منذ اندلاع هذه الحرب اللعينة، وفي كل سانحة تتاح لقائد الدعم السريع بالظهور إعلامياً، يؤكد على أن هدفه الأساسي من هذه الحرب هو إيصال البلاد لحكم مدني يتساوى فيه الجميع، وكذلك كلما ظهر جنوده في وسائل الإعلام أو وسائط التواصل الاجتماعي يؤكدون على حديث قائدهم بأن الديمقراطية والحكم المدني هو هدفهم الأول وأنهم على استعداد للموت من أجل هذا المبدأ. بينما في المقابل كلما سنحت لقائد جيشنا فرصة الظهور إعلامياً، يتجنب الحديث عن الحكم المدني والديمقراطية، ويظهر وجهه الإخواني الخفي، ويمكّن لزمرته من التيار الإسلامي الإرهابي الذي خرج كل السودانيين صغيرهم وكبيرهم عليه. وهذا لعمري ما يمهد لراعي الإبل (كما يسميه قادة الجيش وأنصارهم من الحركة الإسلامية) بكتابة التاريخ. خوفي أن يسطر تاريخ هذا البلد المليء بأصحاب الشهادات الجامعية وفوق الجامعية بأن من أعاد هذا البلد لرشده ومساره الصحيح ذاك الذي يطلقون عليه (راعي الإبل)، بينما فشلت هذه الزمرة المتعلمة حتى في الاتفاق على أن يأتوا بحكومة متفق عليها. الغريب في هذا الأمر أن من ينعتونه براعي الإبل هو الرجل الوحيد الذي لم يأتي بفكرة أو منهج أو طريق من خارج السودان، بل أكاد أن أجزم أنه الوحيد صاحب الفكرة الوطنية الأصيلة. ربما يعود ذلك لأنه لم يتلق أي تعليم بالخارج، فحملة الشهادات هؤلاء جميعهم يعتنقون أفكاراً مستورد من الخارج سواء أن كانت سياسية أود دينة أو غيرها. فمن أرسل منهم للدراسة في شرق أوروبا سابقاً أو الصين عاد وهو معتنقاً للفكر الشيوعي، ومن أرسل للدراسة في غرب أوروبا وغيرها من الدول الغربية جاء بفكرة الرأسمالية والعلمانية والليبرالية وغيرها من معتقدات الغرب، وحتى الذين درسوا في الدول العربية كذلك، فمن ذهب الى مصر عاد إما ناصرياً أو إخوانياً، ومن درس بالعراق وسوريا جاءنا بعثياً، وحتى الذين ذهبوا إلى ليبيا لم يخفوا إعجابهم الكبير بالكتاب الأخضر للعقيد القذافي، ولم يكن أصحاب المذاهب الدينية المنشرة الآن في السودان ببعيدين عن هذا، فمن درس بالمملكة العربية السعودية عاد وهابياً ومن ذهب الى قطر جاء سلفيا ومن ذهب إلى إيران جاء شيعياً، وحتى فكرة المهدية والميرغنية وحزبيهما فلا تحيدان عن هذا المسار، فالمهدية بصورتها الموجودة في السودان ما هي إلا فكرة شيعية جاء بها أصحاب الكتب الصفراء من غرب إفريقيا، وأن كذبة المهدية لا تحتاج الى دليل فالتاريخ والدين أثبت عدم حصتها، وأما الميرغنية فمعلوم تاريخ دخولهم الى السودان بفكرتهم التي تدغدغ العاطفة الدينية لدى السودانيين المتصوفين بطبيعتهم، الخ. لذا فمن الطبيعي أن تتناحر هذه الأفكار السياسية والدينية ولا تتفق على شيء لأنها عبارة عن خليط من النظريات لا يمكن أن تطبق مع بعضها، بل أن كل نظرية وفكرة من هذه النظريات والأفكار يحتاج إلى أن يطبق وحيداً بعيدا عن النظريات الأخرى التي تتعارض معها في كل شيء. فالديمقراطية والرأسمالية والشيوعية والمذاهب الدينية كل منها يغرد في اتجاه مختلف عن الآخر. فالسياسيون يُخوِّنون بعضهم والدينيون يكفرون بعضهم، وكل منهم لا يمانع في اغتيار صاحبة سواء كان اغتيالا معنويا أو ماديا…!؟ وكل منهم يريد أن يفرض فكرة أو مذهب سيده الذي يدفع له في بلد أصبح يئن من كثرة الأفكار السياسية والمذاهب الدينية المستوردة والمدفوعة الأجر! لكل ما سبق فإن فرصة حملة الشهادات الجامعية وفوق الجامعية والمتعلمين وأنصاف المتعلمين والمتسلقين والمتملقين على أكتاف الكيانات السياسية والمذاهب الدينية سوف تكون شبه منعدمة لكتابة التاريخ. لتبقى الفرصة الآن وحسب وجهة نظري المتواضعة أمام (راعي الإبل) صاحب الفكرة الوحيدة الغير مستوردة ليكتب تاريخ دولة السودان الحديثة. إن صدق حدثي فسيذهب متعلمي بلادي من السياسيين المدنيين وأصحاب النياشين العسكرية الى مذبلة التاريخ، ليخلد التاريخ اسم رجل لم يتلق من التعليم الكثير، ولكنه رضع الفطنة والحكمة وحب العدل والسريرة النقية التي جعلته يتمسك بمبدأ سودان يسع الجميع ويسود فيه العدل والمساواة بين الجميع، ويرفع سلاحه للدفاع عن فكرة آمن بها وظل يسعى لتنفيذها عبر المنابر السياسية إلى أن اغتالتها يد فلول النظام البائد بإشعال هذه الحرب. ألا هل بلغت إيها السياسيون وأصحاب النياشين المخدوعين بشهاداتهم ونياشينهم التي لم تقدم لهذا البلد سوى الخراب والدمار والقتل والظلم والجور والتفريق بين الناس والجوع والفقر والتشرد والتقسيم، عودوا الى رشدكم وشاركوا في كتابة تاريخ هذا البلد، وقيام دولة السودان الجديد قبل أن يكتبه (راعي الإبل). [email protected]