منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    وزارة الصحة تلتقي الشركة المصرية السودانية لترتيب مشروعات صحية مشتركة    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعاون حركات جنوب السودان مع إسرائيل ليس بالأمر الخفي
التفاعلات الإقليمية والدولية لإستقلال جنوب السودان (33)
نشر في الصحافة يوم 26 - 01 - 2012

تنشر «الصحافة»، فيما يلي نص الورقة التي قدمها د.منصور خالد في المؤتمر الذي نظمه مركز الجزيرة للدراسات تحت عنوان (دولتا السودان: فرص ومخاطر ما بعد الانفصال)الأسبوع الماضي في الدوحة
11. علنا بعد أن فرغنا من الحديث عن الجيرة الجَنب للدولة الجديدة وعن مصر التي سيظل جنوب السودان مجالاً حيوياً لها، ننصرف لحديث عن دول أخرى هي أبعد جغرافيا لكن تجمعها مع تلك الدولة أما علاقات تاريخية، او مصالح إقتصادية، أو هموم مشتركة. في هذا الإطار تندرج الدول الأفريقية التي ظلت ذات علاقات وثيقة مع الجنوب خلال فترة النضال: دول الجنوب الأفريقي، نجيريا، غانا؛ او الدول العربية التي حرصت على توثيق علائقها مع الجنوب حتى قبل الإنفصال؛ او تلك التي جاءت بها إلى جنوب السودان ثرواته النفطية؛ أو دول الشمال (أمريكا الشمالية، أوروبا) التي كان لأغلبها دور هام في الدعم الدبلوماسي والإنساني للجنوب خلال فترة الحرب عن طريق برنامج شريان الحياة الذي كانت تقوم بتنفيذه منظمة اليونيسيف، أو خلال فترة التفاوض (أمريكا، بريطانيا، النرويج، إيطاليا)، او بعد السلام في مجال تطوير القدرات والبنية التحتية. العلاقات مع الدول الأفريقية المشار إليها لم تفتر بعد الإنفصال بل إزدادت متانة إذ اصبحت جنوب افريقيا مثلاً هي اهم مراكز تدريب كوادر الخدمة العامة، وأصبح رئيسها السابق تابو امبيكي، كما أسلف الذكر، رئيساً للجنة الأفريقية التي أوكل لها الإتحاد الأفريقي متابعة مشكلة دارفور والقضايا العالقة بعد إنفصال الجنوب. أما الدول التي أتت بها إلى الجنوب ثرواته النفطية: الصين، ماليزيا، الهند فقد اصبحت الأولى منها (الصين) على رأس شركاء الجنوب في تنميته، خاصة في مجالات البنى التحتية، كما اصبح للهند وماليزيا دور متعاظم في تأهيل الكوادر، ليس فقط في مجال النفط، بل في مجالات أخرى كالهندسة والمعلوماتية. وإن كانت هناك من مشكلة قد تطرأ بين حكومة الجنوب والدول المشاركة في إنتاج النفط فربما تكون في مراجعة إتفاقيات النفط التي يرى بعض الجنوبيين أنها تمت تحت إكراه (duress). هذا الظن نابع من أن تلك الإتفاقيات ابرمت في ظروف الحرب، وفي وقت كانت فيه حكومة السودان واقعة تحت حصار دولي قاهر. أما من جانب الدول العربية فقد سعى رئيس حكومة الجنوب ? قبل الإنفصال ? إلى إنشاء علاقات مع عدد من الدول العربية إلى جانب العلاقة التي رسخت مع حكومة مصر وأحزابها منذ فترة النضال. في هذا المجال بادر رئيس حكومة الجنوب بزيارة المملكة الأردنية الهاشمية التي تطوعت بتدريب كوادر الخدمة العامة التي يحتاجها الجنوب، ودولة قطر التي أكدت رغبتها في الولوج في مجالين هما: التشييد والزراعة، ودولة الإمارات التي أنشأت أكبر مشروع للسياحة البيئية في المنطقة، والكويت التي ظلت هي البلد العربي الوحيد المشارك في صناعة النفط كجزء من مجموعة توتال الفرنسية. ومن المفيد أن نشير ? ونحن في قطر ? إلى أن قطر هي الدولة العربية الأولى التي بادرت بإنشاء مصرف في جنوب السودان (بنك قطر الوطني) للمعاملات المصرفية والإستثمار. جميع هذه المشروعات لم تتعطل بسبب الإنفصال، ولا مصلحة للجنوب في تعطيلها. نضيف ايضاً أن الدولة الجديدة لم تبت بعد في أمر إنضمامها إلى منظمة الدول الإسلامية بالرغم من أن هناك مشروعات للبنك الإسلامي بدأ التشاور يهل قبل الإنفصال. المنظمة ليست منظمة دينية بل تجمع سياسي لدول يدين أغلب ? وفي حالات بعض ? أهلها بالإسلام، كما أن البنك ليس بمؤسسة خيرية تعول المسلمين بل هو مؤسسة تنموية تعين على الإنشاء والتعمير في دول الأعضاء، وتسهم في الإرتقاء بالخدمات الأساسية في هذه الدول، وتشجع مناشط القطاع الخاص الجاد، وتوفر الضمانات الإئتمانية للمشروعات المختلفة في داخل دول المنظومة. ولهذا السبب إنضمت للمنظمة كل الدول الأفريقية الإسلامية، وبعض الدول التي تضم بين سكانها مجموعة مسلمة ? أياً كان حجمها ? مثل نيجريا ويوغندا. وخارج افريقيا تسعى الهند إلى الإنضمام للمنظومة رغم أن عدد المسلمين فيها لا يتجاوز العشرة في المائة، هذا بحكم النسبة أم بحكم العدد فيربون على المائة مليون نسمة. ولا شك في أن الدولة الجديدة ستهتدي بكل هذه الإعتبارات ? السياسي والمصلحي ? قبل أن تتخذ قرارها. أما فيما يتعلق بالدول الأخرى فلاشك في أنها تدرك كما يدرك الجنوب ? أن الوضع الإستراتيجي للمنطقة، والإمكانات الضخمة المتوفرة فيها، ستظل تجعله مكان إهتمام كبير. بيد ان كبرى المشاكل التي قد تحبط كل هذه الجهود هي ، أولاً عدم الإستقرار في المنطقة بسبب الصراعات الإثنية، والتي كثيراً ما يؤجج نيرانها بعض السياسيين الطامحين. هذا أمر ليس بالغريب في منطقة خرجت لتوها من حروب متتالية وما زالت حكومتها تسعى للقضاء على رواسب الحرب. ثانياً ضعف أجهزة الدولة الرقابية والمحاسبية الذي فتح الباب واسعاً للتخبط في القرارات والفساد. هذان الموضوعان إحتلا حيزاً كبيراً في ندوة الإستثمار في جنوب السودان التي نظمتها وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطون في الفترة ما بين 14 إلى 15 ديسمبر 2011م. رغم ذلك، يبقى جنوب السودان هو آخر التخوم للإستثمار (for investment ultimate frontier) لأنه يكاد يبدأ من الصفر في كل مجال من مجالات الإستثمار، ولأنه يملك من الموارد الطبيعية ما لا يملكه إقليم آخر. ولا شك في أن الذين قرروا إقتحام ذلك التخم الوَعِر يدركون هذا، بل منهم من شبه المشاكل التي تكتتف جنوب السودان اليوم بمحاولة إصلاح طائرة وهي محلقة في السماء. ومن الجلي من توافد المستثمرين على الجنوب من كل أصقاع العالم أن الأعطاب التي تنتاب تلك الطائرة لم تمنع الكثيرين من إمتطائها.
نختتم هذه الورقة ? دون أن نقول ختامه مسك ? بعلاقات الدولة الناشئة مع إسرائيل. العلاقات بين حركات جنوب السودان نشأت على يد الجنرال جوزيف لاقو قائد الأنانيا (الإسم الذي كانت تطلقه المقاومة المسلحة ضد حكومة السودان على جيشها) في منصف ستينات القرن الماضي. وتطورت تلك العلاقة بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة 1965م الذي كان هو آخر المحاولات في عهد الأنظمة الديموقراطية لحل ما كان يسمى بمشكلة الجنوب. ولو قيض لتلك المفاوضات أن تنجح لأُسقط في يدي ثوار الأنيانيا وقائدهم. كما لو كان الموقف العربي من قضية الجنوب أكثر موضوعية لما حُمل أولئك الثوار على اللجوء إلى إسرائيل، أو بالأحرى لما تمكنت إسرائيل من إجتذابهم إليها. قضية الجنوب كانت في حسبان أغلب الدول العربية هي مؤامرة إستعمارية لتمزيق السودان، ومحاولة صليبية لإيقاف المد الإسلامي. وعندما إتجه السودانيون في عام 1972م إلى أمر جَزم إنتهى بمنح الجنوب حكماً ذاتياً وضعت الحرب الأهلية التي دامت سبعة عشر عاماً أوزارها، وأعقب ذلك سلام دام لعشر سنوات. في خلال هذه السنوات العشر أصبح جوزيف لاقو ? عراب العلاقة مع إسرائيل ? نائباً لرئيس جمهورية السودان لعقد من الزمان، بل أصبح بعد إنهيار نظام مايو وفي عهد نظام الإنقاذ سفيراً لذلك النظام في الأمم المتحدة يتحدث بإسمه ويدافع عن قضاياه. اما في الحرب الأهلية الثانية لم تكن الحركة الشعبية في حاجة إلى دعم إسرائيلي عسكري إذ أغناها عن ذلك تحالف قد يبدو غريباً : فأكبر الدول التي أسهمت في دعم الحركة عسكرياً هي ليبيا القذافي، وإثيوبيا منقستو، ثم اليمن الجنوبي فيما كان يعرف يومذاك بمثلث أديس أبابا ? طرابلس ? عدن. مع ذلك، كان للجماعات المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة دور هام في دعم المعارضة السودانية وعلى رأسها الحركة الشعبية عبر جماعات الضغط في واشنطن في دوائر صنع القرار: الكونغرس، وزارة الخارجية، معاهد البحوث، جماعات حقوق الإنسان ومحاربة الرق. رغم ذلك أفلحت الحركة - أو على وجه التحديد قائدها جون قرنق ? في إنهاء الحصار العربي الذي كان مفروضاً على الحركات السياسية ذات المنبت الجنوبي حتى أضحت القاهرة هي أكبر المنابر الدبلوماسية للحركة في الوطن العربي.
هذه مقدمة ضرورية لإبانة بضع إمور:
أولاً أن تعاون حركات جنوب السودان مع إسرائيل ليست بالأمر الطارئ أو الخفي حتى يُذهل البعض. ثانياً أن ذلك التعاون ? خاصة في بداياته في ستينات القرن الماضي ? كان رد فعل على تصوير أغلب الدول العربية بإيعاز من الأنظمة الحاكمة في الشمال للحرب التي ظلت تدور رحاها من 1955م إلى 2005م ? أي على مدى نصف قرن من الزمان ? بأنها نتاج مؤامرة خارجية وكأن لم تكن هناك أسباب ودوافع داخلية للحرب. ثالثاً أن إرتباط الجنوب بإسرائيل الذي جاء في بدايته نتيجة لتقاطع مصالح لم يمنع قادة تلك الحركات من تسنم أعلى درجات المسئولية في الدولة السودانية: العلماني منها والإسلامي. لهذا لا ينبغي أن تكون إقامة دولة الجنوب لعلاقة دبلوماسية مع دولة إسرائيل مصدر عجب أو إستغراب بحكم العلائق القديمة غير المنكورة. كما لا ينبغي أن تكون مصدر عجب في ظل وجود علاقات بين الدولة العبرية ودول عربية منها المعلن، ومنها المستتر وجوباً. هذه الحقائق كانت واضحة لصانع القرار السياسي في السودان، فقبل بدء الدولة الجديدة في صوغ علاقاتها الدبلوماسية توجه صحفي بسؤال للرئيس عمر البشير حول ما أعلنته دولة الجنوب عن عزمها على إقامة علاقات مع دولة إسرائيل. على ذلك السؤال رد الرئيس البشير قائلاً: «من حق دولة الجنوب المستقلة أن تقيم أية علاقات مع من تريد شريطة أن لا يكون الهدف من العلاقة هو التآمر ضد السودان».
الأمر إذن لا يتعلق بإقامة دولة الجنوب المستقلة لعلاقة مع إسرائيل، ولا بالمصالح التي تسعى الدولة الجديدة لتحقيقها لنفسها عبر هذه العلاقة دون أضرار بغيرها، وإنما يتعلق بالذي تبتغيه إسرائيل من تلك العلاقة. فمن حق الجنوب ? أن اراد ? أن يستفيد من خبرات الدولة العبرية في مجالات كثر أظهرت فيها نجاحاً غير منكور، ولكن ليس من مصلحته أن يكون طرفاً في الإستراتيجيات الإقليمية لإسرائيل.
ولربما كان أكثر ما أثار ثائرة البعض ? في السودان وفي الوطن العربي ? الزيارةُ الأخيرة التي قام بها رئيس دولة الجنوب لإسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالأولوية التي أعطيت لتلك الزيارة، والزمان الذي تمت فيه. فإختيار إسرائيل كأول دولة يزورها رئيس الجنوب بعد زيارته للولايات المتحدة لم يكن إختياراً موفقاً في رأي الكثيرين إذ ما أكثر الدول، بل القارات (أستراليا مثلاً) التي أسهمت أكثر بكثير مما أسهمت به إسرائيل في دعم الجنوب في سني حربه، كان ذلك في المجال الإنساني أو التنموي أو السياسي. ومنها من فتحت أبوابها لإيواء الالاف من الجنوبيين وأسرهم، ومن بين من آوتهم قادة مرموقين، وما زالت تفعل دون أن تطلب منهم الرحيل، ناهيك عن أن يكون ترحيلهم على رأس الموضوعات المطروحة للنقاش مع الدولة الناشئة كما فعلت إسرائيل. فإن كانت الولايات المتحدة مؤهلة بإمتياز لأن تكون أول دولة يزورها رئيس حكومة الجنوب بحكم إسهاماتها السياسية والدبلوماسية والإنسانية والمعنوية خلال سني الحرب، ودورها في صنع السلام، ثم إسهامها في متابعة تنفيذ إتفاقية السلام، إلى جانب كونها مقراً لمنظمات هامة كالأمم المتحدة والبنك الدولي، فإن إسرائيل لا يمكن بحال أن تكون هي الدولة الثانية التي تجدر بزيارة رئاسية من الدولة الجديدة. أما من حيث الزمان فلا غرابة في أن يزور رئيس الجنوب دولة تعترف بها حكومته ويحرص على تمتين العلائق معها. ولكن عندما تكون الزيارة لهذه الدولة في ظل نظام يُجاهر برفضه لكل الحقوق المشروعة لشعب كامل داخل دولته يصبح الأمر مصدر تساؤل، لا سيما أن كانت الزيارة من جانب رئيس دولة نشأت عبر نضال طويل من أجل الحقوق المشروعة للمواطن.
لإسرائيل، بلا شك، إستراتيجياتها في المنطقة العربية ? الأفريقية، بل العالمية. ونُخمن أن إهتمام إسرائيل بما يدور في السودان لا يتعلق بالطابع الديني للنظام الحاكم فيه، كان ذلك الإهتمام من منطلق سياسي، أو رؤيوي. فمن المنطلق السياسي لإسرائيل علاقات مستترة مع دول عربية تُحَكمِّ الشريعة في دستورها وقوانينها. ومن الناحية الرؤيوية فهي الدولة الوحيدة بين الدول التي تنمي نفسها للمنظومة اللبرالية في العالم التي تسعى إلى إقامة دولة يهودية ? أي قائمة على الدين ? يصبح فيها كل من عدا اليهود رعايا. لا خفاء في أن قضية إسرائيل مع النظام الحاكم في السودان قضية سياسية بسبب من علائقه مع إيران وحماس، واياً كانت الأسباب لتلك العلاقة، فلا مصلحة لدولة الجنوب في أن تكون شريكاً في، أو أداة لتنفيذ الإستراتيجية الإسرائيلية. كما لا تُخفي إسرائيل قلقها من صعود الإسلام السياسي في أكثر من بلد عربي خشية من إستقواء حماس بتلك التيارات الصاعدة للحكم. ومهما كان من أمر مخاوف إسرائيل فإن مخاوفها يجب أن تظل هي مخاوفها لا مخاوف الآخرين.
لهذا ما يتوقعه المرء من الدولة الوليدة هو حساب الإمور في مجال الدبلوماسية بميزان من ذهب، بدلاً من ردود الفعل الغاضبة. ونحن على ثقة أن الدولة الوحيدة ? وهي في أولى عتبات نموها ? مازالت في طور تكييف سياساتها الخارجية. لهذا فإن كثيراً من القرارات فيها هي قرارات فردية لا تأخذ في الإعتبار المشهد العام لما حولها. ومن بين الأفراد الذين يتخذون هذه القرارات، أو يوصون بها من لا يُلقى بالاً للقيم التي ناضلت الحركة الشعبية من أجلها. ولعله من المفيد للدولة الناشئة التملي في تجارب دول أفريقية أخرى ظلت تتخذ منها نبراساً للنضال. فبالرغم من أن أكبر جالية يهودية في افريقيا ذات نفوذ في مجال الأعمال والقانون والعلوم تقيم في جنوب افريقيا، وبالرغم من التبادل الدبلوماسي بين جنوب أفريقيا وإسرائيل، لم يسعَ رئيسٌ جنوب افريقي لزيارة دولة إسرائيل، بل كانت الزيارة الأولى في الإتجاه المعاكس من إسرائيل إلى جنوب أفريقيا في عام 2004م، أي بعد مضي ثمان سنوات من سقوط نظام الأبارثيد. تلك هي الزيارة التي قام بها نائب رئيس الوزراء أيهود أولمرت.
بنفس القدر فإن التعامل مع القرارات التي تصدر عن الدولة الجديدة ولا تلقى قبولاً في السودان أو خارجه بإطلاق تهم التخوين، أو التهجين للدولة الناشئة ستقود إلى ردود فعل قد لا تضر دولة الجنوب، ولكنها لا تفيد بحال أصحاب ردود الأفعال هذه. من بين ردود الأفعال الوصف المؤسف الذي أطلقه زعيم حمساوي كبير في وصف الدولة الجديدة. قال ذلك الزعيم عند سعي إسرائيل للحيلولة دون ضم فلسطين إلى الأمم المتحدة، أن تلك المنظمة إتسعت لتستوعب حتى «الدولة اللقيطة»، قاصداً بذلك دولة جنوب السودان. لم يذكر الزعيم دول الباسفيك التي نالت عضوية الأمم المتحدة مثل جزائر السولومون التي لا يزيد حجمها عن 28.400 كلم2 ولا يتجاوز سكانها نصف المليون نسمة؛ أو جزر مارشال التي لا يتجاوز حجمها 181 كلم2 ويقطنها 86.000 شخص، أو ساموا التي تحتل 2.800 كلم2 ويقطنها 180.000 مواطن، أو إمارة ليشتنستاين التي لا تزيد مساحتها عن 160 كلم2 ولا يزيد حجمها عن 23.000 كلم2 ويبلغ عدد سكانها 800.000 نسمة. لم يذكر كل هذه الدول الأعضاء، وإنما ذكر رعاه الله، دولة مساحتها في حجم مساحة فرنسا، وسكانها يقاربون الثمانية مليون، وأهم من ذلك ظل أهلها يناضلون من أجل حقوقهم المشروعة على مدى نصف قرن من الزمان. كما لم يدر أنه بإشارته تلك لم يسئ إلى تلك الدولة بقدر ما أساء للدولة الأم التي أنجبتها واقرت بشرعية نضال أهلها الطويل، وكانت الدولة الأولى التي إعترفت بها ثم أعقبتها جمهورية مصر العربية. التصريحات النزوية، كالقرارت النزوية في السياسة، تضر أكثر مما تنفع. أن ما تحتاج إليه جمهورية جنوب السودان الناشئة هو الوعي بطبيعة نشأتها بدلاً من الوصايا عليها؛ والإدراك السليم للتحديات التي تواجهها وعونها على تجاوز تلك التحديات بدلاً من التهجين والإستصغار لها، والتواصل وتبادل الراي معها لا الإستعلاء عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.