مجتمع النخب السودانية تحكمه أسرار لا تشبهها إلا أسرار الكنيسة وأفكار ما قبل الإصلاح. هي غير معلنة ولكنها متحكّمة في تطوّر الفكر في السودان بل تقيّد كل من يريد الشب عن الطوق وخاصة في مجتمع سوداني تقليدي للغاية الى أن وصلنا الى مرحلة تلاشي الدولة كغنيمة حرب ورثت من الإستعمار. ونسأل لماذا لم يتلاشى هيكل الدولة كمفهوم في أدنى مستواه في مصر مقارنة بالتشظي الذي أصاب هيكل الدولة في السودان؟ والإجابة في ظل حكم الكيزان طيلة ثلاثة عقود وعندما جاءت فترة حمدوك الإنتقالية كان يتحكم فيها نفس العقل الكيزاني لأن أتباع الطائفية والختم لا يختلفون عن الكوز في شئ. الإجابة عن عدم تلاشي الدولة في مصر لأن هناك مفكريين مصريين كثر أسهموا في شحذ ذهنية الشعب المصري مستفيدين من علوم جديدة مثل مدرسة الحوليات وهي تتحدث عن تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف ونجد أفكارها في فكر احمد لطفي السيد وتلميذه طه حسين وحتى في روايات نجيب محفوظ وهذه الأفكار نجدها معدومة في فكر الدكتور عبد الله الطيب بل يمكننا أن نقول حسب مكتاباته لطه حسين عندما قال عبدالله الطيب أنه قرر أن يقف بجانب التراث والدين والأمة من حينها بداء إنتاج المثقف الإنصرافي وأول من رمى ساسه هو الدكتور عبد الله الطيب. بالمناسبة وقوف الدكتور عبد الله الطيب بجانب الدين والتراث والأمة جعل فكره يفترق عن خط فكر طه حسين والمراقب الجيد والقارئ المدرب يمكنه أن يرى أن فكر عبد الله الطيب أقرب لفكر عباس محمود العقّاد والعقاد من ضمن من يسخر طه حسين من فكرهم وخاصة في العبقريات. ولو لاحظت أن فكر عبد الله الطيب أقرب لفكر العقاد رغم أن تلاميذه يقولون ويتحدثون عن قرب فكره من فكر طه حسين وطبعا إختلاف فكر طه حسين عن فكر عبد الله الطيب يظهر في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ويدعو فيه طه حسين الى عودة مصر الى عقلها الروماني الأغريقي بديلا عن الغرق في ثقافة عربية إسلامية تقليدية يمجّدها أمثال عبد الله الطيب والعقاد في العبقريات وقد كانت مثار سخرية طه حسين من العقاد. ونضرب مثل آخر نوضّح فيه إختلاف فكر الدكتور عبد الله الطيب عن فكر طه حسين والقاسم المشترك هو أن محمد أركون وكان من المعجبين بفكر طه حسين أنظر لفكر محمد أركون وقارنه بفكر الدكتور عبد الله الطيب حيث يتضح الايمان التقليدي لبعد الله الطيب في شرحه للقرآن خلال ثلاثة عقود ونصف العقد في وفكرة مفهوم الدين التاريخي عند محمد أركون. محمد أركون يتحدث عن اللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه وهذا فكر لا تجد له أي أثر في كتابات الدكتور عبد الله الطيب وهو قد قرر بأن يكون بجانب الدين والتراث والامة. وقوفه بجانب التراث أي عبدالله الطيب جعله تقليدي للغاية وجعل أغلب تلاميذه وأتباعه من الإنصرافيين. في مفهوم الدين التاريخي الغائب من دفاتر الدكتور عبد الله الطيب نجده في مقاربات محمد أركون وقد أدخل علوم مثل الأنثروبولوجيا التاريخية وعلم الاجتماع وعلم النفس وفلسفة التاريخ الحديثة لدراسة الدين كظاهرة اجتماعية وهنا تظهر تقليدية الدكتور عبد الله الطيب في فكر يرتكز على التأمل واليقين والوثوقيات ومجافي للنقد والشك الذي يرتكز عليه كل من عقل الأنوار وأفكار الحداثة. عبد الله الطيب عكس محمد أركون تماما في إهتمامه بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا في وقت نجد أن الدكتور عبد الله الطيب لا يخفي كرهه لعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيين لأنهم قد أزاحوا الأبهة عن رجال الدين وكل فكر عبد الله الطيب يحاول فيه إرجاع الأبهة لرجال الدين ومن هنا جاء أغلب تلاميذه وفكرهم في صف الدولة الدينية أو دولة الإرادة الإلهية. عبد الله الطيب في الجزئيين الأول و الثاني من المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها يكشّر عن أنيابه ليظهر كرهه لعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيين وهنا تظهر أفكاره المعاكسة لأفكار طه حسين. ومن محاولات عبد الله الطيب إرجاعه الأبهة لرجال الدين تظهر في جلوسه أمام الملك الحسن في الدروس الحسنية وهو لا يتحرّج من أن يجلس أمام دكتاتور من أقسى حكام العالم الثالث ضد المعارضيين في المغرب بل لكي يخرج من ذلك المأذق كانت هناك محاولات في المغرب بأن تطوي صفحة العنف الذي مارسته المملكة المغربية على المعارضيين على شكل الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا بعد نهاية الفصل العنصري. لكن عبد الله الطيب ما كان يهمه دكتاتورية الملك الحسن يهمه أن يجلس أمام أمير المؤمنيين وهذا يجعل عبد الله الطيب كأنه أمام هرون الرشيد وكله بسبب وقوفه بجانب التراث والدين والأمة ولا يهمه التطوّر الذي حدث في الأفكار كنتاج لعقل الأنوار وأفكار الحداثة ومن علاماته فكر مدرسة الحوليات الفرنسية ودراسة تاريخ الخوف وتاريخ الذهنيات. يا ترى أين يكون موقع الدكتور عبد الله الطيب وتلاميذه لو أجلسناهم تحت ضؤ فكر مدرسة الحوليات لمحاكمتهم وفقا لتاريخ الخوف وتاريخ الذهنيات؟ قطعا الإجابة تكمن في إنتاج المؤرخ التقليدي السوداني وعبر أجيالهم كانت تشغلهم الوثيقة المقدسة كما فعل محمد ابراهيم ابو سليم مع وثائق المهدية ويوسف فضل وتلاميذه وقد كانوا غارقيين فيما تجاوزته مسيرة النشؤ والإرتقاء في تجاوزها لكل فكر يؤسس على الدين والعرق وأغلب بحوث المؤرخ التقليدي السوداني تبحث عن فكرة صحيح الدين. وضح لك كيف كان الدكتور عبد الله الطيب مؤثر على بحوث المؤرخيين التقليديين السودانيين وحقول النقد بشكل سالب؟ وكله يرجع الى إرتكازه على وقوفه بجانب التراث والدين والأمة كما قال لطه حسين. لذلك تجد بحوث أغلب المؤرخيين السودانيين عن الصوفية وصحيح الدين والفلكلور في مجافة تامة لفكر الحداثة الذي يرتكز على النقد والشك وبالتالي لا يتحرّج يوسف فضل كمؤرخ تقليدي أن يجلس في حوار الوثبة مبتلع طعم خداع الكيزان للنخب السودانية. لأن يوسف فضل لا تعرف مناهجه سبيل للنقد والشك بل كأغلب النخب السودانية أسير الوثوقيات واليقينيات والسياجات الدوغمائية والناجي الوحيد من هذا الطاعون الأستاذ محمود محمد طه. على ذكر مدرسة الحوليات الفرنسية كانت ضد فكرة الوثيقة المقدسة وكان في حينها أغلب الكتاب من الدبلوماسيين والعسكر ورجال الدين ولذلك رفضت مدرسة الحوليات كتابات الدبلوماسيين ورجال الدين والعسكر وأنظر لحال الفكر في السودان نجده مسيطر عليه من قبل الدبلوماسيين والعسكر ورجال الدين الى اللحظة في وقت قدمت فيه مدرسة الحوليات دراسة التاريخ الاجتماعي للشعوب والتاريخ الاقتصادي وأنظر لفكر عبد الله الطيب وتلاميذه من الدبلوماسيين هل وجدت فيه أي بعد لدراسة تاريخ المجتمع ودراسة التاريخ الاقتصادي بل نجدهم في وزارة الخارجية أغلبهم لا يتحرّج من الجلوس أمام البرهان بعد إنقلابه ويريد أن يقوم بدوره كدبلوماسي على الطريقة السودانية التي تتجاهل الشرط الإنساني. تتذكرون كيف أنهى البرهان عمل بعض الدبلوماسيين المناهضين لإنقلابه ودعى دبلوماسيين قد جلسوا أمامه كخراف يريدون أن يحققوا حلم أب البرهان؟ وكان من ضمنهم واحد من تلاميذ عبدالله الطيب فهو لا يتحرّج من الجلوس أمام إنقلابي كالبرهان لأن أمامه سنة سنها أستاذه عبدالله الطيب بجلوسه أمام الملك الحسن في الدروس الحسنية أو كما جلس يوسف فضل مخدوع من قبل الكيزان في حوار الوثبة وهكذا هو حال الإنصرافيين تلاميذ عبدالله الطيب ومن يشبههم في جميع قطاعات المثقفيين التقليديين السودانيين. ونفس الشخص أي تلميذ عبدالله الطيب دبلوماسي الانقلابي البرهان كان وراء حيلة وقع ضحيتها الشاعر محمد المكي ابراهيم عندما كرّمه المجرم المطلوب للعدالة أحمد هرون وهكذا حال الإنصرافيين وهم قبل كل شئ ضحايا منهاجهم التقليدية التي تجعلهم يدافعون عن الحضارة العربية الاسلامية التقليدية في السودان وعلى أي حال لا يمكن أن تصمد أفكارهم أمام عالم أصبح يؤسس تجدده على أعمدة الشك والنقد وليس على الوثوقيات وباليقينيات. ومن هنا يمكننا أن نقول أن لا علاقة لفكر الدكتور عبدالله الطيب بفكر طه حسين كما يحاول خالد محمد فرح مقارنة فكر طه حسين بفكر عبد الله الطيب لأن فكر طه حسين يقوم على الشك والنقد وفكر الدكتور عبد الله الطيب يقوم و يرتكز على التأمل والوثوقيات واليقينيات ولا يعرف سبيل لمفهوم الدين التاريخي في جميع مؤلفاته التقليدية. أما قبول الدكتور عبدالله الطيب لجائزة السعوديين لخدمته لنشر الثقافة العربية الاسلامية التقليدية تنقص من قيمتها رفض هابرماس وهو فيلسوف ألماني لجوائز عرب الخليج وهي تقود نظم سياسية متخلفة وهذا هو الفرق بين هابرماس كواحد من ورثة عقل الأنوار وعبدالله الطيب. عبدالله الطيب يمكنه أن يجلس أمام الملك الحسن ويأخذ جائزة السعوديين ولا يتحرّج من ذلك ويرفضها هابرماس لأنه لا يمكن أن يقوم بما قام به عبدالله الطيب وأذكر أيضا أن هناك أديب أوروبي رفض أن يقبل جائزة الغذافي مثلما رفض هابرماس جائزة عربان الخليج التي يسيل لها لعاب كل من الدكتور عبدالله الطيب والمؤرخ التقليدي يوسف فضل وهنا يظهر لنا كيف أنهما تقليديان أي الدكتور عبدالله الطيب والمؤرخ التقليدي يوسف فضل. وأخيرا نذكر إعجاب الناقد هارولد بلوم بفكر طه حسين وكيف وضّح أن أفكار طه حسين ترقى الى مستوى نصوص الأدب الغربي في تقدمه على بقية الشعوب التقليدية وذكر معه نجيب محفوظ ومحمود درويش وفقا لمعايير لا نجدها البتة في مؤلفات الدكتور عبد الله الطيب رغم أن هارولد بلوم كلاسيكي ولكنه وصل الى مفهوم الدين التاريخي الذي يغيب عن أفق حقول رؤية الدكتور عبد الله الطيب التقليدية. نقول للشعب السوداني أنك تمر بأحلك حقبة تاريخية ينشط فيها الماضويون في محاولتهم اليائسة بربطكم بالماضي الذي يمثله فكر عبد الله الطيب وتلاميذه الإنصرافيين وهي محاولات يائسة دوما يقوم بها التقليديون في لحظات مفاصل الزمن وبالتالي يكون نشاط الإنصرافيين بإعادة فكر الدكتور عبدالله الطيب للواجهة فرفرة مذبوح لأن فكر الدكتور عبدالله الطيب فكر تقليدي يريد أن يكون لسان لحضارة اسلامية تقليدية قد أضحت بلا لسان كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه روا. وفي قول أوليفيه روا يتضح لك الفرق الهائل بين عبدالله الطيب كمثقف سوداني تقليدي إذا ما قارناه بجهود بول ريكور الفيلسوف الفرنسي المؤمن إلا أنه ابن عقل الانوار أو فكر رينيه جيرار في مثلث الرغبة ومحاكاة الغريم وهو يلتقي مع هارولد بلوم كناقد كلاسيكي في قلق التأثر والفرق بينهما كبير عندما نقيس نقدهما بمقاربات عبدالله الطيب التقليدية. إذا كان هناك حزن نقول لكم إننا نحتاج لثلاثة عقود حتى نعبر أوهام الانصرافيين وبعدها سوف تأتي أجيال تربط الشعب السوداني بالانسانية التاريخية وفقا لظاهرة المجتمع البشري في أقانيمه الثلاث المجتمع والفرد والانسانية. نقول نحتاج لثلاث عقود لأن مدرسة الحوليات عندما بدأت مع فترة الكساد الاقتصادي العظيم إحتاجت لثلاثة عقود حتى تصل أفكارها الى أرقى الجامعات ومراكز البحوث. كذلك تحتاجون لثلاثة عقود حتى ينضج العقل السوداني ويتخلص من أفكار المثقف التقليدي والمؤرخ التقليدي السوداني وحينها يتضح الفرق بشكل جلي بين فكر طه حسين أي فكره الذي يقوم على الشك والنقد وفكر الدكتور عبدالله الطيب الذي يقوم على الوثوقيات واليقينيات والتأمل وحينها لا يمكنك أن تنخدع بمقالات الانصرافيين عن فكر عبدالله الطيب وهو فكر تقليدي وسيزول يوم يبداء طريقنا مع فكر النزعة الانسانية وحينها يختفي فكر المثقف التقليدي المنخدع بفكر الدكتور عبد الله الطيب وهو يجسّد فشل طه حسين في أن يخلق من عبد الله الطيب طه حسين في السودان. نعود ونقول أن عدم تلاشي هيكل الدولة في مصر يرجع فضله لفكر أمثال طه حسين وأستاذه احمد لطفي السيد وتلاشي الدولة في السودان في ظل حرب عبثية سببه غياب مفكر سوداني يصل مستواه الى مستوى فكر طه حسين. رغم أن مصر ما زالت عاجزة عن التحول الى دولة صناعية وما زالت كهيكل لدولة بلا مستقبل ولا يكون لها مستقبل بغير أن تصبح دولة صناعية ونفس حال مصر ينطبق على العراق تلاشى فيها هيكل الدولة إلا أنها قد إستعادت مسارها والآن بقيادة السوداني تستعيد مسارها من جديد ويرجع الفضل لمفكريين عراقيين قدموا فكر مميز مقارنة بالمفكريين السودانيين التقليديين ففي العراق هناك عالم الاجتماع علي الوردي وعالم الاجتماع فالح عبدالجبار وتختلف بحوثهم عن بحوث الإنصرافيين السودانيين وأضف إليهم الناقد فالح مهدي وجهوده في كتابه تاريخ الخوف ويمكنك عبره محاكمة النخب السودانية التقليدية. [email protected]