(الحرب ليست فقط هي ما يحرق حاضرنا، ولكن أيضا ما يستمر فينا من رماد حتي بعد خمود حرائق الموت).. واسيني الأعرج.. السياحة القتالية تعبر عن مفهوم جديد ضمن سياق الحرب الدائرة اليوم في السودان، إذ يحيل هذا المفهوم إلى الطريقة التي تدخل بها قوات الدعم السريع إلى المدن والقرى دون أن تجد مقاومة حقيقية من قوات الجيش، ومن ثم انعدام الرؤية من قبل هذه القوات تجاه إدارة هذه المدن، وبالتالي تحول بعض أفراد هذه القوات إلى حالة من النهب للمواطنين ويصبحون مهددين لحياة البعض منهم ضمن حالة نحاول مناقشتها لاحقا ضمن مفهومي الغزو والفتح ..لكن دخول قوات الدعم السريع لتلك المدن والقرى وبدون أن تجد مقاومة من قبل الجيش يؤدي إلى طرح عدة أسئلة حول مقومات الجيش، ومدى قدرته واستعداده لخوض أي معركة ومع أي قوى سواء كانت داخلية أو خارجية، وما هي الأسباب التي دعت جيش دولة أن يكون بهذا الأداء الكسيح؟ الأسباب عديدة لكن أهمها: 1- الانشغال المتواصل للجيش بأمور السياسة والحكم أدى إلى تعطيل الدور والذي من المفترض أن يقوم به أي جيش احترافي ضمن واقع الجيوش الحديثة.. 2- لقد أفرغت الحركة الإسلامية أثناء حكمها للسودان الجيش من قدراته وتحويل تلك القدرات للمليشيات ابتداءً بالدفاع الشعبي وإنتهاءً. بقوات الدعم السريع، بالإضافة للأجهزة الأمنية المتعددة.. 3-فساد قيادات الجيش وارتباطها بدورة المال ومن ثم ترك قاعدة الجيش بلا تدريب أو مؤن وبالتالي ضعف القدرات القتالية لهذه القوات.. 4- ليست هنالك أهداف واضحة للجيش في دخوله هذه الحرب إذ يقوم الجيش بحرب الوكالة من أجل تنفيذ مخططات الحركة الإسلامية 5-لقد ارتبط هذا الجيش وعبر مسارات هذه الحرب ومن خلال الجانب الإعلامي بالناشطين والناشطات عبر وسائط التواصل الاجتماعي والتي تقوم تحركاتهم على الكذب والتضليل وبث الشائعات ومن ثم تصدير صورة غير حقيقية لما يجري على الأرض، وهذه العقلية قد أطلقنا عليها في مقال سابق الظاهرة الصوتية، وهي الظاهرة التي صمتت معها مدافع الجيش لعدميتها وقد تصدٌرت هذه الصورة الهلامية المشهد والتي صدقها الجيش نفسه والذي تحولت بعض قياداته لمجال الظاهرة الصوتية نفسها وتركت المعركة .. وبهذا المعنى فإن الجيش قد أصبح دون قدرات قتالية وفقد القدرة على الدفاع عن المدن والتي تسيح فيها قوات الدعم السريع دون اعتراضات مما يشكل ذلك فضيحة لدى جيش نظامي يتباهى أن تاريخه يقترب من القرن، هنا نناقش النصف الفارغ من الكوب..أما النصف المليء من الكوب مجازاً والذي تمثله قوات الدعم السريع فإن هذه القوات قد استفادت من كل الإمكانيات التي تم توفيرها لها عبر مسيرتها القتالية ومنذ تكوينها، وكذلك استفادت من كافة المواقع التي اَلت إليها حراستها قبل هذه الحرب ولقد كانت كاشفة للجيش ولنقاط ضعفه، ولهذا أحدثت هذه الإزاحة في الكوب وحولتها لصالحها ضمن إطار القوة ولهذا تغلبت وإلى الآن على جيش البصاصين والذي لا تعرف استخباراته تحركات قوات الدعم السريع، ولكنها تعرف كيف تعتقل النشطاء السياسيين وأعضاء لجان المقاومة..وبالتالي وضمن حالة تحلل وتفكك منظومة الجيش ومن ثم الاقتحام للمدن من قبل قوات الدعم السريع، فهل نموضع هذا الاقتحام في خانة الغزو أم الفتح؟ الغزو أم الفتح دلالات الغزو والفتح داخل المجال الإسلامي والذي تتقاتل هذه الأطراف داخله رافعة جميعها شعار الله أكبر تختلف من حيث المرامي والأهداف..فالغزو وضمن هذا المفهوم الديني يرتبط بالإغارة وتجريد الآخرين من ممتلكاتهم ودون اعتبارات أخلاقية أو انتباه للجانب الإنساني، أما الفتح وضمن هذه السياقات الدينية فيرتبط بقيم وأهداف يحاول الفاتحون إيصالها للذين يحاولون الدخول لدوائرهم، واضعين في الاعتبار بكون الغزو والفتح خارج الدائرة الإسلامية يمكن النظر لهما كفعل واحد ومتشابه من حيث الفعل والمضمون.. وضمن هذا التعريف المختصر فهل لدى قوات الدعم السريع هذه الأهداف الواضحة أو رسالة تسعى لتجسيدها أمام المواطن الذي يقتحمون مدنه وباعتبارهم منتمين لهذه الدائرة الإسلامية والتي قال قائد هذه القوات أنه يسعي لتجسيد مبدأ الشورى وتطبيقه فيها؟ الواضح ووفق المعطيات ومع تضارب التقارير التي تأتي من الأرض ودون تبني أي أطروحات يقدمها الطرف الآخر المرتبط بالجيش فإن قوات الدعم السريع هي أقرب لمفهوم الغزو من مفاهيم الفتح ضمن تحركها عبر الشهور الفائتة وللأسباب التالية: أولاً: هذه القوات تدخل المدن دون أن تكون لديها أهداف أو خطط مسبقة لإدارة هذه المدن وبالتالي يتحول وجودها إلى فوضى تفقد معها المدن حالة الاستقرار النسبي الذي كانت تعيشه، ومن هنا فبدلاً من أن تكون هذه القوات منسجمة مع شعاراتها المرتبطة بتحرير المواطن من قبضة(الكيزان) تتحول هي إلى مهدد جديد يقلق حياة المواطن ويتم ترهيبه.. ثانياً: دون الذهاب نحو تجريم هذه القوات وكما يفعل ( الكيزان) إلا أن بعض الممارسات والتي يقوم بها بعض أفراد هذه المجموعات وليس في المدن فحسب، بل حتى في القرى من نهب لممتلكات المواطنين ووفق شواهد من أناس ليس لديهم عداء مسبق مع هذه القوات، فإن هذا يجعل من هذه القوات مجسدة لفكرة الغزو والمرتبط بالغنيمة وليس الفتح والمرتبط ببث القيم الجديدة، إذ يعد اقتحام قرى الجزيرة ونهب ما يمتلكه المواطنون تقويض مباشر لمفهوم فكرة الهامش التي تتحرك على أساسها هذه القوات وهو ضرب للفكرة من أساسها وبالضرورة فهي نسف للرسالة التي تحاول هذه القوات تصديرها للناس. ثالثا: لقد شاركت هذه القوات ومعها الجيش في تدمير المدن وبالتالي فإن الحديث عن الدولة المدنية ودون وجود المدينة يصبح خيالاً، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل أن إفراغ المدن من سكانها يحيلها إلى مدن غزو وليست مدنا للفتح والذي من المفترض أن يتعايش سكانها مع الفاتحين الجدد.. وحتي البيان الذي أصدرته قوات الدعم السريع بتاريخ 26 ديسمبر 2023م، والذي قصد منه تنظيم الحياة في ود مدني يأتي متأخرا ومقترنا بمنظور الملاحقة والذي تحدثنا عنه في مكان آخر وهو يأتي بعد خراب سوبا كما هو شائع في المثل، فالمواطن لا يعود لداره من خلال البيانات، إنما استنادا للوقائع على الأرض واحساسه بالأمان والذي تم سلبه من بعض أفراد هذه القوات، فالبيان يحاول معالجة الفعل اليومي لكنه لا يستطيع معالجة السلوك الممنهج لأن هذه المعالجة للسلوك تتطلب تشكيل هذه القوات على وعي جديد، وعي الفتح ضمن حيزه المجازي والذي أرمي به إلى الاختلاف عن ما فعله (الكيزان) عبر حكمهم للسودان حيث حولوا مدن عديدة لأرض محروقة، ويبدو أن قوات الدعم السريع ما زالت تسير على هذا النهج الموروث عبر عقلية (الكيزان)..في نهاية الأمر فقد توفرت للدعم السريع القوة المادية للسيطرة على مواقع عديدة في السودان، لكنه يفتقد مع هذه القوة الدوافع نحو أسس البناء علي أسس جديدة نتيجة لانعدام المفهوم والرؤية المسبقة التي تساعد على استقرار المواطنين وليس تشريدهم حيث أن رسالة الديمقراطية والشورى وفي حيزها الضيق لا تتم والناس يولون الأدبار من قوات الدعم السريع، حيث أن هذه المفاهيم تتم عبر تجسيد النموذج الأصغر ثم الأكبر وهو ما لم نراه حتى هذه اللحظة المشحونة بكل أنواع الخوف والترهيب…. الظاهرة الاخطر والتي نختم بها هذا المقال هي حالة الإنكار لدى داعمي الحرب ومن قبل الطرفين فيها، إذ بنفس الدرجة التي ترفض فيها الأطراف الداعمة للجيش حقائق الأمور على الأرض، ينكر الذين يقفون مع الدعم السربع ما تقوم به هذه القوات من ممارسات والذين استطيع أن أطلق عليهم الطهوريين أو المتطهرين الذين ينظرون لهذه القوات ضمن مفهوم النقاء والاستقامة وهؤلاء تأتي قراءتهم للأحداث وفق النسق المتعالي الذي تقرأ به الحركة الإسلامية الواقع وجميعهم يقعون في دائرة الايهام والوهم معا، وهي الدائرة التي تفرزها الحروب ضمن اختلالاتها النفسية…فالطرف الذي يحاول نفي ظاهرة النهب الذي تمارسه بعض أفراد قوات الدعم السريع يأتي بمقولة القوى الخفية والتي تمارس عملية هذا النهب، دون أن نعرف ماهي مهمة قوات الدعم السريع في هذه الحالات ولماذا تظهر هذه القوى الخفية وبشكل مكثف عندما تفتحم هذه القوات المدن، ولماذا لا تحاربها قوات الدعم السريع من أجل مصلحة المواطن ومنذ البداية؟ إنها المبررات الأقبح من الذنب والتي يتحول معها هذا الطرف الداعم لهذه القوات إلى منحى رغائبي كحالة لديها علاقة بالإنكار وهي حالة تبحث عن التسامي عبر انفصالها عن واقع الخراب في الأرض ومن ثم تحويل أفراد قوات الدعم السريع إلى رساليين لديهم أهداف تتصل بتحرير السودان ولن يتم التنازل عن هذه الحالة إلا من خلال فعل الصدمة، الصدمة التي أخرجت مؤيدي الجيش من دائرة الوهم وبدأوا إدراك خطلهم بعد دخول قوات الدعم السريع ود مدني، أما داعمي قوات الدعم السريع فإن الصدمة التي ستخرجهم من الوهم ستأتي قريبا وعندما يشاهدون أن هذه القوات قد تحولت لتكون جزءاً أصيلا من تمزيق السودان وهذا ما تشير إليه كل الوقائع على الأرض وهذا ما لا نأمل حدوثه… [email protected]