نوعية طعامنا تؤثر في أحلامنا    الخطر الحقيقي الذي يهدد بحر أبيض يتمثل في الخلايا الحيّة التي تجاهر بدعم التمرد    "مدينة هرار" .. بدلا من المانغو والفول السوداني.. ماذا يفعل "الذهب الأخضر" في إثيوبيا؟    مدير شرطة إقليم النيل الأزرق يقف على سير العمل بمستشفى الشرطة بمدينة الدمازين    (خواطر ….. مبعثرة)    وجوه مسفرة    وزير الخارجية الأمريكي في اتصال هاتفي مع البرهان يبحث الحاجة الملحة لإنهاء الصراع في السودان    الخارجية المصرية: "في إطار احترام مبادئ سيادة السودان" تنظيم مؤتمر يضم كافة القوى السياسية المدنية بحضور الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    الموساد هدد المدعية السابقة للجنائية الدولية لتتخلى عن التحقيق في جرائم حرب    المريخ يواصل تحضيراته بالاسماعيلية يتدرب بجزيرة الفرسان    مازدا يكشف تفاصيل مشاركة المريخ في ملتقى المواهب بنيجيريا    الجزيرة تستغيث (3)    شاهد بالصورة والفيديو.. زواج أسطوري لشاب سوداني وحسناء مغربية وسط الأغاني السودانية والطقوس المغربية    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة السودانية شروق أبو الناس تحتفل بعيد ميلادها وسط أسرتها    بالصورة والفيديو.. شاهد ردة فعل سوداني حاول أكل "البيتزا" لأول مرة في حياته: (دي قراصة)    اختراع جوارديولا.. هل تستمر خدعة أنشيلوتي في نهائي الأبطال؟    شح الجنيه وليس الدولار.. أزمة جديدة تظهر في مصر    أوروبا تجري مناقشات "لأول مرة" حول فرض عقوبات على إسرائيل    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    السعودية: وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    والي ولاية البحر الأحمر يشهد حملة النظافة الكبرى لسوق مدينة بورتسودان بمشاركة القوات المشتركة    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يترأس اجتماع هيئة قيادة شرطة الولاية    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    "آبل" تعيد بيع هواتف قديمة في "خطوة نادرة"    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    سامية علي تكتب: اللاجئون بين المسؤولية المجتمعية والتحديات الدولية    بيومي فؤاد يخسر الرهان    نزار العقيلي: (العطا طااااار ومعطا)    تراجع مريع للجنيه والدولار يسجل (1840) جنيهاً    "امسكوا الخشب".. أحمد موسى: مصطفى شوبير يتفوق على والده    الأهلي بطل إفريقيا.. النجمة 12 على حساب الترجي    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    بالنسبة ل (الفتى المدهش) جعفر فالأمر يختلف لانه ما زال يتلمس خطواته في درب العمالة    الإعلان عن تطورات مهمة بين السودان وإريتريا    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    زيادة سقف بنكك والتطبيقات لمبلغ 15 مليون جنيه في اليوم و3 مليون للمعاملة الواحدة    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.منصور خالد : التفاعلات الإقليمية والدولية لإستقلال جنوب السودان ،، تعاون حركات جنوب السودان مع إسرائيل ليس بالأمر الخفي
نشر في الراكوبة يوم 27 - 01 - 2012

التفاعلات الإقليمية والدولية لإستقلال جنوب السودان - تعاون حركات جنوب السودان مع إسرائيل ليس بالأمر الخفي
فيما يلي نص الورقة التي قدمها د.منصور خالد في المؤتمر الذي نظمه مركز الجزيرة للدراسات تحت عنوان (دولتا السودان: فرص ومخاطر ما بعد الانفصال)الأسبوع الماضي في الدوحة
11. علنا بعد أن فرغنا من الحديث عن الجيرة الجَنب للدولة الجديدة وعن مصر التي سيظل جنوب السودان مجالاً حيوياً لها، ننصرف لحديث عن دول أخرى هي أبعد جغرافيا لكن تجمعها مع تلك الدولة أما علاقات تاريخية، او مصالح إقتصادية، أو هموم مشتركة. في هذا الإطار تندرج الدول الأفريقية التي ظلت ذات علاقات وثيقة مع الجنوب خلال فترة النضال: دول الجنوب الأفريقي، نجيريا، غانا؛ او الدول العربية التي حرصت على توثيق علائقها مع الجنوب حتى قبل الإنفصال؛ او تلك التي جاءت بها إلى جنوب السودان ثرواته النفطية؛ أو دول الشمال (أمريكا الشمالية، أوروبا) التي كان لأغلبها دور هام في الدعم الدبلوماسي والإنساني للجنوب خلال فترة الحرب عن طريق برنامج شريان الحياة الذي كانت تقوم بتنفيذه منظمة اليونيسيف، أو خلال فترة التفاوض (أمريكا، بريطانيا، النرويج، إيطاليا)، او بعد السلام في مجال تطوير القدرات والبنية التحتية. العلاقات مع الدول الأفريقية المشار إليها لم تفتر بعد الإنفصال بل إزدادت متانة إذ اصبحت جنوب افريقيا مثلاً هي اهم مراكز تدريب كوادر الخدمة العامة، وأصبح رئيسها السابق تابو امبيكي، كما أسلف الذكر، رئيساً للجنة الأفريقية التي أوكل لها الإتحاد الأفريقي متابعة مشكلة دارفور والقضايا العالقة بعد إنفصال الجنوب. أما الدول التي أتت بها إلى الجنوب ثرواته النفطية: الصين، ماليزيا، الهند فقد اصبحت الأولى منها (الصين) على رأس شركاء الجنوب في تنميته، خاصة في مجالات البنى التحتية، كما اصبح للهند وماليزيا دور متعاظم في تأهيل الكوادر، ليس فقط في مجال النفط، بل في مجالات أخرى كالهندسة والمعلوماتية. وإن كانت هناك من مشكلة قد تطرأ بين حكومة الجنوب والدول المشاركة في إنتاج النفط فربما تكون في مراجعة إتفاقيات النفط التي يرى بعض الجنوبيين أنها تمت تحت إكراه (duress). هذا الظن نابع من أن تلك الإتفاقيات ابرمت في ظروف الحرب، وفي وقت كانت فيه حكومة السودان واقعة تحت حصار دولي قاهر. أما من جانب الدول العربية فقد سعى رئيس حكومة الجنوب ? قبل الإنفصال ? إلى إنشاء علاقات مع عدد من الدول العربية إلى جانب العلاقة التي رسخت مع حكومة مصر وأحزابها منذ فترة النضال. في هذا المجال بادر رئيس حكومة الجنوب بزيارة المملكة الأردنية الهاشمية التي تطوعت بتدريب كوادر الخدمة العامة التي يحتاجها الجنوب، ودولة قطر التي أكدت رغبتها في الولوج في مجالين هما: التشييد والزراعة، ودولة الإمارات التي أنشأت أكبر مشروع للسياحة البيئية في المنطقة، والكويت التي ظلت هي البلد العربي الوحيد المشارك في صناعة النفط كجزء من مجموعة توتال الفرنسية. ومن المفيد أن نشير ? ونحن في قطر ? إلى أن قطر هي الدولة العربية الأولى التي بادرت بإنشاء مصرف في جنوب السودان (بنك قطر الوطني) للمعاملات المصرفية والإستثمار. جميع هذه المشروعات لم تتعطل بسبب الإنفصال، ولا مصلحة للجنوب في تعطيلها. نضيف ايضاً أن الدولة الجديدة لم تبت بعد في أمر إنضمامها إلى منظمة الدول الإسلامية بالرغم من أن هناك مشروعات للبنك الإسلامي بدأ التشاور يهل قبل الإنفصال. المنظمة ليست منظمة دينية بل تجمع سياسي لدول يدين أغلب ? وفي حالات بعض ? أهلها بالإسلام، كما أن البنك ليس بمؤسسة خيرية تعول المسلمين بل هو مؤسسة تنموية تعين على الإنشاء والتعمير في دول الأعضاء، وتسهم في الإرتقاء بالخدمات الأساسية في هذه الدول، وتشجع مناشط القطاع الخاص الجاد، وتوفر الضمانات الإئتمانية للمشروعات المختلفة في داخل دول المنظومة. ولهذا السبب إنضمت للمنظمة كل الدول الأفريقية الإسلامية، وبعض الدول التي تضم بين سكانها مجموعة مسلمة ? أياً كان حجمها ? مثل نيجريا ويوغندا. وخارج افريقيا تسعى الهند إلى الإنضمام للمنظومة رغم أن عدد المسلمين فيها لا يتجاوز العشرة في المائة، هذا بحكم النسبة أم بحكم العدد فيربون على المائة مليون نسمة. ولا شك في أن الدولة الجديدة ستهتدي بكل هذه الإعتبارات ? السياسي والمصلحي ? قبل أن تتخذ قرارها. أما فيما يتعلق بالدول الأخرى فلاشك في أنها تدرك كما يدرك الجنوب ? أن الوضع الإستراتيجي للمنطقة، والإمكانات الضخمة المتوفرة فيها، ستظل تجعله مكان إهتمام كبير. بيد ان كبرى المشاكل التي قد تحبط كل هذه الجهود هي ، أولاً عدم الإستقرار في المنطقة بسبب الصراعات الإثنية، والتي كثيراً ما يؤجج نيرانها بعض السياسيين الطامحين. هذا أمر ليس بالغريب في منطقة خرجت لتوها من حروب متتالية وما زالت حكومتها تسعى للقضاء على رواسب الحرب. ثانياً ضعف أجهزة الدولة الرقابية والمحاسبية الذي فتح الباب واسعاً للتخبط في القرارات والفساد. هذان الموضوعان إحتلا حيزاً كبيراً في ندوة الإستثمار في جنوب السودان التي نظمتها وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطون في الفترة ما بين 14 إلى 15 ديسمبر 2011م. رغم ذلك، يبقى جنوب السودان هو آخر التخوم للإستثمار (for investment ultimate frontier) لأنه يكاد يبدأ من الصفر في كل مجال من مجالات الإستثمار، ولأنه يملك من الموارد الطبيعية ما لا يملكه إقليم آخر. ولا شك في أن الذين قرروا إقتحام ذلك التخم الوَعِر يدركون هذا، بل منهم من شبه المشاكل التي تكتتف جنوب السودان اليوم بمحاولة إصلاح طائرة وهي محلقة في السماء. ومن الجلي من توافد المستثمرين على الجنوب من كل أصقاع العالم أن الأعطاب التي تنتاب تلك الطائرة لم تمنع الكثيرين من إمتطائها.
نختتم هذه الورقة ? دون أن نقول ختامه مسك ? بعلاقات الدولة الناشئة مع إسرائيل. العلاقات بين حركات جنوب السودان نشأت على يد الجنرال جوزيف لاقو قائد الأنانيا (الإسم الذي كانت تطلقه المقاومة المسلحة ضد حكومة السودان على جيشها) في منصف ستينات القرن الماضي. وتطورت تلك العلاقة بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة 1965م الذي كان هو آخر المحاولات في عهد الأنظمة الديموقراطية لحل ما كان يسمى بمشكلة الجنوب. ولو قيض لتلك المفاوضات أن تنجح لأُسقط في يدي ثوار الأنيانيا وقائدهم. كما لو كان الموقف العربي من قضية الجنوب أكثر موضوعية لما حُمل أولئك الثوار على اللجوء إلى إسرائيل، أو بالأحرى لما تمكنت إسرائيل من إجتذابهم إليها. قضية الجنوب كانت في حسبان أغلب الدول العربية هي مؤامرة إستعمارية لتمزيق السودان، ومحاولة صليبية لإيقاف المد الإسلامي. وعندما إتجه السودانيون في عام 1972م إلى أمر جَزم إنتهى بمنح الجنوب حكماً ذاتياً وضعت الحرب الأهلية التي دامت سبعة عشر عاماً أوزارها، وأعقب ذلك سلام دام لعشر سنوات. في خلال هذه السنوات العشر أصبح جوزيف لاقو ? عراب العلاقة مع إسرائيل ? نائباً لرئيس جمهورية السودان لعقد من الزمان، بل أصبح بعد إنهيار نظام مايو وفي عهد نظام الإنقاذ سفيراً لذلك النظام في الأمم المتحدة يتحدث بإسمه ويدافع عن قضاياه. اما في الحرب الأهلية الثانية لم تكن الحركة الشعبية في حاجة إلى دعم إسرائيلي عسكري إذ أغناها عن ذلك تحالف قد يبدو غريباً : فأكبر الدول التي أسهمت في دعم الحركة عسكرياً هي ليبيا القذافي، وإثيوبيا منقستو، ثم اليمن الجنوبي فيما كان يعرف يومذاك بمثلث أديس أبابا ? طرابلس ? عدن. مع ذلك، كان للجماعات المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة دور هام في دعم المعارضة السودانية وعلى رأسها الحركة الشعبية عبر جماعات الضغط في واشنطن في دوائر صنع القرار: الكونغرس، وزارة الخارجية، معاهد البحوث، جماعات حقوق الإنسان ومحاربة الرق. رغم ذلك أفلحت الحركة - أو على وجه التحديد قائدها جون قرنق ? في إنهاء الحصار العربي الذي كان مفروضاً على الحركات السياسية ذات المنبت الجنوبي حتى أضحت القاهرة هي أكبر المنابر الدبلوماسية للحركة في الوطن العربي.
هذه مقدمة ضرورية لإبانة بضع إمور:
أولاً أن تعاون حركات جنوب السودان مع إسرائيل ليست بالأمر الطارئ أو الخفي حتى يُذهل البعض. ثانياً أن ذلك التعاون ? خاصة في بداياته في ستينات القرن الماضي ? كان رد فعل على تصوير أغلب الدول العربية بإيعاز من الأنظمة الحاكمة في الشمال للحرب التي ظلت تدور رحاها من 1955م إلى 2005م ? أي على مدى نصف قرن من الزمان ? بأنها نتاج مؤامرة خارجية وكأن لم تكن هناك أسباب ودوافع داخلية للحرب. ثالثاً أن إرتباط الجنوب بإسرائيل الذي جاء في بدايته نتيجة لتقاطع مصالح لم يمنع قادة تلك الحركات من تسنم أعلى درجات المسئولية في الدولة السودانية: العلماني منها والإسلامي. لهذا لا ينبغي أن تكون إقامة دولة الجنوب لعلاقة دبلوماسية مع دولة إسرائيل مصدر عجب أو إستغراب بحكم العلائق القديمة غير المنكورة. كما لا ينبغي أن تكون مصدر عجب في ظل وجود علاقات بين الدولة العبرية ودول عربية منها المعلن، ومنها المستتر وجوباً. هذه الحقائق كانت واضحة لصانع القرار السياسي في السودان، فقبل بدء الدولة الجديدة في صوغ علاقاتها الدبلوماسية توجه صحفي بسؤال للرئيس عمر البشير حول ما أعلنته دولة الجنوب عن عزمها على إقامة علاقات مع دولة إسرائيل. على ذلك السؤال رد الرئيس البشير قائلاً: «من حق دولة الجنوب المستقلة أن تقيم أية علاقات مع من تريد شريطة أن لا يكون الهدف من العلاقة هو التآمر ضد السودان».
الأمر إذن لا يتعلق بإقامة دولة الجنوب المستقلة لعلاقة مع إسرائيل، ولا بالمصالح التي تسعى الدولة الجديدة لتحقيقها لنفسها عبر هذه العلاقة دون أضرار بغيرها، وإنما يتعلق بالذي تبتغيه إسرائيل من تلك العلاقة. فمن حق الجنوب ? أن اراد ? أن يستفيد من خبرات الدولة العبرية في مجالات كثر أظهرت فيها نجاحاً غير منكور، ولكن ليس من مصلحته أن يكون طرفاً في الإستراتيجيات الإقليمية لإسرائيل.
ولربما كان أكثر ما أثار ثائرة البعض ? في السودان وفي الوطن العربي ? الزيارةُ الأخيرة التي قام بها رئيس دولة الجنوب لإسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالأولوية التي أعطيت لتلك الزيارة، والزمان الذي تمت فيه. فإختيار إسرائيل كأول دولة يزورها رئيس الجنوب بعد زيارته للولايات المتحدة لم يكن إختياراً موفقاً في رأي الكثيرين إذ ما أكثر الدول، بل القارات (أستراليا مثلاً) التي أسهمت أكثر بكثير مما أسهمت به إسرائيل في دعم الجنوب في سني حربه، كان ذلك في المجال الإنساني أو التنموي أو السياسي. ومنها من فتحت أبوابها لإيواء الالاف من الجنوبيين وأسرهم، ومن بين من آوتهم قادة مرموقين، وما زالت تفعل دون أن تطلب منهم الرحيل، ناهيك عن أن يكون ترحيلهم على رأس الموضوعات المطروحة للنقاش مع الدولة الناشئة كما فعلت إسرائيل. فإن كانت الولايات المتحدة مؤهلة بإمتياز لأن تكون أول دولة يزورها رئيس حكومة الجنوب بحكم إسهاماتها السياسية والدبلوماسية والإنسانية والمعنوية خلال سني الحرب، ودورها في صنع السلام، ثم إسهامها في متابعة تنفيذ إتفاقية السلام، إلى جانب كونها مقراً لمنظمات هامة كالأمم المتحدة والبنك الدولي، فإن إسرائيل لا يمكن بحال أن تكون هي الدولة الثانية التي تجدر بزيارة رئاسية من الدولة الجديدة. أما من حيث الزمان فلا غرابة في أن يزور رئيس الجنوب دولة تعترف بها حكومته ويحرص على تمتين العلائق معها. ولكن عندما تكون الزيارة لهذه الدولة في ظل نظام يُجاهر برفضه لكل الحقوق المشروعة لشعب كامل داخل دولته يصبح الأمر مصدر تساؤل، لا سيما أن كانت الزيارة من جانب رئيس دولة نشأت عبر نضال طويل من أجل الحقوق المشروعة للمواطن.
لإسرائيل، بلا شك، إستراتيجياتها في المنطقة العربية ? الأفريقية، بل العالمية. ونُخمن أن إهتمام إسرائيل بما يدور في السودان لا يتعلق بالطابع الديني للنظام الحاكم فيه، كان ذلك الإهتمام من منطلق سياسي، أو رؤيوي. فمن المنطلق السياسي لإسرائيل علاقات مستترة مع دول عربية تُحَكمِّ الشريعة في دستورها وقوانينها. ومن الناحية الرؤيوية فهي الدولة الوحيدة بين الدول التي تنمي نفسها للمنظومة اللبرالية في العالم التي تسعى إلى إقامة دولة يهودية ? أي قائمة على الدين ? يصبح فيها كل من عدا اليهود رعايا. لا خفاء في أن قضية إسرائيل مع النظام الحاكم في السودان قضية سياسية بسبب من علائقه مع إيران وحماس، واياً كانت الأسباب لتلك العلاقة، فلا مصلحة لدولة الجنوب في أن تكون شريكاً في، أو أداة لتنفيذ الإستراتيجية الإسرائيلية. كما لا تُخفي إسرائيل قلقها من صعود الإسلام السياسي في أكثر من بلد عربي خشية من إستقواء حماس بتلك التيارات الصاعدة للحكم. ومهما كان من أمر مخاوف إسرائيل فإن مخاوفها يجب أن تظل هي مخاوفها لا مخاوف الآخرين.
لهذا ما يتوقعه المرء من الدولة الوليدة هو حساب الإمور في مجال الدبلوماسية بميزان من ذهب، بدلاً من ردود الفعل الغاضبة. ونحن على ثقة أن الدولة الوحيدة ? وهي في أولى عتبات نموها ? مازالت في طور تكييف سياساتها الخارجية. لهذا فإن كثيراً من القرارات فيها هي قرارات فردية لا تأخذ في الإعتبار المشهد العام لما حولها. ومن بين الأفراد الذين يتخذون هذه القرارات، أو يوصون بها من لا يُلقى بالاً للقيم التي ناضلت الحركة الشعبية من أجلها. ولعله من المفيد للدولة الناشئة التملي في تجارب دول أفريقية أخرى ظلت تتخذ منها نبراساً للنضال. فبالرغم من أن أكبر جالية يهودية في افريقيا ذات نفوذ في مجال الأعمال والقانون والعلوم تقيم في جنوب افريقيا، وبالرغم من التبادل الدبلوماسي بين جنوب أفريقيا وإسرائيل، لم يسعَ رئيسٌ جنوب افريقي لزيارة دولة إسرائيل، بل كانت الزيارة الأولى في الإتجاه المعاكس من إسرائيل إلى جنوب أفريقيا في عام 2004م، أي بعد مضي ثمان سنوات من سقوط نظام الأبارثيد. تلك هي الزيارة التي قام بها نائب رئيس الوزراء أيهود أولمرت.
بنفس القدر فإن التعامل مع القرارات التي تصدر عن الدولة الجديدة ولا تلقى قبولاً في السودان أو خارجه بإطلاق تهم التخوين، أو التهجين للدولة الناشئة ستقود إلى ردود فعل قد لا تضر دولة الجنوب، ولكنها لا تفيد بحال أصحاب ردود الأفعال هذه. من بين ردود الأفعال الوصف المؤسف الذي أطلقه زعيم حمساوي كبير في وصف الدولة الجديدة. قال ذلك الزعيم عند سعي إسرائيل للحيلولة دون ضم فلسطين إلى الأمم المتحدة، أن تلك المنظمة إتسعت لتستوعب حتى «الدولة اللقيطة»، قاصداً بذلك دولة جنوب السودان. لم يذكر الزعيم دول الباسفيك التي نالت عضوية الأمم المتحدة مثل جزائر السولومون التي لا يزيد حجمها عن 28.400 كلم2 ولا يتجاوز سكانها نصف المليون نسمة؛ أو جزر مارشال التي لا يتجاوز حجمها 181 كلم2 ويقطنها 86.000 شخص، أو ساموا التي تحتل 2.800 كلم2 ويقطنها 180.000 مواطن، أو إمارة ليشتنستاين التي لا تزيد مساحتها عن 160 كلم2 ولا يزيد حجمها عن 23.000 كلم2 ويبلغ عدد سكانها 800.000 نسمة. لم يذكر كل هذه الدول الأعضاء، وإنما ذكر رعاه الله، دولة مساحتها في حجم مساحة فرنسا، وسكانها يقاربون الثمانية مليون، وأهم من ذلك ظل أهلها يناضلون من أجل حقوقهم المشروعة على مدى نصف قرن من الزمان. كما لم يدر أنه بإشارته تلك لم يسئ إلى تلك الدولة بقدر ما أساء للدولة الأم التي أنجبتها واقرت بشرعية نضال أهلها الطويل، وكانت الدولة الأولى التي إعترفت بها ثم أعقبتها جمهورية مصر العربية. التصريحات النزوية، كالقرارت النزوية في السياسة، تضر أكثر مما تنفع. أن ما تحتاج إليه جمهورية جنوب السودان الناشئة هو الوعي بطبيعة نشأتها بدلاً من الوصايا عليها؛ والإدراك السليم للتحديات التي تواجهها وعونها على تجاوز تلك التحديات بدلاً من التهجين والإستصغار لها، والتواصل وتبادل الراي معها لا الإستعلاء عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.