أهتم علماء الاجتماع بمسألة ظاهرة المجتمع البشري وإنعكس إهتمامهم على تطور الفكر بشكل ملفت للنظر. نجد إهتمامهم في حقول رؤية تقاطعت فيها الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد والأنثروبولوجيا. في وقتنا الراهن نجد أن علماء الاجتماع والمؤرخيين غير التقليديين قد تجاوزوا الوضعية ووثوقيات ماركس ودوركهايم وأوجست كونت وسان سايمون وإنفتحتوا على عقلانية ماكس فيبر وما تفرع من أفكاره في مجرى القرن الأخير من تطور الفكر في المجتمعات الحديثة بفضل جهوده المنشورة بعد وفاته وقد مر على ظهورها قرن بالتمام والكمال. أفكار ماكس فيبر لا تخرج من محاولاته الدقيقة التي تشبه عمل الأركولوجي في بحثه عن آثار في مجرى التاريخ الطبيعي للإنسانية ولهذا نجد إنتصاره وتكريسه لفكرة تقاوم محاولات كثير من المفكريين الذين ما زالوا يتحدثون عن تتويج التاريخ كما يتوهم هيغل وماركس الى لحظة ظهور عمل جبار لفوكوياما حيث أصبحت نهاية التاريخ وقد توجت بالتاريخ الذي لا يتوج أي التاريخي الطبيعي للإنسانية ولا يمثله غير تاريخ الفكر الليبرالي بشقيه السياسي والاقتصادي وهو مفتوح على اللا نهاية تسوقه معادلة الحرية والعدالة وهي تؤكد مسيرة الانسانية التاريخية. عوامل كثيرة تقف كجبّار الصدف حائل بين أن تبدأ المجتمعات التقليدية كحال المجتمع العربي الاسلامي التقليدي والسودان في تخومه بداية صحيحة لكي تفهم معنى التاريخي الطبيعي للإنسانية أي التاريخ الذي لا يتوج بنهاية بل يسير في صيرورة مسيرة مأساوية وتراجيدية منفتحة على اللا نهاية. تلعب عوامل كثيرة في تأخر البدايات الصحيحة وتلعب فيها عوامل عدة من بينها نقص هائل في المنهج الذي تقارب به النخب في السودان ما يعطل مسيرة الفكر في السودان إذا أرادت أن تواجه التحدي وتريد التغلب عليه. إهمال الفكر الذي يهتم بتاريخ الخوف وتاريخ الذهنيات كنتاج لفكر قدمته مدرسة الحوليات الفرنسية ينتج لنا مؤرخ تقليدي سوداني ما زال منحبس في بحوث تهتم بصحيح الدين كجناح لفكر إهتم بالهويات المضطربة والهويات الخائفة وقد إنفتحت على الهويات القاتلة كما رأينا سيطرة الخطاب الديني المتجسد وسط أتباع الأحزاب السودانية الطائفية وحزب الكيزان وقد أدى لسيطرة الحركة الاسلامية على المشهد السياسي لثلاثة عقود كالحة وعلى مرأى ومشهد من المؤرخ التقليدي السوداني دون أن يحس بحرج بسبب منهجه الناقص هو ما سمح للخطاب الديني أن يزدهر في السودان. ويمكنك أن تقول أن المنهج الناقص للمؤرخ التقليدي السوداني قد سمح له بحقل رؤية إنحبست في الوثيقة المقدسة كما رأينا إهتمام محمد ابراهيم أبو سليم بوثائق المهدية وقد كرّمه حزب الامة لأن عمل محمد ابراهيم ابو سليم يعطي لحزب الأمة شرعية الحق في الإستمرارية رغم تأهبه للخروج من التاريخ بسبب خطابه الديني المنغلق. الأبوية المستحدثة التي تحدث عنها هشام شرابي تجعل المثقف السوداني التقليدي والمؤرخ التقليدي يظن وهو خاطئ بأن التحول الديمقراطي يمكن أن تلعب دوره أحزاب دينية كحال أحزاب السودان وأتباع المرشد والامام والختم متناسين أن الخطاب الديني قد أصبح أكبر حاضنة لسلطة الاب وميراث التسلط في زمن أيقن الفلاسفة أن سحر العالم قد زال أي لم يعد للدين أي دور لجلب سلام العالم إلا في عقل مؤرخ تقليدي مثل محمد ابراهيم ابو سليم وعلي صالح كرار في حديثه عنه صحيح الدين في بحوثه عن الطرق الصوفية وكذلك في عقل أتباع المرشد والامام والختم وظنهم بأن خنوعهم للمرشد والامام والختم تنتج عنه ديمقراطية وهيهات. ومن صور الأبوية المستحدثة نجدها متجسدة في كتابات عبد الوهاب الأفندي في وهمه المتجذر حول إسلامية المعرفة ومحاولاته اليائسة في أن يكون لسان حضارة إسلامية أصبحت بلا لسان في زمن الحداثة وعقل الأنوار كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه روا. أمثال عبدالوهاب الأفندي وأتباع الامام والختم ضحايا كساد فكري وفي نفس الوقت حاملي فيروس الخمول والكسل الذهني الذي تحدث عنه هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب والغرب حيث يظن المفكر التقليدي أن الخطاب الديني يمكن أن يكون جزء مساعد وعامل في عملية التحول الديمقراطي في وقت تعني مسألة التحول الديمقراطي أن تصبح الديمقراطية بديلا للفكر الديني وهذا فكر لا يفهمه إلا من وصل لمستوى فكر وفهم هشام شرابي أو فكر طه حسين عميد الادب العربي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر. طرح طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر فكر وفيه يقول ينبغي أن تتجه النخب في مصر لعقلها الأغريقي الروماني لأن مصر جزء من ثقافة البحر الأبيض المتوسط ولا أمل لخروجها من الكساد الفكري إلا في عودتها الى عقل الاغريق والرومان الذي ورثته أوروبا وأصبحت في مقدمة الشعوب التي إختصرت تاريخ البشرية وهذا هو البعد الفكري الذي لم تدركه النخب التقليدية أمثال أتباع المرشد والختم الامام في السودان وهو أن فكرهم يظن أن الخطاب الديني يمكنه المواكبة وهذا هو مكمن الإختلاف بينهم وفكر طه حسين وهشام شرابي الذي ينتقد أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب وفكرهم المتأهب للخروج من التاريخ لأن الفكر الحديث لا يجاور ولا يصادق ولا يساكن فكر وحل الخطاب الديني وقد عبر عن ذلك محمد أركون المعجب بفكر طه حسين في كتابه الفكر الأصولي وإستحالة التأصيل. طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر منذ ثلاثينيات القرن المنصرم يؤكد أن مفارقة الخطاب الديني والايمان التقليدي هو ما يجعل النخب في مصر والعالم العربي والاسلامي التقليدي في مستوى وعي متساوي مع العقل الغربي وبالتالي يستطيع الصراع معه بعكس ضعف عقل النخب في مصر وهي في عقلها التقليدي وايمانها التقليدي الذي لا يستطيع التغلب على عقل الأنوار وأفكار الحداثة ومن قول طه حسين يمكنك أن تفهم أيها القارئ لماذا فشلت النخب السودانية على مدى سبعة عقود في تحقيق التحول الديمقراطي؟ ومن هنا يمكننا القول أن تحقيق التحول الديمقراطي في السودان لا يمكن تحقيقه وإنجازه بعقلنا التقليدي وذهنية ايماننا التقليدي فلا سبيل الى تحقيق التحول الديمقراطي إلا بإزالة فكر المثقف التقليدي ابن الأبوية المستحدثة وهو متجسد في أمثال عبد الوهاب الأفندي وخنوعه لإسلامية المعرفة ولا يعرف منها فكاك مثله مثل أتباع الختم والامام . ولا يختلف عنهم المؤرخ السوداني التقليدي والمفكر التقليدي والمثقف السوداني التقليدي. في وقت قد أصبح عقل الأنوار الغربي ممر إلزامي وعليه لا داعي من محاربة الفكر الغربي وجعل الغرب وحضارته عدو أبدي في وقت قد أصبحت الحضارة الغربية تجسيد لمختصر تاريخ البشرية كما يقول طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ويؤكد من بعده هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب والغرب وموقفهم العدائي الدائم للحضارة الغربية وكله بسبب العجز عن تحقيق الفكر الأصولي وإستحالة التأصيل كما يقول كتاب محمد أركون في وقت قد أكدت تجربة الانسان وضمير الوجود أن الحضارة واحدة وأن النور يأتي من الغرب. أي أن النور يأتي من الحضارة الغربية كما يقول داريوش شايغان فلا داعي أن يتكلف المثقف السوداني التقليدي ويكابر بأنه يمكنه تحقيق تحول ديمقراطي وفقا لميراث مجتمعنا السوداني التقليدي. هذا حديث مضحك من نخب يسيطر على أفقها عقل الحيرة والإستحالة وللأسف نجده في فكر أقصى اليسار السوداني الرث وأقصى يمينه الغارق في وحل الفكر الديني وهو فكر متعمق في عداءه للحضارة الغربية. ولا يختلف المؤرخ التقليدي يوسف فضل وتلاميذه في إهتماهم كذلك بعمل المؤرخ التقليدي. وكذلك في إهتماهم بفكر لا يهتم إلا بجناحي الهوية القاتلة وهي مسألة إرتكازهم على مدى حقول الخطاب الديني والبعد العرقي وقد تجاوزته أفكار البشرية وهي تسير في مواكب النشؤ والإرتقاء متجاوزة لفكر بائس مثل فكر المركز والهامش الذي أنتج سياسي سوداني يجهل مفهوم الدولة الحديثة وممارسة السلطة في المجتمعات الحديثة ولايهمه غير المحاصصة وغابت عن أفقه العلاقة المباشرة بين الفرد و الدولة ومفهوم المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد وهي تجسد فكرة الضمان الاجتماعي الذي أصبح روح المجتمعات الحديثة وإنجاز عقدها الاجتماعي. إهتمام المؤرخ التقليدي السوداني بفكر الهويات القاتلة وإهماله لفكر الحريات هو المسؤول من إنتاج سياسي سوداني كاسد لم يقدم غير تصورات فتحت على فكر لا علاقة له بقضايا عصرنا الراهن أي قضايا مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية مثل إهتماهم بفكر هووي صاخب نجده في مدارس وهمية مثل الغابة والصحراء والعودة الى سنار ومدرسة الخرطوم وأبادماك وقد أصبحت وكر وكمين ينام في خنادقه أتباع الشيوعية المقنعة وخطابهم المحابي لعلمانية محابية للخطاب الديني في توفيقهم الكاذب. وبسببه قد تبدد فكر الحريات وبالتالي تجد السياسي السوداني يتحدث عن تحول ديمقراطي ويجهل أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للفكر الديني وجهل المفكر السوداني أن الديمقراطية بديلا للفكر الديني يجعله يطرح فكر توفيقي كاذب مثل طرح العلمانية المحابية للأديان كما يتوهم الشيوعيين السودانيين والمساومة التاريخية والمؤالفة بين العلمانية والدين أو مهادنة الطائفية والنسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية وكذلك طرح لاهوت التحرير وكله بسبب لجلجة المفكر السوداني من مواجهة الخطاب الديني وتحديه والتغلب عليه كما يدعو لذلك كثير من المفكريين في العالم العربي مثل هشام شرابي الذي يدعو لعدم مهادنة الخطاب الديني كما يحصل عندنا في السودان أو ما نجده في فكر محمد أركون وترسيخه لمفهوم الدين التاريخي الغائب من دفاتر فكر النخب السودانية العاجزة عن مواجهة الخطاب الديني. علي أي حال يمكننا الإستفادة من فكر فلاسفة قدموا ثنائيات الحرية والقيمة داخل ثالوث العقل والفرد والحرية وثالوث الفرد والمجتمع والانسانية وهو فكر إجتهد فيه ادغار موران في فكره المعقد لكي يخلصنا من وثوقيات الماركسية وسياجات الكيزان الدوغمائية. وهذا الفكر يحتاج توطينه في ساحتنا السودانية أن تترك النخب السودانية عداءها للحضارة الغربية وحينها يكون حديثنا عن التحول الديمقراطي عقله وروحه عقل الفكر الغربي الذي جعل من الديمقراطية بديلا للفكر الديني. وهذا يحتاج لمثقف يقف هناك حيث العقل لا يخاف كما كان عقل طه حسين من قبل خمسة وثمانون عام عندما قال لا يمكننا مصارعة الغرب إلا عندما نؤمن بعقله وعقلانيته وبه يمكننا مفارقة فكر الشيوعي السوداني المحابي للأديان في علمانية نقد ومحاولات عبد الخالق محجوب الباحث عن دور للدين في السياسة وأيضا مفارقة المساومة التاريخية والمؤالفة بين العلمانية والدين وفكر من خدعهم الكوز خالد التجاني النور في لقاء نيروبي عندما أعطوه شيك على بياض لكي يضع فيه أرقام ميزانيته الدينية كما فعل كل من كمال الجزولي ورشا عوض والنور حمد. وما كانوا صيدأ سهلا للكوز خالد التجاني النور إلا لأنهم يجهلون أن لا سبيل لمفارقة العقل التقليدي والايمان التقليدي إلا بتبني فكر الحضارة الغربية التي يكرهها الصادق المهدي الذي يحابيه كل من رشا عوض وكمال الجزولي والكل يعرف عداء الصادق المهدي للفكر الغربي ورغم ذلك نجد كمال الجزولي والحاج وراق وجامعة الاحفاد يجتهدون في تخليد فكر الصادق المهدي التقليدي وتأبيد ايمانه التقليدي. على أي حال كل المؤشرات تقول أن المعجل والمسرع كمفهوم يدركه الإقتصاديين ودارسي النظريات الأقتصادية لو شغلناه كمعجل في حقول الوعي يكشف لنا أن زمننا ترتفع فيه مستويات الوعي بشكل يفاجئ كل ذو ايمان تقليدي في السودان يظن بأن الديمقراطية يمكن تحقيقها بفكر ديني وخاصه المحابين لفكر الصادق المهدي سوف يتفاجؤن بإرتفاع وعي شباب ثورة ديسمبر كما تفاجاء الكيزان يوم إنتصرت ثورة ديسمبر وشعارها حرية سلام وعدالة ويومها قد أصبح الكيزان في حلقة عذاب شديد وهذا الذي ينتظر النخب السودانية المحابية للفكر الديني في السودان ونقول لهم أن النور يأتي من الغرب وأن الحضارة واحدة ولا غير الحضارة الغربية التي إختصرت تاريخ البشرية والسودان لم يكن يوما جزيرة معزولة عن العالم. [email protected]