تغرق تونس في اتهامات متبادلة واحتقان إيديولوجي مزمن واقتصاد يوشك على الانهيار، ويهدّد بتفكّك حكومة الائتلاف الإسلامي العلماني التي أفرزتها أول انتخابات ديمقراطية منذ استقلال البلاد، ويُفشل الثّورة التونسية، ويخيّب آمال الرئيس الأميركي باراك أوباما في أن تكون "مصدر إلهام للجميع". وغنيّ عن القول إن واشنطن، التي تحالفت مع الحركات الإسلامية التي لا تهدد مصالحها، يهمّها بالدّرجة الأولى نجاح الثورة التونسية. ومؤخّرا، أعرب السيناتور الديمقراطي دانيال إينوي، رئيس لجنتي الاعتمادات المالية والدفاع في مجلس الشيوخ الأمريكي، عن قلقه من أن "كارثة ستحل بالمنطقة العربية وكذلك بالعالم بأسره في حالة تعرض الثورة التونسية للفشل". اتهامات متبادلة ويتّهم حزب النهضة الإسلامي الذي يقود التآلف الحكومي بمعية المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، أو ما أطلق عليه "الترويكا" بعض الأطراف في المعارضة وأطرافاً سياسية واجتماعية مرتبطة بالنظام السابق بالسعي إلى إسقاط الحكومة. وتتّهم المعارضة ممثلة خاصة في الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد حكومة حمادي الجبالي بضعف الأداء في إدارة شؤون البلاد التي تعاني من الفقر والبطالة والفساد. وتقول الحكومة، المشكّلة من حوالي شهرين، أن هذه المعضلات تركة ثقيلة موروثة من النظام السابق، تفاقمت بسبب "محاولات لتعطيل عمل الحكومة بواسطة الإضرابات والاعتصامات". صراع حول مصادر التشريع رغم أن زعيم النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، أكّد سابقاً أن حزبه لن يرفع شعار الدولة الإسلامية أو ادراج الشريعة في الدستور التونسي الجديد، إلا أن زعيم الكتلة الاسلامية في المجلس الوطني التأسيسي، الصحبي عتيق، قال إن الدستور المقبل "يجب ان يستند الى المبادئ الاسلامية من اجل ضمان الجمع بين هوية الشعب والقوانين التي تحكمه". وقطع الغنوشي الشك باليقين خلال ندوة بعنوان "العلمانية وعلاقة الدين بالدولة" نُظمت مؤخراً ب"مركز دراسة الاسلام والديمقراطية"، عندما بعث لأول مرة برسالة رسمية إلى القوى التقدمية والعلمانية التي رفضت رفضاً قاطعاً محاولة النهضة التنصيص صلب الدستور الجديد على أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع. واعتبر الغنوشي أن "مسألة حياد الدولة عن الدين أو الدين عن السياسة مسألة فيها قدر من المغامرة وقد تضر بالاثنين أي الدين والدولة"، مشدّداً على "مخاطر فصل الدين عن السياسة" وعلى أن "تحرير الدولة من الدين نوع من تحويل الدولة إلى عدد من المافيات، مثلما حدث في بعض الدول الأوروبية". وترفض القوى التقدمية والديمقراطية وشخصيات من المجتمع المدني اي خلط بين السياسة والدين ويرون ان مشروع الدستور يجب ألا يطال تفسيرات يمكن ان تمس بالطابع المدني للدولة وتضر بحرية العبادة وتعيد النظر بمجلة الأحوال الشخصية التي تتميز بها تونس مقارنة بالدول العربية الاخرى. "الطّوفان" السلفي خلال الندوة، التي حضرها رئيس المجلس التأسيسي، مصطفى بن جعفر، وحوالي خمسين شخصاً من النخبة السياسيّة والدينيّة والفكريّة التونسيّة ودامت الجمعة 2 مارس/آذار حوالي ثلاث ساعات، أشارت حقوقية من الحضور إلى "الفجوة" بين خطاب الغنوشي وبين تصرّفات الكثير من أعضاء حركة النهضة. كما أشارت إلى "الفوضى التي تسود في المساجد، حيث يعيّن السلفيون من شاءوا من الأئمة ويعزلون من المنابر من شاءوا، ولا نرى وقفة حازمة من الدولة". في الوقت نفسه، كان العشرات من السلفيين، رافعين الأعلام السوداء المميّزة لهم، يعتصمون أمام مقرّ التلفزيون الرسمي وينادون بتطهيرها مما وصفوه ب"إعلام فاسد"،"إعلام عار"، "الإعلام البنفسجي"، في إشارة إلى اللون المفضل للرئيس السابق. وفي اليوم نفسه، تظاهر مئات من مقربين من التيار السلفي بعد صلاة الجمعة في وسط العاصمة، للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، والتنصيص عليها في الدستور الجديد. ورفعوا لافتات كُتب عليها "لا للعلمانية، تونس دولة إسلامية". وحسب بعض المواقع الالكترونية، كان من بين المشاركين في التظاهرة وزير الشؤون الدينية نور الدين الخادمي. كما تظاهر سلفيون آخرون أمام مقرّ السفارة الأميركية، احتجاجاً على حرق المصحف في أفغانستان وللمطالبة بالإفراج عن التونسيين في غوانتانامو. وكان بعضهم يرفع ... صور أسامة بن لادن. السلفيون أبناؤنا ورد الغنوشي على الحقوقية قائلاً "هناك من يقول أن هناك ازدواجية في خطاب النهضة بما يطعن حتى في النوايا. أنا أؤكد بأن النهضة حركة كبيرة لا يمكن صبها في قالب واحد. اتسعت النهضة لأفكار متعددة لكن تلتقي في أن الإسلام نظام للحياة وليس هناك من مشكك في الديمقراطية أو في المساواة بين الجنسين أو في التداول السلمي للسلطة، ولكن داخل هذا الإطار هناك خلافات". أما عن السلفيين فقال "هم أولاد تونس وبنات تونس. هذا منتوج من منتوجات البلاد"، معربا عن خشيته عن وجود "إرادة لضرب النهضة بالسلفيين وضرب السلفيين بالنهضة والدفع إلى التصادم. وفي النهاية بلادنا تخسر". وتساءل الغنوشي "لماذا لا نراهن على أن المجتمع التونسي سيستعيد هؤلاء السلفيين؟ فقد كان عندنا ماركسيين يؤمنون بالعنف الثوري والآن أصبحوا يحتكرون الديمقراطية". مصدر إلهام عقدت الندوة بُعيد اختتام الجولة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى بلدان الإتحاد المغاربي والتي حذرت من حدوث تراجع في التحولات الديمقراطية الجارية في العالم العربي. وقالت كلينتون مخاطبة التونسيين إن احتضانهم المستمر للإصلاح سيقدم نموذجاً قوياً في أماكن أخرى ودعتهم إلى مطالبة قياداتهم الجديدة بالاستمرار على طريق التحرير والانفتاح. وكان أوباما أول زعيم غربي يشيد بالثورة التونسية، آملا أن تكون "مصدر إلهام للجميع" و"مثالاً يحتذي" به آخرون نحو الديمقراطية. وغنيّ عن القول أن الشعب التونسي لم يصوّت لمن يطلب منه ارتداء النقاب أو القميص أو يزجّ به في مهاترات بيزنطية لا تمت بصلة إلى ثقافته وعاداته، كوجوب إطلاق اللحى للذّكور أو جواز ختان الإناث والزواج العرفي أو استضافة المطربة اللبنانية نانسي عجرم لمهرجان قرطاج. لذلك تدخّل الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي خلال ندوة "العلمانية وعلاقة الدين بالدولة" قائلاً "نحن متخلّفون بالقياس إلى الثورة. كانت دوافع الثورة اقتصادية واجتماعية ومطالبها الحرية والكرامة وها نحن نتحدث وكأننا ما زلنا نعيش في القرن الثامن عشر. لقد ظلمنا الثورة". فعلها أوباما... "إسلاموفاشية" وفي اليوم نفسه، نشرت صحيفة واشنطن تايمز مقالاً لجيفري كوهنر، مدير "معهد إيدموند بروك للتجديد الأمريكي"، والمتخصص في شؤون الأقليات ودمجها بالحركة المحافظ" بعنوان "الأجندة الإسلاموية لأوباما"، جاء فيه أن "الربيع العربي يتحول إلى شتاء إسلامي". وقال الكاتب "أصبحت تونس ومصر واليمن تحكمها الآن أنظمة ثيوقراطية سنية وهابية، ستفرض فيها الشريعة الإسلامية وتستأصل فيها الأقليات، خصوصاً المسيحيين. يسجن فيها المعارضون. وتتعرض النساء للاضطهاد. ويتولى 'الإخوان المسلمون' وحلفائهم زمام الأمور. ويستخدم المتعصبون الدينيون قاعدة 'شخص واحد صوت واحد' لفرض حكم الإسلاموفاشية". واختتم الكاتب قائلاً "هذا ليس انتصاراً للإنسانية بل فوضى (...) الأمور واضحة: لقد شجعت السياسة الخارجية لأوباما بشكل مباشر الأجندة الإسلاموية. ستسأل الأجيال القادمة: من أفقدنا الشرق الأوسط؟ سيكتب المؤرخون: أوباما فعل ذلك". الديمقراطية ليست مجرّد انتخابات حرة ونزيهة ومن منفاه في باريس، قال الباحث الجزائري محمد سيفاوي، "التحليل الأميركي يقع في التبسيط عندما يعتقد أن الأحزاب السياسية يمكن أن تُعتمد فقط عندما تقبل العملية الانتخابية وتحترمها لكي نطلق عليها صفة 'الديمقراطية '. فالديمقراطية لا تقتصر على العمليات الانتخابية، حتى لو كانت حرة ونزيهة". وأضاف سيفاوي، وهو كاتب ومخرج الأفلام يصف نفسه ب"المُسلم العلماني والديموقراطي": "الديمقراطية تشتمل في المقام الأول القيم الإنسانية الكونية. فمنذ العصر اليوناني، تستند الديمقراطية على مبادئ أساسية مثل حرية الاعتقاد وحرية والتعبير وحرية الرأي والتداول السلمي للسلطة والدفاع عن حقوق الإنسان". وتساءل سيفاوي في مقال بعنوان "العم سام والإخوان المسلمين"، "هل يمكننا أن نقول بكل بساطة أن حركة أصولية فازت في الانتخابات التشريعية 'ديمقراطياً'، أنها لم تعد متطرفة؟ هل سيكون من الانصاف ان نقول إن الاسلام السياسي ليس معادياً للديمقراطية؟". واختتم قائلاً "بدلاً من دعم الأصوليين، كان ينبغي على الإدارة الأميركية أن تدعم القوى التقدمية". طلاق "الترويكا" في مقال بعنوان "حافظوا على المناخ العام للبلاد"، يقول نورالدين عاشور في صحيفة الصباح التونسية "إن البلاد ليست في حاجة إلى انقسامات عميقة قد تترك آثارا نخشى أن لا تمّحي، وقد تزيدها الصراعات الإيديولوجية تأجيجاً (...) إن لم نقدر على التأقلم مع الديمقراطية وفشلنا في تصريف نتائج الانتخابات". ويتساءل عاشور "نحن على أبواب موسم سياحي (مفترض)، فما مدى احتمال تأثير مثل تلك الاتهامات على السياحة؟". يجيب الدكتور سالم لبيض، المختص في علم الاجتماع السياسي، "إذا تطورت الأزمة الإجتماعية، وعجزت حكومة الترويكا عن ايجاد الحلول المناسبة التي تواجه بها هذه المشاكل، عندها يمكن أن يصيبها التآكل من الداخل". ويضيف لبيض في تصريحات صحفية أن "المسألة مرتهنة بالقدرة على الإيفاء بالوعود إذا تم امتصاص الأزمة على المستوى الإجتماعي وقدمت الحكومة بعض المسكنات على شكل مشاريع، وتعمل الأطراف الثلاثة على المضيّ قدما جنبا إلى جنب وصياغة الدستور". ويتابع "في المقابل، إذا لم تجد الحكومة حلولاً لهذه المشاكل الاجتماعية وتفاقت الأزمة، عندها يمكن أن يكون الطلاق بين الأطراف الثلاثة".