مع تراجع الحركة القومية العربية ومع أزمة اليسار المتفاقمة تزايدت شعبية جماعات الإسلام السياسي التي كانت في حالة كمون والاشتغال على التوغل اجتماعياً واقتصادياً، وبدأ الخطاب الإسلامي يطغى على الخطاب القومي وحتى الوطني. وكما وظف القوميون القضية الفلسطينية وظفها الإسلاميون حيث كانت المظاهرات والمسيرات التي ينظمها الإسلاميون دعما لفلسطين وتنديدا بالممارسات الصهيونية فرصة لتبرز هذه الجماعات قوتها في الشارع ولتستقبط مزيدا من الاتباع. من جهة أخرى وفي خضم صراع الغرب مع جماعات الإسلام المتطرف وخصوصا بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، تفتقت العقلية الاستراتيجية لواشنطن عن مخطط لضرب جماعات الإسلام السياسي المتطرف وخلق بلبلة وفوضى داخل العالم العربي والإسلامي، وهذه الخطة تقوم على استيعاب الإسلام المعتدل ومطالبة الأنظمة العربية بإشراكهم في الحياة السياسية، وهذا ما جرى في وقت متزامن تقريبا في مصر والمغرب والأردن منتصف العقد الماضي. ورغم أن الديمقراطية يمكنها استيعاب كل التيارات والقوى السياسية من وطنية وقومية وعلمانية وإسلامية، إلا أن بعض تيارات الإسلام السياسي تعاملت بحذر من النهج الديمقراطي وتعاملت مع الديمقراطية الرسمية أي الديمقراطية الموجهة من النظام دون أن تتخلى عن ثوابتها ومرجعيتها الدينية مما جعل مشاركتها في العملية الانتخابية والديمقراطية لا تؤسس على قناعات راسخة بقدر ما هي غائية تهدف لتوظيف مساحة الحريات التي أُجبرت الأنظمة على منحها للجمهور لتشرعن وجودها وتبعد عن نفسها تهمة الإرهاب. لأن انخراط الإسلاميين في الحياة السياسية الرسمية لم يكن عن قناعة بالنهج الديمقراطي فإن ما تسمى بالثوابت والمرجعيات الوطنية باتت محل خلاف وخصوصا بعد الثورات وخصوصا في مصر. فالمرجعية الفكرية اليوم لغالبية تيارات لإسلام السياسي هي الفكر الديني (قرآن وسنة واجتهادات السلف الصالح) والأمة هي الأمة الإسلامية والهوية هي الهوية الإسلامية والدولة هي دولة الخلافة الراشدة، وأصبحت الثنائية التي تشغل الحقل السياسي العربي والإسلامي اليوم هي الإسلامي والوطني، مع تسطيح وتعويم كبير لمفهوم الإسلامي (الحركات الإسلامية) ومفهوم الوطني، بل يمكن القول إن ما يبدو على السطح من استقطاب بين المنتمين لكلا التيارين لا يستطيع ان يخفي الخلافات داخل كل تيار وهي خلافات قد تكون أوسع مما هي بين التيارين وبعضهما البعض. وجدت قطاعات لا يستهان بها من الجماهير العربية في الإسلام الإطار الذي يمكن أن يمثل الجدار الأخير في مواجهة "الأعداء" والمرجعية المُوحدة لما هو مشترك بين الجماهير العربية والإسلامية، إلا أن المشكلة نفسها التي واجهت الحركة الوحدوية القومية تواجه اليوم فكرة الوحدة الإسلامية، فوحدة المرجعية الدينية حتى هذه عليها خلاف لا تعني وحدة المرجعية السياسية للمسلمين أو حتى وجود مرجعية سياسية متفق عليها، حيث أن الإسلام السياسي منقسم على نفسه في البرامج وآليات العمل وفي موقفه من العمل الوطني. فمن ابن لادن وتنظيم القاعدة الذي لا يؤمن بالعمل الوطني أو بالنضال السياسي القطري، إلى جماعة الإخوان المسلمين التي بلورت أخيراً نوعاً من المصالحة ما بين العمل الإسلامي الأممي والعمل الوطني، وما بينهما حركات إسلامية متعددة الاتجاهات والتصورات. والسؤال الذي يفرض نفسه، هل يمكن تحقيق وحدة الأمة بالإطار الإسلامي حيث فشل تحقيقها بالإطار القومي العربي؟ وهل يمكن تجاوز الخلافات بل التناقضات بين متطلبات واستحقاقات وآليات العمل الوطني من جهة واستحقاقات وآليات العمل السياسي التي تنتهجه الجماعات الإسلامية؟ وماذا بالنسبة للقضية الفلسطينية؟ هل سيتم الانتقال من شعار "الوحدة العربية الطريق لتحرير فلسطين" إلى شعار "الوحدة الإسلامية الطريق لتحرير فلسطين"؟ للإجابة عن ذلك لا بأس من استحضار مقومات وموجبات أو مبررات الوحدة في الحالتين ومعيقات تحققهما. عديد من القوميين والإسلاميين تناولوا باستفاضة العلاقة بين القومية والإسلام، وغالبية هؤلاء اتفقوا على عدم وجود تناقض حتمي بين الطرفين، ونعتقد بأن حالات التصادم التي وقعت بين الطرفين كانت تندرج في إطار الصراع على السلطة أكثر مما كانت صراعا بين أيديولوجيات. فكل من الإيديولوجيتين تنتمي لمنظومة مختلفة، الإسلام يمكنه أن يوحد الشعوب عقائديا ولكن من الصعب عليه توحيدهم جغرافياً وسياسياً، ونعتقد بأن شعارات الوحدة الإسلامية الذي ترفعه بعض الجماعات الإسلامية هو اقرب لمفهوم الأممية الذي رفعته الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، ليس من حيث المحتوى الإيديولوجي بل من حيث الوظيفة الأيديولوجية وهي توحيد وتقارب الشعوب إيديولوجيا، أما توحيدها سياسيا وجغرافيا فالأمر يحتاج للدخول في مواجهة مباشرة ليس فقط ضد الأنظمة والنخب الحاكمة بل ضد النظام الدولي القائم من قوانين وعلاقات ومنظمات. أما الفكر القومي وحركاته السياسية فيمكنها بل مطلوب منها توحيد أبناء الأمة، سياسيا وجغرافيا في إطار دولة قومية، وهذا هو مبرر وجود الفكر القومي وقد أنجز الفكر القومي هذه المهمة في أكثر من مكان في العالم إلا العالم العربي لأسباب سبق سردها. المشكلة المطروحة اليوم ليست علاقة القومي بالإسلامي، فالقومي حركات ونظم اضعف من أن يواجه المد الأصولي، وهذا لا يعني نهاية الفكر القومي الوحدوي أو التخلي عن حلم الوحدة العربية، بل إقرار واقع أن الأنظمة القومية وصلت لطريق مسدود والحركة القومية بشكل عام أصابتها حالة من الترهل أو الإحباط، وكثير من منتسبيها انخرطوا إما بالعمل الوطني الديمقراطي أو تحالفوا مع الإسلام المعتدل. المشكلة اليوم هي علاقة التيار الإسلامي بالقوى الوطنية من علمانية وديمقراطية والتي تشتغل على ثوابت ومرجعيات لا تتفق عليها القوى الإسلامية. لقد تجلى هذا التعارض بل التصادم الدموي أحيانا قبل الثورات العربية في الجزائر، ومصر، تونس، والأردن، المغرب، وفي فلسطين ولبنان. العمل الوطني يعني وجود تحديات ومهام وثوابت وطنية تحتاج لمعالجات وطنية، بمعنى أن القرار بهذه الأمور يجب أن يكون قراراً وطنياً لا يخضع لأي مرجعية خارجية حتى وإن كانت دينية، فلا يمكن أن تكون وطنياً وقرارك خارج الوطن، وهذا يتطلب (توطين) الجماعات الإسلامية سياسياً لا دينياً، بمعنى أن تصبح الجماعات الإسلامية في كل بلد جزءاً من المشروع الوطني لا أن يُلحق المشروع الوطني بأجندة الجماعات الإسلامية وخصوصاً الأممية منها كجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة. وأخيراً لا نعتقد بوجود تناقض حقيقي ما بين العمل من أجل الوطن -الدولة الوطنية- والعمل من أجل القومية والوحدة العربية والعمل من أجل وحدة وترابط الأمة الإسلامية عقائديا، والمشكلة هي ترتيب الأولويات وتنسيق المهام حسب خصوصية كل بلد وحسب تحديات كل مرحلة. فمثلا لا يمكن الحديث عن الوحدة العربية فيما أقطار عربية تعيش صراعات وحروباً طائفية وعرقية تهدد وحدة نسيجها الاجتماعي والوطني، كما لا يمكن الانتقال لوحدة الأمة الإسلامية حول مرجعيات سياسية واجتماعية واقتصادية، فيما لم نتمكن من تحقيق ذلك بين الدول العربية التي يجمعها، بالإضافة إلى المرجعية الدينية، وحدة اللغة والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك؟ لقد حدث التصادم ويمكن ان يحدث ولكن ليس بين انتماءات حقيقية بين هذه الدوائر بل بين نخب توظف هذه الانتماءات من اجل الوصول للسلطة، وفي هذه الحالة تصبح السلطة هي سبب الصدام وليس الانتماءات بحد ذاتها. أ.د.إبراهيم أبراش ميدل ايست أونلاين