المجذوب شاعر المقطع المتقدم من قصيدة الخروج التي صاغها في الخرطوم مساء الثاني عشر من يونيو سنة ثمان وستين هو شاعر الحياة. «أنا أحب الفرح متفائل بطبعي لأني أحب الخير لنفسي وللناس وبهذا تعتدل الحياة ولكن الله جلت حكمته ابتلاني وأعانني وله الحمد فاحتملت وأعياني حبي للصفاء فاعتزلت وأحاسب نفسي وأتهم صدقي وأتعب وأوسوس وأتشاءم وعلمت – غير نادم – أن التطرف في الحب والولاء لا يؤذي إلا صاحبه والنفوس شحاح والإنصاف على الصفاء هو الإكسير – والإكسير خرافة« ودنيا المجذوب الفنية حسب رؤيا الناقد الراحل الدكتور حسن عباس صبحي ( 1928 – 1990م ) في كتابه « الصورة في الشعر السوداني « بركان دراما تموج بمختلف الصور فهو عنده بطل تراجيدي عاش يعب من التراث الشعري العربي في نهم يزيد أواره وولع شديد باحتضان الحياة في جميع تقلباتها فتارة نتلفت لشلي حينما يكون الآخر « برمثيوس طليقاً « وتارة أخرى نحتضن المجذوب وهو يعانق كولردج في الملاح العجوز أو في كوبلاخان وديباجته مع فحولتها ودقتها لا تشعر معها إلا بارتياح لا تشوبه زعزعة لأنه ينقل لك صوره في رصانة وجاذبية تدعونا إلى الاندماج معه لننعم بدفء ناره المجذوبية . ونتمتع في الوقت نفسه برائحة البخور الفواح تعطر لنا المشهد فشاعرنا هنا وهو يعيش مشاهد مسرحياته الواحدة تلو الأخرى بعمق وجدان وبحواسه الخمس وقد آلى على نفسه أن يقدم نفسه قرباناً حلالا لا جزاء له لأحزانه الكثيرة التي يجازف معها ويتعصرها حتى آخر قطرة . وإحساسه الدرامي بالحياة قد جعله يطوع إيقاعه الشعري على وتيرة تقنعه هو قبلما تقنعنا نحن لأنه في حسباننا ككل فني متكامل يهتز أولا هزة تلقائية ديناميكية ثم يعبر عن هزته تلك بكلمات يصور فيها حالته النفسية في معاناتها أثناء التجربة تصويراً دقيقاً . وقد عبر الشاعر الفذ محمد المهدي المجذوب 1919م – 1982م عن حياته التي خاض بطولها وعرضها تعبيراً فنياً موحياً بكل ما في تلك الحياة من بساطة حيناً ومن تعقيد في أحايين أخر . عرف الرجل المعترف كنه الصدق «ومن أسرار الصدق في أي لون جاء إنه يقود إلى المعرفة ولي في ذلك أسوة بالمعترفين من سادتي الصالحين والمعترف يمحو ما أثبت إن شاء الله والمعرفة غربة والغربة شجاعة وبقاء عند أهل التصوف « . هذا التعبير الفني الدقيق الصادق عن الحياة هو الذي أضفى على شعر المجذوب ذلك النفس العميق الذي يطول ثم لا يزال يطول . قد يقع بعض شعراء المطولات في كثير من العيوب الفنية كالنظم الأجوف الفارغ وتدبيج الزخارف اللفظية وتتبع الحوشي والزوائد وغير ذلك مما يعد من النظم البارد فلا حرارة ثم في الشعر ولا تفنن في الفن ولا مقام ولا مقال . أما المجذوب فهو شاعر المطولات الباذخات الشامخات شموخ جبال التاكا.. أعد قراءة لاميته المخفوضة جبل الختمية من ديوانه الأول نار المجاذيب وقد نظمها الشاعر بين كسلاوالدامر في مايو سنة أربع وأربعين وهو ابن خمسة وعشرين عاماً وأهداها إلى روح سلفه الصالح الشيخ قمر الدين جلال الدين المجذوب وقد بلغت المطولة مائة وثمانين بيتا والقصيدة كأنها معدودة بيتاً بيتاً ولا أبالغ إن قلت حرفاً حرفاً فلا تفصيل ممل ولا تقصير مخل . يبتهل الشاعر في مفتتح المقطع الأول فيبتهل معه الكون كله في سبحات الوجود « يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد *10 وأن أعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير*11 سبا». جل ربي وجوده مظهر الكون وأسرار غيبه في الكمال عرشه الأرض والسموات والنفس وما في غيوبها من جمال راسخ من عماده النور والحب وأسداله نشيد ابتهال . عجبت كيف شاد المجذوب اهراماته ؟ وأعجب فقد كان المجذوب - في طواعية ممكنه وقدرة مواتية- ينظم في اليوم الواحد قصيدتين اثنتين وينسج لهما درعين سابغتين فإذا هما الأمن والأمان . إن شئت فتأمل من ديوانه « أصوات ودخان « قصيدتيه العودة وذلك الدليل واللتين نظمهما معاً في السادس من نوفمبر عام تسعة وستين . واقرأ جهراً قصيدتيه ود بدر والهزيمة النصر من ذات الديوان فتاريخهما واحد ولعله نظم قصيدة ودبدر أولاً فقد نظمها فجر السادس من أكتوبر عام سبعة وسبعين في حين صاغ بعدها حروف الهزيمة والنصر في اليوم نفسه من سنة سبع وسبعين – سنة الاصطفاف في طوابير الخبز . تبدو قصيدة ودبدر توسلا على منحى آخر غير مألوف من توسلات المتصوفة – ففي نظمها فجراً إشارة إلى زمن معرفي وروحي خالص ، فالشيخ العبيد ود بدر بركة من بركات القرآن المجيد وقصيدته تجئ فجراً « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً *78 الإسراء « . الصبح يصب الشاي وأكواب القمري هديل والسدرة ذات الأقراط الذهبية فرشت ظلاً نساج الشمس يوشي أطرافه وقعدنا فيه نطيل العمر ولا ننسى الا الأحزان في أم ضبان لقيت الشيخ البدر فأكرمنى – أرضاه الباري – بالإيمان . بعد قصيدة ود بدر فجراً تجئ الهزيمة النصر هزيمة « شعبي « المغبون من أحابيل السياسة في وطنه والشاعر الذي ظل كالطود الأشم ثابت الجنان راسخ الخطى في كل الأعاصير العاتية الهوجاء .. يظل هو هو في خط النار الأول في صف القضية الوطنية متقدماً على الطليعة الواعية المكافحة من أحرار شعبه . الفجر أقوم لأكتب شعراً لا يغني من جوع الناس تحاشوني قالوا مخبول لم يبصر تنظيمات الشعب ولا أعياد النصر لم يبصر مطر الخبز ونيل السكر والشعراء المداحين ولا الأعلام تزغرد في الطرقات تابوت في مسرحنا القومي وحيد يتبجح بالأقوال المقبورة يا مستورة هاتي عيشك ذاك الجائع يا محذورة غيبي فيه معي فالصحو مشانقه المسعورة حامت حولي دقي الدلوكة حتى يسمع قومي في المطمورة ورباب الشيخ يفيق له المجنون استلهم الشاعر موروثات شعبه الزاخرة وأحاجيه مشيراً إلى الشيخ إسماعيل صاحب الربابة أنموذج الشاعر الأسطوري الأول في عهد السودان السناري مقتفيا أثر الفنانين العظام في استدعاء الرمز والأحجية والرؤيا والإشارة الصوفية واستلهام أسطورة القناع في السخرية على عادة المجذوب من نظام مايو السياسي ونقد الدكتاتورية نقداً لاذعاً وتعرية المهرجين في ذلك المسرح . في عيشك هذا الجانح أسراري بدلني ألبسني أسواري أخبار الدامر تكتب أخباري في ضوء النار حتى في قصيدته المهداة إلى بائعة الكسرة ( أم الناس ) – وقد نظمها فجر التاسع من أكتوبر سنة سبع وسبعين- يفاجؤك المجذوب معرضا بالسلطان: يا راهبة السودان يا أم الناس جميعاً لا يشرون الكسرة بل يجنون بهاء صفائك يزن الأعمال ولا يزن الأقوال يضيع بها الإنسان أقبلت عليك أطهر نفسي من أعبائي أتعلم منك الخير الكاسد أتعشق حسنك والإحسان وأضحك فيك عزائي من جعل الطير شعاراً لم يعرف وطني ووحيد القرن الدبابة ومن بين ظلام العتمة ينبلج ضوء الفجر.. الفجر حيث كان المجذوب يكتب قصائده.. قصائده التي تتنبأ بتهاوي عروش السلطان.. فجر السادس من أكتوبر سنة سبع وسبعين – قبيل زهاء ثمانية الأعوام من تاريخ الانتفاضة الشعبية – تنبأ المجذوب بحسه المرهف وشفافيته العالية وصوفيته الشفيفة وبصدقه واعترافه وغربته بسقوط عرش السلطان، وإذا مايو في ذمة التاريخ.. سقط عرش السلطان، وسقط شاعره المزيف، وحفظ التاريخ في ذاكرته – التي لا تغيب – صوت شعبي.. مهدي شاعر الشعب . خميرك الرصاص والمدفع والقنفذة المجنزرة فزغردي نحن عبرنا المجزرة وفتح التاريخ صفحة يكتبها مسطرة أقلامه النخيل والينبوع محبرة وقصة أبطالها أقلامنا المحررة إنها نبوءة الشاعر إذن.. «ولا ينبئك مثل خبير». الاحداث