطالبة ببرنامج الحد الأدنى. وهو نفس البرنامج الذي طرحه حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (الشيوعي لاحقا). كما انتقد موقف الايسكريون الجدد (المناشفة وهم تيار الأقلية في الحزب) من الاشتراك في الحكومة الثورية المؤقتة. ودعا للإسراع بتطوير الرأسمالية في روسيا على أساس اوربي حديث، وتمسك بأهمية الديمقراطية البرجوازية. وناقش المقال الثاني، في إطار عرض اطروحات الكاتب، رفضه الحازم لدعوة تشكيل حزب أقصى المعارضة، وسخر منها. كما ناقش أسلوب استخدام الشعارات الفخمة ذات الرنين، بديلا عن الشعارات السياسية الثورية الواقعية. سأناقش أهمية الكتاب لنا الآن في السودان ونحن نواجه تحديات الانتقال الديمقراطي: يشكل لينين مرجعية فكرية مهمة للشيوعيين السودانيين، وهم الذين تبنوا الدعوة للتغيير الجذري في بلادنا. وعرض رؤية لينين يساعد في الحوار حول الدعوة، وهل فيها تخطي للمرحلة التي تمر بها ثورتنا وبلادنا.. هناك تشابه عام في الواقع الروسي في 1905، والواقع السوداني خلال حكم الاسلامويين، هذا التشابه لا يعني تطابق الظروف الاقتصادية والاجتماعية، في البلدين تماما. هذا التشابه يساعدنا على التعلم من تلك التجربة وليس نقلها بحذافيرها بدون وضع اعتبار للتغييرات العاصفة التي حدثت خلال القرن الماضي واعلت من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. تعمدت ان أقدم رأي الكاتب بصورة لا تترك مجالا للتأويل أو عدم وضوح القصد. ما يهم هنا هو جوهر التحليل والمنطق الذي استخدمه الكاتب، وليس تطبيق ما كتبه حرفيا. دعا لينين العمال لمطالبة الحكومة الثورية المؤقتة بتطبيق برنامج الحد الأدنى الذي اجازه حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، ولم يطالب بتطبيق برنامج الحد الأقصى، الأمر الذي يعكس واقعية سياسية وتفهم لقضايا المرحلة. والمعروف ان برنامج الحد الأدنى يشمل مصالح عدة قوى وفئات اجتماعية، في مرحلة معينة. لم يتهيب الكاتب في التصريح بان المرحلة تستدعي إقامة النظام السياسي البرجوازي المبني على الديمقراطية السياسية، والنظام الاقتصادي الرأسمالي، بل مضى لأكثر من ذلك بدعوته لدعم تطور الرأسمالية بشكل حقيقي وسريع. وهذا أمر مهم لتطور اقتصادنا الوطني حيث تعرضت الرأسمالية لحرب ضارية لإخراجها من السوق وتمكين الفئات الاسلاموية الطفيلية. أكد ان للطبقة العاملة والطبقة البرجوازية مصالح مشتركة خلال فترة الانتقال الديمقراطي، ونفس الشيء ينطبق علينا في مرحلة الانتقال وضرورة الانتباه لمصالح كافة الطبقات ذات المصلحة في إقامة النظام الديمقراطي، بشكله السياسي والاقتصادي. أعلن لينين رفضه لدعوة تيار الاقلية لما اسماه بحزب أقصي المعارضة، ودعا الي المشاركة الفعالة في الحكومة لتنفيذ مطالب العمال. حذر لينين من استخدام المصطلحات والتعابير الرنانة ذات الصدى الفخم وركز على ضرورة طرح شعارات ثورة واقعية في اللحظة المحددة من تطور الثورة. تبني لينين ضرورة رص كل القوى التي يهمها أمر التحول الانتقال الديمقراطي فعلا. خلاصة كل العرض السابق ان التحليل الماركسي لا يدعو او يتبني طرح برنامج للتغيير الجذري في مرحلة الانتقال الديمقراطي الذي اسماه لينين في كتابه الانقلاب الديمقراطي. الآن ما الهدف من طرح الدعوة للتغيير الجذري؟ ابدا بتوضيح نقطة محورية وهي البنود والمقترحات التي وردت في وثيقة الحزب الشيوعي الشهيرة: السودان الازمة وطريق استرداد الثورة وكذلك ما طرحه تحالف التغيير الجذري هو برنامج ديمقراطي لا يختلف عن كل المواثيق التي وقعت مثل ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي، مؤتمر القضايا المصرية اسمرا 1995، البديل الديمقراطي، إعادة هيكلة الدولة ابريل 2016، ميثاق تحالف قوى الإجماع، اعلان الحرية والتغيير، وأخيرا السياسات البديلة. مما يعني انه في جوهره برنامج ديمقراطي لا يوجد خلاف حوله بين معظم القوى السياسية في الساحة الوطنية. الهدف من تسميته بالتغيير الجذري، حسب تحليلي، هو الاستمرار في سياسة فرز الكيمان عن بقية القوى في الساحة، خاصة قوى الحرية والتغيير. حول الكتابات الداعمة للتغيير الجذري: رغم ان ما طرحه الحزب هو برنامج ديمقراطي مقبول وليس جذري بالمفهوم الذي فهمه وطرحه عدد من الزملاء. لذلك سأركز في الحوار مع ما نشره هؤلاء الزملاء والاصدقاء من مقالات تدافع عن التغيير الجذري، ولدي بعض الملاحظات حولها، وهي ان معظمها يتسم بالتجريد والكلام النظري والمقولات الماركسية عن التغيير بصفة عامة. التحدي هو الإجابة على الأسئلة الملموسة في الواقع السوداني في هذه اللحظة الهامة من تاريخنا. كل الكتابات تهاجم الامبريالية والمنظمات المالية الدولية، هذا حسن على المستوى النظري. لكن، وللأسف الشديد، لم اقرا لأي منهم مقترحات محددة لدفع هذا الدين الذي يزيد على الستين مليار من الدولارات. هناك أمثلة كثيرة تشابه هذا وتأكد ان الشعارات المعممة لن تحل المشاكل المعقدة والمزمنة التي تعاني منها بلادنا الان، تنتظر برنامج عمليا ومحددا لمعالجتها وحلها. موقفي هو: كل من كتبوا عن التغيير الجذري وحاولوا شرحه والتعمق في طرحه والدفاع عنه، تجاهلوا عدة نقاط ذات صلة بالقضية في اطارها التاريخي والنظري. اذكر هنا وباختصار شديد ثلاثة مسائل أهملت: الاولي: على مستوي الخلفية التاريخية لقضية التغيير الجذري، في المجتمعات خارج اوربا، تم اهمال جذور المصطلح وخاصة تلك التوجيهات الصارمة التي كان يرسلها الكمونتيرن (هو الاممية الشيوعية والمركز الموحد للحركة الشيوعية العالمية وتم حله في 1943)، الي شيوعي الشرق وتتعلق بمنهج التعامل مع البرجوازية الوطنية واحزابها، والتكتيكات التي يجب استخدامها في تلك البلدان. وكان هذا اساسا نظريا هاما في تشكيل برامج تلك الاحزاب، ومواقفها داخل بلدانها خاصة حول التحالفات. الثاني: على المستوى النظري تجاهل كل الكتاب الذي قدموا شرحه وقراءتهم لقضية التغيير الجذري، التنظير الذي قدمه العلماء السوفييت حول طريق التطور اللاراسمالي وإمكانية تخطي المرحلة الرأسمالية بأكملها. تم بناء اطروحاتهم حول إمكانية ان تتخطي اسيا السوفيتية المرحلة الرأسمالية، ثم توسع التنظير ليشمل العالم الثالث وصارت له مدارس فكرية. متنوعة الثالث: علي المستوي الواقعي تم تجاهل كامل للتجارب التي قررت حرق المراحل أو القفز فوقها وما آلت اليه في النهاية، وكأمثلة تجربة اليمن الجنوبي التي انتهت بحرب بين القبائل التي تدعم مختلف أجنحة او قادة الحزب الاشتراكي. أما تجربة أفغانستان فهي أمر وأفظع. فقد حاول حزب الشعب الانقلاب على الملك ليحقق التغيير الجذري الذي عن طريقه ستتخطى أفغانستان واقع التخلف. ولكن حدث هو تحول أفغانستان الي مستنقع غرقت فيه الدولة السوفيتية في تكرار مطابق لتجربة أمريكا في فيتنام. والأدهى والأمر ان تتقهقر أفغانستان الآن الي القرون الوسطي. والمجال لا يسمح بالتفصيل عن تجارب موزمبيق وغينيا بيساو وزمبابوي، واثيوبيا، والصومال، وغيرها. الخاتمة: لجات لعرض كتاب لينين بمقتطفات مطولة، رغم انني في كل كتاباتي لا ألجأ لاستخدام المقتطفات وان دعت الضرورة لاستخدامها لا أكثر منها. لكن قصدت في هذا الحوار حول التغيير الجذري ان أواجه دعاة التغيير الجذري بأطروحات لينين، التي بالنسبة لهم مرجعية وقامة فكرية عليا. طرح الحزب في وثيقته استرداد ثورة ديسمبر هو برنامج ديمقراطي بامتياز وتتفق حوله اغلب قوي ثورة ديسمبر، ولكنه لا يشكل برنامج للتغيير الجذري وجاءت تسمية الجذري لأسباب سياسية تتعلق بخط الحزب الرامي لفرز الكيمان عن قوي الحرية والتغيير. لكني ركزت على الذين كتبوا كتابات جادة عن التغيير الجذري بفهم أكثر جذرية مما طرحه الحزب في وثيقته والتي من الممكن ان تشكل ارضية مناسبة لوضع برنامج تتوافق عليه معظم قوى ثورة ديسمبر. تنطلق دعوتي لهذا الحوار من اعتقادي الصادق بأنها تشكل عدة أخطار في ظروف بلادنا الحالية. فهي تؤدي عمليا لرفض اي عمل نضالي مشترك دعك عن وحدة. وهي دعوة تفارق كل تاريخ الحزب الشيوعي على مر الفترات في العمل الجبهوي. كما أن نفس المنهج سيؤدي لهزيمة مشروع إعادة تأسيس الحركة النقابية على أسس ديمقراطية تعيد سيرتها الاولي لان قوي التغيير الجذري ستقسم قائمة قوى ثورة ديسمبر، مما يعطي الاسلامويين فرصة كبيرة لإعادة نفوذهم في الحركة النقابية، وحينها سيكون الإضراب السياسي العام مهمة شاقة جدا ولا اقول مستحيلة. التحدي الحقيقي الآن ان نتفق على برنامج موحد لكي نتصدى بقوة لهزيمة الردة عن اهداف ثورة ديسمبر بعد انقلاب البرهان وخطة الاسلامويين بالتقدم المبرمج والسير بخطى حثيثة لاستعادة دولتهم. وإذا نجح مخططهم الخبيث فستكون مرحلة أكثر حقدا ودموية من دولتهم السابقة.