الفيتو الأمريكي الذي أفشل عقد "المؤتمر الدولي حول التنمية الاقتصادية للسودان" الذي كان مقرراً أن تجري فعالياته بإسطنبول في الأسبوع الثالث من مارس الجاري, يعيد بقوة فتح ملف العلاقات بين الخرطوموواشنطن, وقراءة مجرياتها على ضوء التطورات التي شهدها المسرح السياسي الذي ظلت تتحرك فيه على مدار ربع القرن الماضي منذ وصول الحكم الحالي إلى السلطة, وحدود دور وتأثير الولاياتالمتحدة في رسم سيناريوهات مستقبل الأوضاع في السودان. والمؤتمر المجهض كان من المفترض أن يمثل نوعاً من الإلتزام الدولي, المتأخر للغاية, لمساعدة السودان لتجاوز الازمة الاقتصادية الخطيرة التي أحاطت به جراء تقسيم البلاد, واستقلال جنوب السودان الناجم عن عملية السلام الشامل التي تمت برعاية دولية قادتها الولاياتالمتحدة, وبضمانة مجلس الامن الدولي. وكان الأثر المباشر للتقسيم ذهاب ثلاثة أرباع الاحتياطيات النفطية إلى دولة الجنوب الذي تضم أراضيه حقول النفط الرئيسية, وفقدان الخرطوم لأكثر من نصف موارد موازنتها العامة, وأكثر من تسعين بالمائة من إيرادات ميزان المدفوعات, التي كانت تؤمنها الصادرات النفطية, ووجدت الحكومة السودانية نفسها في غضون أشهر قليلة, على غير استعدادات اقتصادية جدية بأية درجة لتلافي تبعات وتداعيات التقسيم, في مواجهة أوضاع خانقة بددت مكاسب الاستقرار الاقتصادي الذي حققته في العشرية الاولى من القرن الجديد, وتنذر بتبعات سياسية قد تكلف الحكم سلطته. لم تكن هذه التبعات الاقتصادية الخطيرة للتقسيم مفاجئة ولا أمراً مجهولاً, وطالما حذر الخبراء والمحللين من حتمية حدوثها منذ وقت مبكر وطالبوا بالتحسب لتداعياتها, لكن المسؤولين في الخرطوم أعرضوا عن سماع أية نصيحة في هذا الصدد وهزوا أكتافهم غير مبالين سخرية ومضوا لأكثر من ذلك في إنفاق وقت ثمين في حالة إنكار غير مسبوقة تنفي أي تأثير اقتصادي سلبي للتقسيم, بل اعتبر البعض أن في ذلك نعمة تخفف أعباء الجنوب عن كاهل الشمال. والمفارقة أن الولاياتالمتحدة, التي تعتبرها الخرطوم خصمها اللدود, كانت من أوائل الذين حذروا من التأثيرات الاقتصادية السلبية للتقسيم على الحكم في الخرطوم, حيث أعربت وزيرة خارجيتها هيلري كلينتون في محاضرة لها بواشنطن في العام 2009 عن خشيتها من عواقب اليوم التالي حين تصحو الخرطوم على فقدان ثمانين بالمائة من مواردها المالية, ورأت في ترك ذلك يحدث بدون معالجة تعويضية للشمال تأثيراً سلبياً حتمياً على استقرار دولة الجنوب التي ستولد, لا سيما وأن استراتيجية الرئيس أوباما بشأن السودان التي أعلنت في العام نفسه وقد استشرفت إرهاصات التقسيم تقوم على ضمان نشوء دولتين على أنقاض السودان الموحد قابلتين للحياة وقادرتين على تحقيق السلام واستدامة الاستقرار. ولذلك بادرت الولاياتالمتحدة, والمملكة المتحدة والنرويج شريكتاها في الترويكا التي قادت المجتمع الدولي في رعاية عملية السلام, في مايو من العام 2011, أي بعد أربعة أشهر من إجراء الاستفتاء على تقرير المصير وقبل شهرين من استقلال دولة الجنوب, إلى طرح اقتراح على الخرطوم لعقد مؤتمر دولي تستضيفه العاصمة النرويجية أوسلو للبحث في مساعدة السودان على تجاوز الآثار الاقتصادية المترتبة على فقدان العائدات النفطية, ولمكافاة الحكم على الوفاء بأهم التزامات عملية السلام إجراء الاستفتاء والقبول بنتيجته المفضية للتقسيم. واستضافت واشنطن مؤتمراً مماثلاً في ديسمبر الماضي لمساعدة دولة الجنوب الوليدة. غير ان النرويج تراجعت لاحقاً عن استضافة المؤتمر المخصص للتنمية الاقتصادية في السودان وطلبت من تركيا احتضانه بالتعاون مع الترويكا وتأجل المؤتمر الذي كان مقرراً عقده في نوفمبر الماضي, إلى مارس الحالي قبل أن يتم تأجيله مجدداً إلى أجل غير مسمى. ولم يكن واضحاً سبب تغيير مكان المؤتمر وتأجيل موعده في المرة الاولى, ليتضح هذه المرة أن الولاياتالمتحدة تقف وراء الفيتو الذي يعرقل قيامه, والسبب خلاف بين الخرطوموواشنطن حول أجندة المؤتمر, ففي أحين تصر الحكومة السودانية على رفض أي صبغة سياسية له, وأن تقتصر على طبيعته الاقتصادية, تريد الإدارة الامريكية من جهتها استغلال ساحته لطرح قضايا النزاع والحرب المتجددة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق والملفات العالقة مع دولة جنوب السودان. ويبدو أن الولاياتالمتحدة التي عهدت تجاوب الحكومة السودانية المتواصل مع الضغوط التي ظلت تفرضها عليها طوال العقدين الماضيين, واستعدادها الدائم على تقديم تنازلات بدون مقابل مسبق بأمل إقناع واشنطن برفع عقوباتها وتطبيع العلاقات بين البلدين, وجدت الإدارة الأمريكية نفسها لأول مرة في مواجهة "تعنت أو مقاومة" من الحكومة السودانية لم تعهدها من قبل, إذ لم تتجاوب مع مطالبها بضرورة السماح بتدخل دولي "إنساني" غير مشروط لإغاثة المتضررين من النزاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, ولذلك أرادت واشنطن استخدام مؤتمر اسطنبول كورقة ضغط ل"ترويض" الخرطوم وفرض ضغوط دولية عليها لحملها على تقديم تنازلات لتمرير "التدخل الإنساني" ولتسوية النزاع في الولايتين, والملفات العالقة مع دولة جنوب السودان مقابل أية الحصول على أي دعم اقتصادي دولي. والواقع أن حكومة الرئيس البشير لم تكن أمام خيارات كثيرة غير التمسك بموقف متشدد إزاء المطلب الامريكي الساعي إلى "تدخل إنساني دولي" غير مشروط في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, ففضلاً عن الخشية من تكرار سيناريو عملية شريان الحياة, وهو التدخل الإنساني الدولي الذي بدأ في العام 1988 بقيادة الأممالمتحدة إبان حكومة السيد الصادق المهدي التي كان تشارك فيها الجبهة الإسلامية القومية بزعامة الدكتور حسن الترابي, واستمر طوال تسعينيات القرن الماضي, ومع أهميته في عمليات إغاثة ملايين المنكوبين من الحرب في الجنوب فقد مثل كذلك شريان حياة لمتمردي الجيش الشعبي المتتشرين في أوساط مواطنيهم, فإضافة إلى الخشية من أن يسهم التدخل الإنساني الدولي إلى مد التمرد في "الجنوب الجديد" بأسباب الحياة, فسيفتح الباب واسعاً أمام تدويل كامل للنزاع في هلال التمرد الجديد الذي يشكله تحالف الجبهة الثورية الممتد من دارفور غرباً, مروراً بولاية جنوب كردفان, وإلى ولاية النيل الأزرق شرقاً, مما يشكل ضغطاً هائلاً على السودان المهدد بالمزيد من التشرذم في وقت لا تزال تكابد فيه الحكومة للخروج من مأزق تبعات وتداعيات التقسيم الذي خسرت بحدوثه رهانها على استدامة السلام. وليس واضحاً تماماً إن كانت الحكومة السودانية ستواصل تمسكها بموقفها المتشدد في رفض التجاوب مع مطلب التدويل الإنساني الذي تتبناه واشنطن, أم تجد نفسها في نهاية الأمر مضطرة لتقديم تنازلات لتلافي الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة عليها داخلياً وخارجياً, والواقع أن الخرطوم أظهرت هذه المرة صموداً غير معهود في وجه المطالب الأمريكية على الرغم من تلقيها إنذارات ورسائل تهديد سرية من واشنطن بالتدخل بالقوة تحت مظلة دوافع إنسانية, ولوح بها أيضاً علانية مسؤولون أمريكيون. وسيرة العلاقات السودانية الامريكية في غضون العقدين الماضيين, تشير إلى أن الحكم في الخرطوم لم يعد لديه الكثير ليخسره من عدم تحسن هذه العلاقة, ولم يعد هناك ما يطمع فيه عند واشنطن, بعد تجارب مريرة عكست الكثير من السطحية وقلة الكفاءة وانعدام الرؤية الاستراتيجية التي أدارت بها الحكومة الحالية سياستها الخارجية لا سيما ملفات علاقاتها مع الولاياتالمتحدة, تخبطت فيه من محاولة لعب دور في "أممية إسلامية" سعت لتأسيسها بلا معطيات موضوعية, لترتد عليها سريعاً في غضون سنوات قليلة بعدما ارتهنت البلاد لتداعياتها, بمحاولة التخلص من تبعاتها بداية بطرد بن لادن في العام 1996, ووصولاً إلى ركوب موجة الحرب الأمريكية على "الإرهاب" وفتح أبواب التعاون الاستخباري والأمني على مصاريعه الذي وجدت واشنطن نفسها معه وسط ثروة من المعلومات عن "ملفات الإسلاميين" المطلوبين لديها في خزائن الخرطوم, وتجاوبت الحكومة السودانية مع خريطة الطريق الامريكية لتسوية حرب الجنوب في اكبر رهان وقفزة في المجهول على أمل أن ذلك سيفتح أمامها أخيراً مغاليق واشنطن, ولم تجن الخرطوم من تلك التنازلات المتواصلة أي مقابل مما كانت تأمل فيه, بل تفاجأ الآن بان المطلوب منها تقديم المزيد من التنازلات على مذبح تطبيع أمريكي مستحيل المنال. ولعل أكثر هذه التنازلات مدعاة للتعجب, وتصلح لأن تكون سابقة تدرس في معاهد العلاقات الدولية, قبول الحكومة السودانية بالتعامل مع وضعية شاذة غير معهودة في شأن شرعية الرئيس, فمنذ صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس البشير في مارس 2009, امتنعت الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة عن التعامل معه على خلفية قرار التوقيف, وزاد الامر غرابة أن هذه الدول نفسها شجعت قيام الانتخابات العامة في أبريل 2010 واعترفت بنتائجها بما فيها انتخاب البشير للرئاسة, ولكن ذلك لم يغير من موقفها من عدم التعامل معه شخصياً, ولم يكن سراً انتهاجها مسلكاً انتهازياً في هذا الخصوص بقبول شرعية جزئية للنظام بدون رئيسه بغرض تمرير عملية الاستفتاء على تقرير المصير وإكمال سيناريو التقسيم, لقد بدا الأمر كله مفارقة كاملة مطلوب من رئيس غير معترف بشرعيته من قبل المجتمع الدولي الغربي, وفي الوقت نفسه مطلوب دوره بشدة لتوفير غطاء شرعنة التقسيم, ولئن بدا مفهوماً ذرائعية الدول الغربية في هذا الخصوص, فإن غير المفهوم أصلاً ولا المقبول عقلاً ولا المبرر سياسياً قبول الحكومة السودانية لهذه الصيغة البالغة الشذوذ والغرابة وغير المسبوقة في سيرة الأمم والدول, حيث يزور المبعوثون الغربيون على كثرتهم الخرطوم ويجرون المحادثات مع المسؤولين الحكوميين ويملكون في الوقت نفسه فرض "فيتو" على الرئيس ويرفضون مقابلته, واستمر الامر هكذا حتى أصبح في حكم المعتاد الذي لا يثير تساؤلاً ولا عجباً. والحال هذه فلماذا لا ترى واشنطن في أي رفض من الخرطوم للاستجابة لمطالبها أمراً مستغرباً, وقد تعودت غير ذلك حيث اكتشفت الولاياتالمتحدة من خلال تعاطيها مع الحالة السودانية على مدار العقدين الماضيين أرخص وسيلة للتدخل وفرض أجندتها وتمرير سياساتها دون أن تجد نفسها مضطرة لدفع أي ثمن في المقابل, ولذلك فإن محاولة الخرطوم المحدودة للاحتجاج على مسلسل التنازلات بدون مقابل من خلال رفضها للتدخل الإنساني في "الجنوب الجديد", فتحت عليها أبواب ضغوط أمريكية متزايدة بغرض "ترويضها" مجدداً, ليس الفيتو على مؤتمر اسطنبول أولها, كما أن قانون "سلام السودان" الذي يستدعيه المشروعون الامريكيون كلما احتاجوا لتشديد الضغوط على الخرطوم بالمزيد من العقوبات ليس أخرها. وفي عام انتخابي رئاسي وتجديد نصفي للكونغرس بمجلسيه, لن تهنأ الحكومة السودانية بلحظة تلتقط فيها الأنفاس من الضغوط الامريكية المتلاحقة في وقت لا تقل فيه الضغوط الداخلية عنها كثافة. صحيفة إيلاف السودانية [email protected]