يعمم بعض الكتاب ، بقصد وبدون ، حول أمر البرامج بالنسبة للاحزاب السودانية قائلين ، ان الاحزاب ليس لها برامج كنوع من القدح اعلاء لشان الدكتاتوريات العسكرية اليمينية واليسارية على حد سواء . وهو امر قد ينطبق على بعضها ولكنى استبعده تماما عن الحزب الشيوعى ، ذلك ولأنه منذ نشأته قائم على وضع برامج محددة لكل فترة مر بها السودان . لذلك فان من يجمعه مع بقية الاحزاب فى هذا الشأن ، يكون اما انه لم يطلع على برامجه ، او انه بهذا التعميم يقصد الى مااشرنا اليه سابقا من قدح مقصود أو لأنه يراهن على عدم معرفة الآخرين بالأمر وما أكثر هؤلاء ! فقد كان برنامج الحزب فى مؤتمره الثالث ، الذى تم فى مرحلة ماقبل الاستقلال ، اى فى الفترة الانتقالية ، ولذلك فقد كان تركيزه على مهام مابعد الاستقلال من ضرورة دعم الاستقلال السياسى باستقلال اقتصادى يوصد الباب اما الاستعمار الجديد المتمثل فى محاولة الهيمنة الاقتصادية على شئون البلدان حديثة الاستقلال فى الوقت الذى كان فيه شعار حكومة الازهرى : تحرير لاتعمير وكأن هناك تناقض بين الامرين . ولذلك كانت مواقفه السياسية تعبر عن هذا المفهوم ، فوقف ضد المعونة الامريكية ومحاولات صندوق النقد فى التأثير عل السياسات الاقتصادية فى السودان ، مما كان سببا لتعجب واستنكار اللآخرين لهذه المواقف ضد من يحاولون " مساعدة البلد "! وعندما حدث اول انقلاب عسكرى ناجح فى السابع عشر من نوفمبر لسنة 1958م بمباركة السادة عبدالرحمن المهدى وعلى الميرغنى كراعيين لحزبى الامة والاتحادى ، تفاديا للتصويت ضد المعونة فى البرلمان والذى كان سيؤدى الى سقوط الحكومة ، كانت مواقف الحزب هى العامل الحاسم فى الموقف الجماهيرى . وقد واصل قيادة المعارضة للانقلاب حتى اسقطته الجماهير فى ثورة اكتوبر 1964م المجيدة والتى جاء تشكيل حكومتها الاولى معبرا عن تلك المواقف ، حيث كانت تعبر عن نفوذ الحزب وسط مكونات جبهة الهيئات التى قادت الثورة . وعندها طرح الحزب برنامجة لما اسماه المرحلة الوطنية الديموقراطية وهى المعبرة عن برنامجه للتحرر الوطنى ومجابهة السيطرة الاستعمارية الجديدة وذلك بعد اكتساب البرنامج المزيد من التطوير من خلال مجابهة السياسات التى انتهجها انقلاب الفريق عبود برغم محاولة التغبيش التى حاولت اتخاذموقفا محايدا بين قطبى النفوذ الدولى المتمثل فى الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى . وقد جاء ذلك من خلال التعاون مع الاتحاد السوفيتى فى اقامة بعض الصناعات التابعة للدولة بما جعل موقف الحزب الشيوعى السوفيتى يميل الى دفع الحزب السودانى الى ممالأة حكومة عبود ، ولكن الحزب الشيوعى السودانى تمنع عن اتخاذ ذلك الموقف بما أدى الى توتر العلاقات بين الحزبين . وفى فترة الديموقراطية الثانية ، التى جاءت بعد ثورة اكتوبر وتآمر الاحزاب التقليدية على حكومتها الاولى خوفا من ان تبدأ برنامجها الاصلاحى ، استمر التآمر سعيا وراء محو الوجود للحزب الشيوعى مرة واحدة وذلك ردا على مواقفه فى البرلمان بأداء ممثليه الذين اكتسحوا دوائر الخريجين واذاقوا حكومة الاحزاب الامرين من خلال استجواباتهم التى ظلت تفضح سوء سياساتها فى جميع المجالات . فكانت النتيجة حل الحزب الشيوعى وطرد نوابه من البرلمان ، بل ورفض الانصياع لقرار المحكمة العليا بعدم دستورية القرار من قبل حكومة الصادق المهدى ! . واستمر الحزب يعارض من تحت الارض حتى حدث انقلاب الخامس من العشرين من مايو 1969م . وبرغم ان الحزب كان ممنوعا رسميا من النشاط السياسى العلنى مما اثر على عمله الجماهيرى وحد بالتالى من نفوذه ، الا ان الانقلاب لم يجد مايخاطب به جماهير الشعب غير برامج الحزب الشيوعى فى جميع مجالات الحياة وكذلك لم يجد غير شخصيات تنتمى الى الحزب او اليسار بشكل عام فى تكوين حكومته الاولى وكذلك فى تكوين مجلس الثورة العسكرى . ولعل كل هذا لايكون الا دليلا على النفوذ الادبى للحزب وبرنامجه بماجعل الانقلاب لايجد غير هذه المؤشرات ليشتر نفوذا مبدئيا وسط جماهير الشعب السودانى برغم الاختلاف الذى نشأ منذ ليلة الانقلاب والامين العام للحزب وقتها ، عبدالخالق محجوب ، وقد عبر الحزب عن ذلك الموقف فى البيان الاول صبيحة الانقلاب حيث ذكر بوضوح ان ماحدث هو انقلاب تم بمعزل عن الحركة الجماهيرية غير انه كأمر واقع لابد من تاييده بشرط ان يرتبط بعمل جماهيرى يتحول عنده الى ثورة . وقد كان هذا الموقف ، الذى بدا عجيبا وغير مفهوم لغالبية الناس ، كان هو البداية لأنقسام تم داخل اللجنة المركزية للحزب ومن ثم لمؤسسات الحزب المختلفة وللحركة الجماهيرية المتاثرة بمواقف الحزب . وقد كان هؤلاء يقولون كيف للحزب وهو فى تلك الحالة من الحصار ان يقف ذلك الموقف من انقلاب يعتبرونه منقذا له وفاتحا لباب السلطةأمامه ! . ولكن مع مرور الايام واتضاح الرؤيا من خلال المواقف العملية لقادة الانقلاب ومن تبعهم من المنقسمين من الحزب ومواقف الذين ظلوا مع مقف الحزب المعلن والذى اشرنا اليه فى بيانه الاول ، تبين ان الموقف المبدئى للحزب كان هو الموقف الصحيح . وللتدليل على هذه النتيجة نورد بعضا من تلك المواقف للجهتين المتعارضتين: * الموقف من الانضمام للاتحاد الاشتراكى كحزب وحيد لتمثيل الثورة ،اتباعا لما كان يحدث فى كثير من بلدان العالم الثالث ولما حدث فى البلدان " الاشتراكية " حيث كان الحزب الشيوعى هو المسيطر على الاحوال برغم الشكل المظهرى للتحالف مع احزاب أخرى لاحول لها ولاقوة وهو ما وافق عليه المنقسمون على الحزب ، بينما اصر التيار الباقى على ضرورة الموقف المستقل للحزب .وقد أوضحت النتائج العملية صحة رأى الحزب ، حيث احتفظ بوجوده المستقل فى الساحة السياسية الذى لم يتدنس بمواقف النظام الخاطئة ، وهو ما حدث بالنسبة للمنقسمين الذين ذابوا وسط مؤسسات الاتحاد الاشتراكى والدولة وتحملوا بالتالى كل اوزار ماقام به نميرى ورهطه من اخطاء! * الموقف من ضرب الجزير ابا بمعاونة النظام المصرى وقتها والذى كانت نتيجته ارسال عبدالخالق محجوب والصادق المهدى منفيين الى مصر ، برغم ان حزب الامة هو من قاد معركة حل الحزب وطرد نوابه من البرلمان ! * الموقف من التاميم والمصادرة بالصورة التى تم بها بقيادة زعماء الانقسام من امثال أحمد سليمان ومعاوية سورج . هذا وغيره من الامثلة الدالة على مبدئية الحزب فى مايتخذ من مواقف وبرامج، اوردناه كنموذج لمواقفه من البرامج التى طرحها طوال تاريخه خصوصا فى مجال السياسات الاقتصادية ، وهو ماسيتم التركيز عليه فى مقالات متتابعة تعرض لبرامجه فى جميع المجالات بالتفصيل الذى يدلل على ماذهبنا اليه فى مقدمة المقال من وجود تلك البرامج لكل ذى بصر وبصيرة . وذلك للتعريف بتلك البرامج فى هذا المنعرج الذى تمر به الثورة السودانية ، والذى اعتبره من الاهمية حيث انه يمثل الخطوة الضرورية لبداية تنفيذ برنامج المرحلة الوطنية الديموقراطية . والسبب فى هذا الاعتبار هو ازدياد الوعى الجماهيرى من خلال تجارب الشعب السودانى والتى كان نتاجها العظيم هو ثورة ديسمبر المجيدة التى استوعبت مامضى من تجارب ثورية جعلها ترفع شعارا حاويا وخالدا وتستمر فى التمسك به طوال اربع سنوات دون كلل اوملل اوتراجع وذلك خلافا لما حدث فى الانتفاضات السابقة ، وبناء عليه تم ويتم فرز يضع كل انسان فى مكانه الصحيح حسب مصالحه الاجتماعية وذلك ايضا برغم التكتل المحلى والاقليمى والدولى المعبر عن مصالح فئات الثورة المضادة . لكل هذا فكما ذكرت فى عدد من مقالات سابقة فان المعركة هذه المرة تختلف تماما عن سابقاتها ولن يتم حلها باساليب الماضى من حيث المحتوى كحل سياسى تدعو اليه قوى الثورة المضادة بمختلف الاساليب من مثل الدعوة الى حل يؤدى الى استقرار سياسى ضرورى لجلب المعونات والاستثمارات من مصادرها المحلية والخارجية ، وهو حل يستدعى بالضرورة وحدة شاملة لكل اطراف العمل السياسى ، فى ماعدا الحزب الوطنى الذى يمثل النظام السابق . ذلك ان مثل هذا الحل السياسى يعود بالأمور الى ماقبل ثورة ديسمبر لتكرار نفس ماحدث خلال سنين مابعد الاستقلال ونكون كأننا "لارحنا ولا جينا "! يقول بعض الحادبين على احوال العباد والبلاد بأن احوال الناس تستدعى الموافقة على مايطرح من حل سياسى كخطوة أولية تتبعها خطوات فى المرحلة الثانية للحل وذلك بتنفيذ مادعت اليه شعارات الثورة من ضرورة تفكيك نظام الانقاذ فى جميع مجالاته السياسية والاقتصادية والقانونية .. الخ وهو ماقد يبدو معقولا لولا ان التجارب القريبة مع العسكر تثبت ان الامر لايعدو محاولة اخرى لتشتيت السير الجاد لتنفيذ شعارات الثورة والتى تتلخص فى العمل لبناء سودان جديد على انقاض تجارب مابعد الاستقلال . هذا فى نفس الوقت الذى تعمل فيه اللجنة الامنية لنظام الانقاذ على عمل جاد وثابت الخطى على اعادة الروح للنظام السابق وهو امر بين بالدرجة التى لاتحتاج الى بحث وخبرة .اذن ماهو البديل؟ . البديل الذى تطرحه قوى الثورة هو اكمال انجاز مهام الثورة ، وهوالامر الذى طرحه الحزب الشيوعى منذ ان صحح موقفه من الاتفاق الذى تم مع العسكر بماعرف بالوثيقة الدستورية وخروجه من معسكر قحت وأخيرا تكوين مجموعة الحل الجذرى التى ينضم اليها يوميا المقتنعون بضرورة اكمال الثورة وهم بالضرورة اصحاب المصلحة فى ذلك : انهم اهلنا فى اقاليم دارفور والنيل الازرق والشرق الذين لم يروا حلا حقيقيا للمشاكل التى احدثتها الحرب لأنهم لم يشركوا بالدرجة التى تجعل من اتفاقية سلام جوبا جالبة للسلام والاستقرار لهم وللسودان بشكل عام. وهم اسر شهداء تلك الحروب اضافة الى شهداء النضال ضد الانقاذ خلال ثلاثين سنة من حكمها وخلال اربع سنوات من حكم اللجنة الامنية . وهم من بعد ذلك الشعب السودانى الذى بقى يكافح من اجل لقمة العيش تحت نظام حبريل الذى لايخشى التصريح بأن دوره كوزير للمالية هو توفير السبع مليارات ونصف المليار الموعودة فى اتفاق جوبا لتعمير دارفور فحسب ! وعلى هذا فان المطلوب لحل جذرى للازمة السودانية التى استطالت منذ الاول من يناير لسنة 1956م وحتى اليوم ، هو الانضمام الى جماعة الحل الجذرى ، ولعل فى مراجعة احزاب البعث والناصرى لموقفهما من الحل السياسى المطروح والتدخل الاقليمى والدولى فى الشأن السودانى ، لعل فيها مايدل على ازدياد الفرز المؤدى فى نهاية الامر الى ميل ميزان القوى لمصلحة الثورة. وختاما لهذا الحديث الذى طال برغم ان الهدف منه ، كمايدل عنوانه ، هو ان يكون مقدمة للرد على مقولة عدم وجود برامج للاحزاب السودانية ، الا ان الاسهاب فى بعض الجوانب كان لابد منه لمزيد من التوعية التى نعتبرها اساسا لتميز ثورة ديسمبر واستمراريتها . ولذا فاننا سنسعى لبذل كل الجهد الممكن فى طرح برامج الحزب والتطوير الذى حدث فيه نتيجة التجارب الثرة التى جابهتها الثورة السودانية ، مع دعوة كل ابناء شعبنا ، وخصوصا من ادعى بقصد أوبدون قصد ، بان الحزب الشيوعى السودانى لايمتلك برنامجا ! .