تقديم: الثقافة السودانية تتميز بقدرتها الكبيرة على الانفتاح نحو الآخرين.. واقامة الحوار مع الثقافات الاقليمية والعالمية. قد تفاعلت هذه القدرة مع ظرفها التأريخي المستجد، وذلك عندما استقل السودان في أواسط القرن العشرين من قبضة الحكم البريطاني، وشرع في تكوين الدولة، على أسس الحضارة العصرية التي كانت تستشرف آفاق المستقبل في أبعاده الكونية حينئذ. فكان السودان يأخذ من الحداثة العربية حيناً، ومن كشوفات أوروبا حيناً آخر. وفي هذا الوقت.. وعندما كان السودان منفتحاً على هذه الآفاق.. كانت السينما المصرية ذات خطاب شعبوي جاذب.. مما جعل تأثيرها يتغلغل داخل المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج.. ومن ثم تسلل هذا التأثير عميقاً داخل النسيج الثقافي القومي، فشمل هذا التأثير ضروباً متعددة من الابداع السوداني. ولكن علينا في ذات الوقت ان نلاحظ ان هذا التأثير لم يكن استلاباً، بقدر ما هو استعارات شكلانية جمالية تتلائم والتطلع الفكري الذي يمازج بين الأصالة والحداثة.. وهذا بالضبط جعل كاتباً كالاستاذ علي المك يسمى هذه الفترة ب »عصر النهضة«.. وهو هذه الفترة التي كانت الدولة فيها تحدث مؤسساتها جميعها لتقوم بهذا الدور الثقافي الشامل، وهي ذات الفترة التي شهدت فيها »بخت الرضا« حركة ترجمة ادبية وفنية ضخمة قام بها عمالقة الابداع الفكري ورواده الطلائعيين.. عبد الله الطيب وجمال محمد أحمد وأحمد الطيب ومحمد خير عثمان ومحمد التوم التيجاني.. حينما ترجمت أهم الأعمال المسرحية المؤثرة في فنون المسرح العصري، وهذا ما أثر على حركة الإبداع المسرحي السوداني فيما بعد. لقد كان هذا النشاط المتابع لتيار الحداثة الفنية والفكرية الأوروبية، منحصراً داخل المؤسسات الأكاديمية ودوائر النخب.. أما التيار الذي ارتبط بالحراك الثقافي الشعبي فقد ارتبط إلى حد كبير بفن الغناء وبالمسرح التجاري والمسلسل الإذاعي.. وهذا ما سنعرضه هنا في خطوطه العامة التي ترمي لمتابعة الظاهرة في أسسها الجوهرية، وفي اطارها العام. كانت تأثيرات السينما المصرية عميقة جداً على الغناء. وهو الفن الأكثر وصولاً إلى الفئات الإجتماعية العريضة تلك التي تتكون منها الطبقة الوسطى. وقد كانت ظاهرة الغناء الثنائي أكثر بروزاً في بدايات هذا المسار، وهي ما تعرف بغناء »الدويتو« حيث يتبادل الحوار غنائياً صوتان.. أحدهما صوت رجالي »غليظ« والآخر صوت نسائي حاد. ومن بين الأغاني »الدويتو« المشهورة وقتذاك أغنية »الريدة« التي أدتها عائشة الفلاتية وأحمد عبد الرازق.. وفيما بعد غنت أم بلينا السنوسي وزينب خليفة، كما أشترك عثمان حسين ومحمد الحويج. üشاعت أغنية »الدويتو« بسبب الأفلام السينمائية المصرية.. حينما غنى محمد عبد الوهاب- وراقية إبراهيم معاً أغنية »حكيم عيون« في فيلم »رصاصة في القلب«.. ومن بعدهما غنى محمد فوزي ونور الهدى ومحمد فوزي وصباح وفيما بعد شادية وكمال الشناوي. وفي شعر الغناء كتب عبد الرحمن الريح أغنية »كان بدري عليك« متأثراً بذات المقطع الغنائي الذي أخذه من أغنية في فيلم »فاطمة ومريكا وراشيل« التي غناها المطرب السوداني عمر أحمد.. كما كتب عبد الرحمن الريح أيضاً أغنية »يا موج البحر« التي أخذها من أغنية بذات العنوان من فيلم »لحن الخلود« لفريد الأطرش.. كما كتب أيضاً أغنية »يا حمامة« عندما تألقت النجمة السينمائية المصرية »فاتن حمامة« في مجموعة من أفلام تلك الفترة. ü المسرح والمسلسل الإذاعي: أما في المسرح فقد أخذ الدكتور علي البدوي قصة فيلم »رابحة« الذي مثلته النجمة السينمائية المصرية »كوكا« وأخرجه إبراهيم لاما وصنع منه مسلسلاً درامياً إذاعيا تحت عنوان »الدهباية« والذي قامت ببطولته الوجه الجديد »آنذاك« »هالة أغا« والتي قامت بذات الدور عندما حول المسلسل إلى دراما مسرحية. ü وليس هذا هو المظهر الغنائي الوحيد الذي استند اليه الغناء في استلافاته الشكلانية إذ أطر الاستاذ محمد الأمين الملحمة بذات الاطار الشكلاني الذي صنعه محمد عبد الوهاب في نشيده المعنون ب »وطني الأكبر« حيث استعان عبد الوهاب بكل الأصوات الغنائية في تعدد سلالمها الموسيقية. أما محمد الأمين فقد شكل لحنه من طبقات صوتية غليظة وحادة.. عثمان مصطفى »غليظ« أم بلينا السنوسي وخليل إسماعيل »حاد«. ويمكن ان تتابع تجليات الظاهرة في ضروب الفنون السودانية الأخرى.. وذلك في حلقات قادمة. معرض الكتاب الدولي بالخرطوم تنوعت دور النشر هذه السنة كما تنوعت العناوين.. وكانت الدور السودانية على درجة عالية من الكفاءة هذا العام فيما يخص جمال العرض وحسن الطباعة.. أما أهم العناوين فقد حصرت في مؤلفات الدكتور منصور خالد وكمال الجزولي والدكتور النور حمد وترجمات النور عثمان ابكر ومطبوعات دار أروقة والدار السودانية ودار عزة والدار الاكاديمية. وكان ملفتاً للانتباه جداً وجود كتاب الدكتور خالد الكد الموسوم ب »الأفندية« والذي سنعرضه مع أهم كتب المعرض في ملف (كتابات).