امام محمد امام لم يكن يدر بخلد الزعيم الشيوعي السوداني الراحل محمد إبراهيم نقد أن مقولته الشهيرة التي مضى عليها أكثر من عام، عندما افتقد رسلاءه من زعماء المعارضة الذين وعدوا بالحضور إلى ميدان أبو جنزير وسط الخرطوم، لتسيير مظاهرة ضد نظام الإنقاذ، ليحركوا بواعث الربيع العربي في نفوس المعارضين السودانيين، على غرار ما حدث في تونس ومصر واليمن وغيرها من البلاد العربية، ولكنه حرص قبيل مغادرته قسراً ميدان أبو جنزير أن يسجل حضوره في كرتونة، حيث كتب فيها (حضرنا ولم نجدكم)، فهو رغم السن الطاعن والجسد الواهن، لم يتردد في خوض قسوة النضال من أجل المبادئ والأفكار التي آمن بها. وأحسب أنه في ذلك كان يردد قول أبي الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبئ: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وأظنه - وليس كل الظن إثم - يستذكر في حاله النضالي المستمر، قول أمير الشعراء أحمد شوقي: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخد الدنيا غلابا وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا وفي هذه المرة حضر الرفاق وآخرون إلى مستشفى سانت ميري في وسط لندن ليعودوه من مرضه الأليم، ولكنهم لم يجدوا الرفيق محمد إبراهيم نقد، إذ إنه التحق بالرفيق الأعلى يوم الخميس الماضي، مودعاً هذه الدنيا الفانية التي قضى فيها عمراً زاد عن الثمانين بقليل. ومن المصادفات التي ينبغي أن يتأملها المرء أن لندن التي شهدت وفاة الزعيم الشيوعي السوداني، هي ذات المدينة التي تحضن رفات الفيلسوف كارل ماركس مؤسس الشيوعية، إذ إنه توفي في 14 مارس 1883عن عمر يناهز الخامسة والستين. كان الراحل نقد يعرف السودان وأهله معرفة واسعة، فلقد ظل متنقلاً مع عمه إلى العديد من المدن السودانية التي درس فيها تعليمه الأولي والأوسط. وشارك منذ صغره في المظاهرات ضد الاستعمار، إبان مرحلة الحراك السياسي والنضال الوطني الذي كان يقوده مؤتمر الخريجين يومذاك. وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة حنتوب الثانوية التي كانت تعتبر منارة من منارات التعليم في السودان. ومارس فيها بواكير نضالاته من خلال المظاهرات التي كان ينظمها طلاب المدرسة دعماً للحركة الوطنية، وتأييداً للمواقف النضالية المؤيدة لإضراب الجمعية التشريعية. وعُرف عن الراحل نقد اهتمامه بالأنشطة الثقافية، باعتبارها أداة فاعلة من أدوات النضال الوطني. ولما كان الراحل نقد بطبعه ناشطاً سياسياً فاعلاً استهوته في الجامعة المظاهرة أكثر من الدراسة، ورأت فيه إدارة جامعة الخرطوم ناشطاً ومحرّضاً، برز لها ذلك جلياً من سنته الأولى في الجامعة، فسارعت إلى فصله وهو في المعتقل، مما دفعه مضطراً إلى التفكير في الهجرة طلباً للعلم إلى مصر، ولكن الحزب الشيوعي الذي انتمى إليه وانتظم فيه، فكراً وتنظيماً، كان حريصاً على إبعاده من مصر، للظروف السياسية هناك التي شهدت مضايقات بالنسبة للشيوعيين مصريين وغير مصريين، فتوجه إلى بلغاريا للدراسة فيها بعد رحلة شاقة، والتحق بكلية الاقتصاد والفلسفة، ولكنه لما كان غارقاً في التأمل، وممعناً في التنظير والفكر، جذبته الفلسفة أكثر من غيرها، ودفعته إلى التفرغ للعمل التنظيمي طوال حياته، حيث تفرغ للعمل السياسي في سكرتارية الحزب الشيوعي السوداني، ولكنه مارس أسلوباً فريداً في معارضة الأنظمة الشمولية، وذلك من خلال إجادته لأسلوب الاختفاء القسري لسنوات طوال، ومع ذلك باشر مهام العمل السياسي سراً. ويبدو أنه كان يحرص على تعويض هذا الاختفاء القسري بنشاط سياسي كثيف ما أن يزول ذلك النظام الشمولي أو تنفرج مساحات الحرية والعمل السياسي الحزبي، لتمكنه من مباشرة مهام عمله السياسي والحزبي جهراً. وأحسب أن الراحل نقد كان الشيوعي السوداني الوحيد الذي مارس العمل النيابي انتخاباً في برلمانيّ العهدين الديمقراطيين، إذ اُنتخب عضواً في الجمعية التأسيسية (البرلمان) عن دوائر الخريجين، ممثلاً عن الحزب الشيوعي في عام 1965، ولكنه لم يُكمل تلك الدورة البرلمانية، نسبة لصدور قرار برلماني بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان. وتدرج في المناصب السياسية الحزبية داخل الحزب الشيوعي السوداني حتى أصبح السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، إثر اغتيال عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني عقب فشل انقلاب الشيوعيين في يوليو 1971، وعودة الرئيس الراحل جعفر محمد نميري إلى الحكم، فأعدم العديد من قيادات الحزب الشيوعي عسكريين ومدنيين، انتقاماً وثأراً من الانقلاب عليه، وكان من بينهم عبد الخالق محجوب. وكان الراحل نقد قد لجأ إلى الاختفاء القسري من نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري ابن دفعته في مدرسة حنتوب الثانوية حتى قيام انتفاضة السادس من إبريل 1985. وفي انتخابات العهد الديمقراطي الثالث اُنتخب الراحل نقد عضواً في الجمعية التأسيسية (البرلمان) في عام 1986. ولم يكن انتخاب الراحل نقد عن دائرة الديم – العمارات الجغرافية عام 1986، باعتباره سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوداني، ولكن كان يرى فيه أهل تلك الدائرة شخصاً مخلصاً لمبادئه وللأفكار التي آمن بها، وحريصاً على عمل كل ما في وسعه لخدمة ناخبيه، بالإضافة إلى خدمة وطنه ككل، لذلك حرص الكثيرون على العمل في حملته الانتخابية، لتمكينه من الفوز بمقعد هذه الدائرة الجغرافية، على الرغم من أن أكثرهم ليسوا شيوعيين، بل أن بعضهم يمقت الفكر الشيوعي ويرى أنه من ضلالات السياسة السودانية، ولكن بجهد جميع هؤلاء اُنتخب الراحل نقد في تلك الانتخابات، وكان الشيوعي الوحيد الذي وصل إلى ذلك البرلمان من الدوائر الجغرافية. وظل الراحل نقد يُباشر مهام العمل النيابي والسياسي الحزبي حتى يونيو 1989، حيث تم اعتقاله مع زعماء وقيادات الأحزاب السودانية بمن فيهم الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية آنذاك، من باب التقية لإخفاء حقيقة الانقلاب، حين قال الدكتور حسن الترابي للعميد عمر البشير آنذاك مقولته الشهيرة التي سار بها الركبان داخل السودان وخارجه (اذهب إلى القصر رئيساً وأنا إلى السجن حبيساً). ومن الضروري أن نؤصل للتقية هنا، تأصيلاً لُغوياً وفقهياً، لأن الكثير من أهلنا في السودان يظنون - وإن بعض الظن إثم - أن التقية قاصرة على أتباع المذاهب الشيعية، ولكن الحقيقة غير ذلك، فالتقية موجودة في القرآن والسنة. ولنبسط القول في ذلك بإيجازٍ غير مخلٍّ. فالتقية لغةً: هي اسم مصدر ل"توقى" و"اتقى"، تقول: توقيت الشيء، واتقيته، وتقيته، تقى وتقية، أي حذرته. واصطلاحاً: إن التقية من الوقاية، فهي جُنة تُدرأ بها المخاوف والأخطار، أي أن الغرض من التقية أن يحافظ المرء على عرضه أو نفسه أو ماله، مخافة عدو، فيظهر غير ما يضمر، فهي إذن مداراة وكتمان، وتظاهر بما ليس هو الحقيقة، فمن كان على دين أو مذهب ثم لم يستطع أن يظهر دينه أو مذهبه، فيتظاهر بغيره، فذلك تقية. هذا ولم ترد عبارة تقية في القرآن الكريم، وإنما جاءت بلفظ تقاة. ويذهب الشريف الرضي والزمخشري أن تقاة قُرئت تقية، ومن الواضح أن المراد بها هنا التظاهر. وفي ذلك قال الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}. أما دليلها في السنة أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (بدر) مرّ حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن محمد وقريش وما بلغه من خبر الفريقين، فقال الشيخ: لا أخبركم حتى تخبروني ممن أنتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال الشيخ: خبرت أن قريشاً خرجت من مكة وقت كذا، فإن كان الذي خبرني صدق، فهي اليوم بمكان كذا - للموضع الذي به قريش، وخبرت أن محمداً خرج من المدينة وقت كذا، فإذا كان الذي خبرني صدق، فهو اليوم بمكان كذا - للموضع الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: من أنتم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء ثم انصرف. وجعل الشيخ يقول: نحن من ماء! من ماء العراق أو ماء كذا أو ماء كذا. والله سبحانه وتعالى يقول: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}. وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للشيخ الأعرابي: نحن من ماء، معلماً أمته نموذجاً عالياً من الكتمان - خاصة في القضايا العسكرية والمهام المصيرية، التي لا يصح كشفها إلا في حدود معينة وضمن نطاق معين. كان الراحل نقد يجذب أصدقاءه وزملاءه ورفاقه ومعارفه إليه بطيب حديثه، وعظيم تواضعه، وسماحة نفسه، لذلك لم يكن عسيراً عليه وعلى رفاقه في الحزب الشيوعي السوداني، إعادة انتخابه سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوداني في يناير 2009، وظل في هذا المنصب إلى أن أدركه القضاء المبرم ألا وهو الموت يوم الخميس الماضي في العاصمة البريطانية لندن. ولما كان الراحل نقد مفكراً منظراً في الحزب الشيوعي السوداني وليس زعيماً له فحسب، كان سهلاً عليه أن يصدر العديد من المؤلفات منها: "قضايا الديمقراطية في السودان" و"حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" و"مبادئ موجهة لتجديد البرنامج" و"علاقات الأرض في السودان: هوامش على وثائق تمليك الأرض" و"علاقات الرق في المجتمع السوداني" و"متغيرات العصر" وترجمة لكتاب المؤرخ الروسي سميرنوف: "الثورة المهدية". وأحسب أنه من الضروري الإشارة هنا إلى أن الراحل تميز بعلاقة فيها قدر من الحميمية والتعاون الوثيق مع الصحافيين والإعلاميين لإيمانه برسالتهم، فكان سهلاً ميسوراً في التعامل معهم من خلال تمكينهم من إجراء الحوارات الصحافية معه، وأخذ التصريحات الصحافية منه، بل كان هو الذي يبادر أحياناً بالاتصال بهم، لذلك سيكون رحيله فقداً أليماً لمعشر الصحافيين والإعلاميين أيضاً. ولنستذكر جميعاً في هذا الصدد، قول الشاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سلمى: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول وختاماً؛ أسأل الله تعالى أن يتقبل فقيدنا محمد إبراهيم نقد قبولاً طيباً حسناً، ويلهم ذويه وأصدقاءه ورفاقه ومعارفه الصبر الجميل. { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}.