'تحت سماء كوبنهاغن' هي الرواية الأولى للعراقية حوراء النداوي، وربما النتاج الإبداعي الوحيد المنشور لها، وقد يعود لهذا السبب أنها الرواية النسائية الوحيدة في القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2012. الثيمة الرئيسة في الرواية تتمحور حول الاغتراب العراقي في الدنمارك، هذا الاغتراب الذي يُعدُّ إعاقةً حسب هدى بطلة الرواية، وقد تحول إلى تقوقع وعزلة وتحوصل حول الذات، فهم يحرصون على عزلتهم داخل المجتمع الدنماركي، ولا يختلطون بغيرهم، بل إنهم لا يكادون يختلطون بغير العراقيين، ويمايزون بين العراقيين على أسس مذهبية وعرقية. وزاد من ذلك رفض الدنماركيين لهم، فهدى واجهت الرفض منذ سني دراستها في الروضة، وحتى السكارى في الشوارع يطالبونهم بالرحيل كونهم غرباء ودخلاء. فالعراقيون بين وطن لفظهم إلى المجهول ووطن لا يتقبلهم! ولعل هذا التقوقع هو مشكلة العرب في كل دول المهجر، فهم يرفضون الاندماج في المجتمعات الجديدة خوفاً من الذوبان، ويحرصون على خلق أحياء ومجتمعات خاصة بهم، وقد تناولت هذه المشكلة روايات عديدة منها رواية 'في البال' لغصون رحال، ورواية 'أمريكا' لربيع جابر، وغيرهما. رواية 'تحت سماء كوبنهاغن' (دار الساقي- بيروت، 2010) تناولت ثيمة أخرى، وهي علاقة الحب الغريبة بين رافد وهدى، فهدى وظفت حيلة ذكورية لبثِّ حبها ومشاعرها تجاه رافد من خلال فصول رواية طلبت منه أن يترجمها من اللغة الدنماركية إلى العربية، وقد نجحت الحيلة، فأحبَّ رافد هدى كحب الوالد لابنته كونها تكتب عن طفولتها وهو المحروم من الذرية، يقابله حب هدى له من أول نظرة دون أي تواصل أو حديث. ومع تصاعد أحداث الرواية يتحول الحب إلى حب الأنثى، فأصبح يراها في كل أنثى عراقية حتى في زوجته. وكانت المفاجأة عندما اكتشف رافد أن هدى تعشقه، وأنه هو المعشوق لا العاشق. وكان أغرب ما في الحكاية عندما اعترفت هدى لرافد في رسالة إلكترونية أنها تحبه حباً أفلاطونياً مجرداً من الشهوة والأنانية وحب التملك، فهي تتمنى لو كانت رجلاً لتكون صديقه، أو لو كان أنثى فتكون صديقتها، أو لو كان أخيها لتبقى بقربه. ويؤكد ذلك أنها عندما علمت بزواجه من أخرى لم تشعر بالغيرة أو الغضب كأن من تزوج لم يكن عشقها الأول والوحيد. ومن اللافت في الرواية علاقة هدى بأخيها عماد الذي يكبرها بعشر سنين الذي هبط عليهم فجأة قادماً من العراق، حيث ظهر التباين الشديد بين الشخصية العراقية الصرفة، وبين شخصية بين بين تمثلها هدى. وفي وجود والد لا تأثير فعلي له في الأسرة، وجدت هدى نفسها وحيدة، ولذا لا غرابة أن لجأت وهي بعمر ال16 عاماً إلى الارتباط بعلاقة إلكترونية برجل دنماركي (توربن) ذي ال 56 عاماً وتبوح له بكل مشاعرها وأفكارها وهمومها ومخاوفها وأسرارها. وهدى هنا فتاة هشة أطاعت والدتها في لبس الحجاب بعيداً عن قناعاتها، وارتبطت بعلاقة صداقة مع زميلتها زينة رغم ما يثار حولها، ربما لأنها المكمل لها، وتمثل الجزء الناقص فيها. وقبلت على نفسها أن تجرب الخطيئة بمشيئتها عندما استسلمت لقبلة من رضا الذي يتصف بالقذارة والملل، كونها لا تجرؤ أن تجرب ذلك مع غيره. العراقي كما أي عربي يحمل وطنه على ظهره أينما حل أو ارتحل، فهدى التي ولدت في كوبنهاغن لم تنعتق أو تُعفى من الإرث الثقيل الذي يقصم ظهر المهاجرين العراقيين، فقد ورثت ذلك من أبويها، وبالذات من والدها الذي ما انفك يحكي عن بغداد وأيام الخير فيها على شكل ذكريات وأحاديث حُشرت في رأسها عنوة حتى ليخيل إليها أحياناً أنها عاصرتها. وأحيت زيارتها إلى دمشق فيها جذورها، وأرجعتها إلى أصلها، ووسمتها بوسام شرقي رغم عيشها في كوبنهاغن. من المفارقات المدهشة في الرواية أن والد هدى ووالدتها عاشا تحررا كبيراً في بغداد في سبعينيات القرن الماضي، ولكنهما يعيشان تقوقعاً وعزلة ومحافظة في وسط كوبنهاغن في بدايات القرن الحادي والعشرين، فأي عجب من تحرر أطلقته بغداد وقيدته كوبنهاغن؟ تشير الرواية إلى أن المغترب العراقي يستعدي الآخر بسلوكه، فعندما يطالب ببعض التميز من حيث الأكل والشراب واللباس في بيئة منفتحة متحررة، فإنه يجبر الآخر على معاداته والسخرية منه، لأن 'التميز غير محبذ في بيئة متوازية القواعد'. الرواية بصفحاتها ال 392 كتبت بلغة جميلة رشيقة جذابة، وهي لغة لافتة خاصة إذا علمنا أن النداوي نشأت في كوبنهاغن منذ السادسة من عمرها، وتعلمت اللغة العربية بجهد فردي بمساعدة من والدتها. عنوان الرواية 'تحت سماء كوبنهاغن' هو هروب من الكاتبة من استحقاق إبداعي، كون العنوان يصلح لأية رواية مهما كان موضوعها إذا كان مكانها كوبنهاغن، وهذا يسجل على الكاتبة؛ كونها لم تنتق عنواناً ملائماً للرواية، ومناسباً لأن يكون عتبة مميزة للنص. في مفتتح الرواية اقتبست النداوي أبياتاً من الشعر للمتنبي وعرفت عليه بأنه 'الشاعر العراقي العظيم'، وهذا مأخذ على الكاتبة، وانجرار نحو التقوقع، فالمتنبي شاعر عربي عباسي، ولم يُميز يوماً بعراقيته، وهذه الاقطاعيات هي نتاج استعماري بغيض! لا جديد مميز أو مبتكر في الرواية من حيث الشكل أو المضمون، وهذا لا يقلل من قيمة الرواية خاصة إذا علمنا أنها الرواية الأولى للنداوي المغتربة، وأول إبداع منشور لها. وأخيراً، أظن أن النداوي لو نشرت روايتها باللغة الدنماركية التي تتقنها لكان ذلك أجدى وأنفع وأوسع انتشاراً، كونها تعيش في مجتمع غربي، ومن الأولى أن تخاطب مجتمعها البديل، فهو أقدر على فهمها والتفاعل مع ما تكتب، وهي تغامر عندما تخاطب مجتمعاً عربياً لا يقرأ! [email protected] القدس العربي