منذ وقت مبكر أشارت قوى المعارضة قبل إسقاط البشير في ثورة ديسمبر إلى خطورة تكوين المليشيات على وحدة واستقرار البلاد، وضرورة حلها وتسريحها ونزع أسلحتها، وليس دمجها في الجيش كما جاء في وثيقة الاتفاق الإطاري، واتفاقية جوبا، فالإصلاح الأمني يجب أن ينطلق من حكم مدني ديمقراطي، ويلتزم بالمعايير الدولية للترتيبات الأمنية كما حدث في دول كثيرة عانت من الحروب الأهلية التي تقوم على نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج في المجتمع، بعد ثورة ديسمبر أشرت في ذلك في دراسة بعنوان "المليشيات الخطر المباشر على الفترة الانتقالية"، لأهمية تلك الدراسة في الظرف الراهن نعيد نشرها. 1 أشارت قوى المعارضة والقوات المسلحة المهنية منذ وقت مبكر إلى خطورة تكوين المليشيات خارج القوات النظامية، لا سيما المرتبطة بدوائر أجنبية على وحدة البلاد واستقرارها وأمنها وسيادتها الوطنية، وكانت معارضة هيئة الأركان للجيش السوداني في مذكرتها في فترة الديمقراطية الثالثة لحكومة الصادق المهدي التي أشارت فيها لخطورة تكوين قوات المراحيل أو المليشيات من قبائل المسيرية والرزيقات لمواجهة تمرد الحركة الشعبية. كما جاء في الميثاق السياسي لقوى "نداء السودان لإعادة هيكلة وبناء الدولة السودانية " حل وتسريح الدفاع الشعبي ومليشيات الدعم السريع وجميع المليشيات التي أنشأها النظام ونزع أسلحتها- وضع ترتيبات أمنية لقوات الجبهة الثورية لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، وقومية القوات النظامية كحامية للوطن وسيادته– انتهاج سياسة خارجية متوازنة ومستقلة– إلغاء قانون الأمن لسنة 2010– والإلغاء الفوري لكل القوانين المقيدة للحريات". جاء في وثيقة إعلان الحرية والتغيير "إعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية (النظامية) بصورة تعكس قوميتها، وعدالة توزيع الفرص دون المساس بشروط الأهلية والكفاءة- وتحسين علاقات السودان الخارجية وبناؤها على أساس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور- وعمل ترتيبات أمنية نهائية مكملة لاتفاق سلام عادل وشامل". جاء في برنامج الحزب الشيوعي السوداني المجاز في المؤتمر السادس "حل المليشيات كافة، وحصر السلاح في يد القوات المسلحة والشرطة- إعادة تنظيم القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى على أسس مهنية وقومية، واخضاعها للسلطة التشريعية".. (الدستور والبرنامج المجازان في المؤتمر السادس)، ص 27. جاء في التقرير السياسي المجاز في المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوداني "بناء علاقات السودان الخارجية والصداقة والسلام بين الشعوب والمنفعة المتبادلة بين الدول، والنأي عن المحاور والأحلاف العسكرية وعدم التدخل في شؤون الأخرين". اتسعت ظاهرة تكوين المليشيات بعد انقلاب الإسلامويين في يونيو 1989، وكان الانقلاب نفسه قامت به ميليشياتهم مع الضباط والجنود الموالين لهم، من أكبر الأخطاء التي قاموا بها تدمير القوات النظامية بفصل وتشريد خيرة الكفاءات العسكرية، وإدخال عضويتهم غير المؤهلة في الجيش، وتكوين مليشيات الدفاع الشعبي، وكتائب الظل، ووحدة العمليات في جهاز الأمن، والوحدات الجهادية الطلابية، وجلب صنوف مختلفة من التنظيمات الإرهابية للسودان في منتصف تسعينيات القرن الماضي مثل: بن لادن، وكارلوس، والإرهابيين من فلسطين، واليمن، وليبيا، وتونس، وبوكو حرام، ومن الدول الأفريقية… إلخ ولعبت جامعة أفريقيا دورًا كبيرًا في ذلك، وتحول السودان إلى قاعدة لانطلاق الإرهاب الدولي حتى تم وضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وساءت سمعة السودان في الخارج. وبعد الانقلاب الإسلاموي، تم نسف اتفاقية السلام "الميرغني- قرنق"، وأتساع نطاق الحرب في الجنوب وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق، وفي دارفور منذ العام 2003، وفشلت مليشيات الإسلامويين، في حسم الحرب لصالحها؛ التي أشعلتها بعد تدمير الجيش السوداني، مما اضطرها لاستخدام مليشيات "الجنجويد" التي اتهمتها الأممالمتحدة مع البشير بارتكاب جرائم حرب، وضد الإنسانية من قتل جماعي وحرق القرى والاغتصاب وارتكاب أبشع المجازر التي بلغ ضحاياها 300 ألف قتيل وتشريد أو نزوح 3 مليون نازح عام 2003، إضافة للمجازر التي قامت بها في جبال النوبا… إلخ. كما شاركت قوات الدعم السريع في مجزرة هبة سبتمبر 2013 التي قامت احتجاجًا على زيادة الأسعار، وبلغ عدد الشهداء فيها 200 مواطن، وحتى مجزرة فض الاعتصام ومجازر ما بعد انقلاب 25 أكتوبر. 2 كان من نتائج تدمير القوات المسلحة وفشل مليشيات الإسلامويين أن تم فصل الجنوب، واعتماد البشير على مليشيات الجنجويد، وصعد نجم حميدتي "محمد حمدان دقلو" ، الذي أصبح مقربًا للبشير وخاصة بعد أن قبض على ابن عمه موسى هلال مكبلًا بناءً علي طلب البشير، وكان موسى هلال قد عارض جمع السلاح (مجلة العربي الجديد، 23 /8/ 2019). رغم رفض الجيش للدعم السريع، إلا أن حميدتي وجد دعمًا من البشير الذي تدخل لصالحه ضد وزير الداخلية عصمت محمود الذي طالب بإجلاء المليشيات من منطقة جبل عامر الغنية بالذهب، مما أدى لاستقالة وزير الداخلية، وحتى عندما رفض الجيش الدعم السريع قام البشير بإلحاقهم بالأمن، وتم تعديل الدستور الانتقالي لتصبح قوات نظامية إلى جانب الجيش والشرطة، بل خصص لها البشير ميزانية مباشرة خارج رقابة الدولة لتمويل حرب دارفور، إضافة لتسهيلات وامتيازات في القطاعات التجارية، كما تساهل البشير في صراع حميدتي مع أحمد هارون، وقام بجمعهما للصلح بينهما، وتمّ اعتقال الصادق المهدي بعد مهاجمته لمليشيات الدعم السريع واتهمها بارتكاب جرائم حرب. إذا أخذنا في الاعتبار دعم البشير للمليشيات واستفادتها من نظامه الفاشل وضعفه العسكري، نجد أن مليشيات الدعم السريع أصبحت قوة اقتصادية وسياسية. الميدان