(على السادة الركاب الالتزام بأمكانهم وربط الأحزمة، نحن الآن نستعد للهبوط بمطار الخرطوم).. عدلت محاسن عبد الكريم من وضعيتها قليلاً، وألقت نظرة من النافذة المجاورة لمقعدها لتتضح معالم الخرطوم رويداً، رويداً.. أشاحت بوجهها قليلاً وسرحت بأفكارها بعيداً. (ناس الأمن قالوا بفتشوا على بنية بدور يعرسها ود عمك مناوي), انتفضت محاسن وهي تقلب رزمة من الأوراق أمامها، والتفتت إلى زميلتها في العمل في إدارة حسابات هيئة الطاقة الذرية بمعمل مدينة الفاشر، انقبض قلبها قليلاً وهي تصطنع الدهشة، وتقول: (مناوي داير يعرس)، نجحت في ما ترمي إليه وهي تواصل الاستماع بحذر لزميلتها التي راحت تسرد على مسامعها عزم قائد حركة تحرير السودان إتمام مراسم زواجه، وأن الأجهزة الأمنية تجد في البحث عن العروس للوصول للعريس المطلوب. بعد أيام قليلة سافرت محاسن في رحلة عادية بعيداً عن الاشتباه من الفاشر إلى منطقة تبعد خمس ساعات، ومن هناك سافرت إلى منطقة (بير مزة) وهي منطقة تسيطر عليها حركة مناوي, والتقت بزوجها هناك بعد يوم كامل من السفر واستقرت بذلك المقام لشهر ونصف الشهر, لتجد نفسها تشارك في أهم حدث داخل الحركة وهو «مؤتمر حسكنيتة» الذي شق الحركة إلى جناحي مناوي وعبد الواحد.. وبعدها وقع مناوي اتفاق أبوجا مع الخرطوم. انتفضت محاسن مع ارتطام عجلات الطائرة إيذاناً بالهبوط، استفاقت من ذكرياتها ضمت ابنها إليها، وابتسمت في وجه زوجها، الذي عدل ربطة عنقه، وبدأ يستعد للنزول من سلم الطائرة لتستقبله عدسات المصورين، وهتافات الجماهير المؤيدة له، بعد أن وقع اتفاقية أبوجا مع الحكومة وأصبح كبير مساعدي الرئيس. مني ابن فوراوية في قرية (فوراوية) شمال غربي مدينة كتم شهد العام 1968م صرخة ميلاد سليمان أركو مناوي، أو (مني) بحسب لغة الزغاوة الذين ينتمي لهم، ضمن أسرة بسيطة مكونة من 8 أولاد و3 بنات فهو أصغر إخوته من ناحية والدته، فوالده متزوج من ثلاث نساء، وتتوزع أسرته في السكن بين الفاشر وغيرها من مدن وقرى دارفور. درس مناوي المراحل التعليمية في مدرسة فوراوية الابتدائية، ثم مدرسة كرنوي المتوسطة، ثم التحق بمدرسة الفاشر الثانوية، وبعدها عمل مدرساً بمرحلة الأساس بين عامي 94 1995 في منطقة (بويا)، وبعدها غادر إلى دولة تشاد فدرس اللغة الفرنسية لمدة عام 1995 1996 ثم التحق بجامعة (لاغوس) ودرس اللغة الإنجليزية، وبعد تخرجه عمل في مجال الأعمال التجارية الحدودية متنقلاً بين الكاميرون ونيجيريا وليبيا. وكانت تسيطر عليه فكرة الدراسة في هولندا قبل أن يلتحق بالعمل العسكري الميداني متمرداً على الخرطوم, تحت راية حركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد محمد نور، ليشغل منصب القائد الميداني ثم الأمين العام للحركة. كان مناوي ضمن 17 فرداً صعدوا لجبل مرة وأسسوا حركة تحرير السودان، ورغم حداثة سنه إلا أنه تبوأ قيادة الحركة, فقد عرف بأنه عسكري شجاع، بجانب كونه سياسياً ذكياً ومرناً، وعرف أيضاً بأنه لم يكن عسكرياً مستبداً في الرأي، ولا فاجراً في الخصومة. ويروي المقربون منه قصة تكشف موضوعيته، يقولون إنه بعد زواجه بأسابيع قليلة عام 2005، أراد اصطحاب زوجته لإحدى جولات المفاوضات بأبوجا، وفي باب الصعود للطائرة، اعترض أحد قادته الميدانيين على الخطوة باعتبار أن الظروف في أبوجا لا تسمح بذلك، وطلب من زوجة مناوي (العروس) الهبوط من الطائرة، فاستجابت، ولم يعترض هو، ولم يتخذ أي ردة فعل غاضبة حيال ذلك. حسنكيتة.. مفاصلة ونجومية بعد عامين ونصف العام من العمل المشترك بينه وبين رئيس الحركة عبد الواحد نور، بدأت خلافات تدب بين الرجلين، وكان السبب تصاعد وتيرة النبرة القبلية. كان أبناء الزغاوة بقيادة مناوي يرون أنهم بقيادة مناوي سبب الانتصارات على الحكومة, وهم الذين يقفون وراء أي نجاح في هذا المضمار. وبرز شعور لدى أبناء الزغاوة أن مناوي يعمل كثيراً في الميدان وسط الجنود في حين يقوم زعيم الحركة، الذي قليلاً ما يذهب للميدان، بخطف الانتصارات ونسبتها إليه، كذلك ظل مناوي شخصية مغمورة لدى عامة الناس في دارفور وفي وسائل الإعلام، والسبب يعود إلى أنه لا يفضل الأضواء، بقدر ما كان يفضل التنقل من مكان إلى آخر في المواقع التي سيطرت عليها الحركة. تصاعدت الخلافات بين الرجلين، حتى دعا مناوي إلى مؤتمر للحركة أواخر العام 2005 في مدينة حسكنيتة، وسط حرب إعلامية شرسة بينه وبين نور، واعتبر نور تلك الدعوة غير شرعية وأنها ترتيب لعزله، فرفض الاستجابة لها ووصف من يشاركون فيها بأنهم خارج نطاق الحركة. لمع بعدها نجم مناوي وبدت ملامح النزعة القيادية للشاب الثلاثيني تتكشف عقب عاصفة (حسكنيتة) الشهيرة التي أزاح فيها رئيسه عبد الواحد بأمر (الشرعية), بعد انتخابه للرئاسة من قبل المؤتمر العام. وقاده الانقلاب الأبيض إلى توقيع اتفاق مع الحكومة في مايو 2006 عرف باسم اتفاق أبوجا، رغم أن كل المؤشرات والدلالات تقول إن نور هو الأقرب إلى الخطوة منه حينها, نسبة للمواقف المتصلبة لمناوي تجاه العديد من القضايا المطروحة في طاولة الحوار آنذاك، وانقسم الناس حيال قرار الرجل بالإقدام على اتخاذ خطوة كهذه تعد في غاية الصعوبة في ظل ساحة تعج بالحركات الرافضة للتوقيع, ووفقاً للمعطيات الراهنة فإن مناوي يجلس في آخر درجات سلم الخبرة والحنكة السياسية مقارنة بخليل ونور. غير أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الولاياتالمتحدةالأمريكية دعموا موقف مناوي الشجاع، ووصف حينها روبرت زوليك مساعد وزيرة الخارجية الأميركية إبان مفاوضات أبوجا مناوي بأنه رجل مواقف, مبدياً إعجابه بروح المسؤولية النادرة التي قال إن (مني) تحلى بها رغم أن موقفه ذاك أدى إلى انقسام في حركته إلى عدة فصائل. ويروي متابعون لمسيرة الرجل أنه عسكري بالفطرة، سياسي بالممارسة، قائد بالتجربة، ويشددون على أنه مقاتل من الطراز الأول يحظى بشعبية كبيرة وسط مقاتليه، ومرح لأقصى حد, يجيد أصول المزاح بين أصدقائه ورفاقه، ويضيفون أنه مر بمحطات صعبة في سنوات عمره الأخيرة دفعته لإصدار قرارات مصيرية، الأمر الذي أكسبه الحزم والشدة. دخول القصر لم يكن العمل في القصر الجمهوري بأسهل من العمل في ميدان التمرد, بحسب الرئيس البشير, وهي العبارة التي قالها للراحل د. جون قرنق زعيم الحركة الشعبية حينها عندما داعبه قائلاً: (يا قرنق أخوي العمل في القصر أصعب من العمل في الغابة)، ويبدو أن الرئيس هو الأدرى بكنه المعنى الذي استوحاه من خلال تجاربه بالعمل في ال(الميدانين)، وبعد سنتين من عمله في القصر ككبير لمساعدي الرئيس خرج مناوي من الخرطوم محتجاً على ما أسماه (البطء في تنفيذ اتفاقية السلام أبوجا)، اختفى عن العاصمة وعن مدن دارفور الكبرى (الفاشر ونيالا والجنينة) لأكثر من شهر، مخلفاً الكثير من التكهنات والريبة حول غيابه, وتواترت للمجالس روايات متعددة ومختلفة في السياق والمضمون, فالآراء المتطرفة قطعت الشك بأنه تمرد ويحشد قوته للهجوم على الخرطوم على نسق الهجوم الذي نفذته حركة العدل المساواة على مدينة أم درمان، ولم تكتفِ الروايات بذلك بل مضت بالقول إن مناوي زار العاصمة التشادية أنجمينا بعد خروجه من الخرطوم مباشرة, وعقد اجتماعات مع الرئيس إدريس دبي وقيادات في حركات دارفور الأخرى، واتفق معهم على تحالف عسكري، ولكن مناوي في أكثر من لقاء يدحض مثل هذه الروايات ويقول: (لا عودة للحرب مرة أخرى). وعاد الرجل للخرطوم بعد أكثر من شهر باتفاق الفاشر الشهير الذي قاده نائب الرئيس علي عثمان وتمخض عن مصفوفة تنفيذ اتفاقية أبوجا. رياح التغيير ويرى مراقبون أن مناوي تغير كثيراً عن ذلك الشخص الذي كان في الميدان، فقد استغرقته الحياة السياسية، والأعباء الرسمية، وفي ذات الوقت يشير آخرون إلى أن قلة خبرة الرجل السياسية أضعفت أداءه الحركي الرشيق، بجانب أن غرابة أجواء الخرطوم الثقافية والاجتماعية والسياسية ربما عززت ذلك. ولكن قليلاً قليلاً بدأ الرجل يكتسب لياقة المباريات السياسية وكان أول تحرك له من نصيب رفاقه، فقد أقدم مناوي على إبعاد مجموعة من القيادات من كابينة الحركة, وكان أبرزهم الأمين العام للحركة مصطفى تيراب وتعيين ابن عمومته علي حسين دوسة بدلاً منه, وفسرت الخطوة حينها أن مناوي اتجه (لقبلنة) الحركة بجمع أفراد حاشيته حوله وإبعاد الآخرين من القبائل الأخرى, بحسبان تيراب ينحدر من قبيلة الفور. وفي ذات الوقت تعرضت حركته لهزة عنيفة، بعد أن انسلخ منها عدد من القيادات الميدانية، بشكل تزامن مع مضايقات واضحة من حركة العدل والمساواة بقيادة خليل بشكل أفقد مناوي معظم المناطق التي كان يسيطر عليها، قبل أن تستردها الحكومة. ويؤكد مقربون من الرجل أنه لم يتغير قط عما كان عليه في الميدان، فهو ما زال بلطفه ومرحه المعهود، ويضيفون أن مني ورغم مشغولياته التي لا تنتهي فإن بابه ما زال مفتوحاً للجميع، ويضيفون أن الرجل يملك قلباً وعقلاً لا يصدأ, فهو يذكر جيداً كل من عملوا معه وإن صغر شأنهم، ويذكر أسماءهم وكل ما يتعلق بهم، كما أنه لا يتنكر لهم. تقاطع طريق والتأم المجلس الثوري لحركة مناوي مؤخراً بالفاشر بعد أن تأخر من الموعد المضروب له، وقد نجح الرجل في تعزيز قبضته على الحركة، بعد أن حسم التنازع بينه والأمين العام، الأمر الذي دفع البعض لوصف الرجل بأنه سلطوي أكثر من اللازم. غير أن قيادات حركته ترى خلاف ذلك فهو – حسب رأيها - يلتزم بالمؤسسية إلى أقصي حد، ولا يسرع في اتخاذ القرارات, بل إنه صاحب نفس طويل وصبور بشكل لا يتصور، لذلك فهو يخضع القرارات لمشاورات فاحصة، إلاّ إذا كان القرار مستعجلاً ولا يقبل التأخير، وهو بذلك يحمل سمات القائد الواقعي الذي يستصحب المتناقضات بحكمة في تعامله مع المشهد السياسي. ويمضون أيضاً إلى أن قائدهم يتمتع بروح شبابية تنعكس حتى على ما يرتديه من أزياء، أو يسمعه من أغاني تحمل روح الشباب وحلمهم بتغيير واقعهم للأفضل. ويقضي مناوي أوقات فراغه على قلتها في القراءة العامة والاطلاع لا سيما الكتب التاريخية، فهو من أنصار الاستفادة من دروس الماضي في التعامل مع الحاضر واستشراف المستقبل، كما أن لديه ذاكرة شعبية تحفظ الكثير من الأمثال والأساطير. ويرى كثير من العاملين في مجال الإعلام أن الرجل لا يحب الظهور، إن لم يكن يتحاشاه، غير أن ذا النون سليمان (المتحدث الرسمي باسم حركة تحرير السودان), يرد ذلك إلى أن معظم الأجهزة الإعلامية أصبحت تخدم أجندة سياسية بعينها، وأنها تسعى لتشويه صورته أو تسليط الضوء على النصف الفارغ من الكوب.. ويزيد أيضاً أن الرجل أصبح حذراً تجاه وسائل الإعلام، بجانب أنه يفضل العمل المؤسسي, فالأمور الإعلامية يوكلها للمكتب الإعلامي وهكذا، ويشير ذو النون في ختام حديثه إلى أن مناوي (زول صريح ودغري) ويميل للمعارك المباشرة والمواجهات، لا يكره شيئاً أكثر من محاولة ابتزازه أو العمل على استغفاله. يجلس مناوي الآن على حواف القصر يترقب مصيره بعد المتغيرات السياسية الجديدة التي أفرزت تركيبة حكم منتخبة، ومساعي لتسوية جديدة بالدوحة قد تأتي خصماً على حصته. إعداد: محمد عبد العزيز