عبدالقادر باكاش ومما يحكى أن (خدوري) ملاكم مدني الأول، لم يهزم قط في أية مباراة للملاكمة.. يفوز في كل عام بلقب ملاكم السودان الأول..يهزم ملاكمي كل الأقاليم بسهولة ويسر، كما يفعل ملاكم الخرطوم، ثم يلتقيان، فيقضي (خدوري) على ملاكم الخرطوم بالضربة القاضية، وتهتف مدني: خدوري.. خدوري..ويأتي العام التالي، ويفوز خدوري، وتهتف مدني: خدوري..خدوري.. ويعود ملاكم الخرطوم ومدرب وجماهير الخرطوم، مشيعين بشماته أهل مدني، وبصيحات: خدوري..خدوري.. وفي ذات موسم، أصر مدرب الخرطوم الجديد القضاء على أسطورة مدني (خدوري) فطلب من مساعديه أن يأتوا إليه بكل شاب متين وقوي وسمين، وسرعان ما امتلأ نادى السجانة بالشباب الأقوياء، فاختار منهم المدرب أقواهم وأمتنهم وأسمنهم، وطلب منه أن يأتي يوم السفر إلى مدني، فتعجب المساعدون من فعل المدرب وقالوا إن الزمن لا يسعفه في التدريب والتأهيل والتجريب..فقال لهم، إنه لا يريد أن يدربه أو يؤهله.. فقط يريده هكذا..فتحاوروا وتجادلوا وتنابزوا بالألقاب، لكن المدرب أصر على قراره، وقال لهم، إن لم يهزم (خدوري) هذه المرة فلا مقام له بين الملاكمين. وعندما حان الموعد ذهب الجميع إلى استاد مدني ..حيث تدفقت جماهير مدني حتى ضاقت بهم المدرجات، كانوا ألوانا من السياسيين والأكاديميين والمثقفين والفنانين مغنيين وعازفين ورسامين، وسيل من الناس تدفق من حديقة وقيع الله، والمستشفى، السوق الصغير، رواد سينما أمير، الدباغة، المزاد، القسم الأول ، أم سويقو ، العشير، الجامع الكبير، ميدان الملك، شارع البحر، الشماسة والمتسولين، والحدادين وسائقي التاكسي (الأحمر)..كانوا يهتفون، في صوت واحد طروب، كأنه آت من الكاشف أو ود اللمين: خدوري..خدوري، ودخل (خدوري) حلبة الملاكمة دخول الفاتحين، محمولا على الاكتاف، مزدانا بأكاليل الزهور ومكتوبا على فنلته الحمراء، بخط أبيض كبير، مدني الجمال، وبخط أصغر مائل، خدوري بطل مدني..ولافته كبيرة مكتوب عليها: سائقو تاكسي مدني يقفون وراء خدوري، ولافتات أخرى كثيرة وقطع من الكراتين يحملها باعة التسالي والدندرمة والترمس مكتوب عليها بخطوط مختلفة خدوري بطل مدني مع تحياتي، وعليها اسم الشخص وصفته ورقم تلفونه. همس مدرب الخرطوم في أذن ذلك السمين عديم الخبرة والإلمام بأصول اللعبة، فتقدم وسلم على خدوري، وبدأ خدوري في تحية الجماهير الهاتفة: خدوري..خدوري.. ومن ثم باغت متين وسمين وتخة الخرطوم بضربة عاجلة على حنكه ثم أخرى على كتفه وثالثة على خده، ورابعة وخامسة والمدرجات تهتف، تحيا مدني، تعيش مدني، يا خدوري..وتهاوت الضربات على ذلك السمين المتين المسكين التخة..لكن سرعان ما قبض يده بقوة مبديا غضبا عاصفا قويا، ثم هوى بها على رأس (خدوري)، فتهاوى على الأرض كما تتهاوى غرفة جالوص ثقيلة السقف من فيضان بحر أزرق، فصمتت المدرجات، ولم يصدقوا ما رأوه بأم أعينهم، لكنهم سرعان ما عادوا للهتاف، قوم ..قوم.. يا خدوري..أرفع رأس مدني يا خدوري..لكن خدوري الذي تناهى إلى مسامعه صوت: (أرفع رأس مدني يا خدوري) بعد أن أفاق وقد رأى نجوم السماء نهارا جهارا تحوم حول عينيه.. قال في صوت باهت ضعيف لأقرب شخص حوله، قول ليهم خدوري (رأسه) ما قادر يرفعه…! وما فعله ذلك العادي بالأسطورة يصلح دليلا ماديا للمتشككين في انتصار المقاومين الذين جاءوا حاملين العصي والسكاكين والسواطير والسيوف وجيم 3، والمسدسات القديمة الصدئة، وبنادق الصيد البدائية، والبساطين والسفروكات وسياط العنج، والهتافات، أن يهزموا الدعم السريع، الذي لم يستطع الجيش بما أوتي من مهارات ودورات وطلعات جوية وقادة وأركان وميزانية ضخمة من هزيمته…لكن العادي قد يتحول إلى مارد عندما تكثر عليه الضربات.. وتباغته المصائب.