الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي رئيسة منظمة الطوارئ الإيطالية    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب جديد ..قبائل شمال ووسط كردفان ..
نشر في الراكوبة يوم 25 - 04 - 2012

يقيناً طرتُ فرحاً لما أخبرني صديقي الحصيف الأستاذ سيف الدين عبد الحميد المترجم البارع بصنيعه الماتع وما بذل من جهود الترجمة الطائلة، فالرجل في سائر كتاباته محسنٌ متقن، ثم معرفتي به جعلت فرحي الواحد أفراحاً، ثم جلال الموضوع وإن شئت جلله الذي شابته الشوائب يحتاج الإجلاء من قادرين لهم شأوهم (قبائل شمال ووسط كردفان) لهارولد ماكمايكل.
عرفتُ المترجم الأستاذ سيف منذ سنين في جريدة الصحافة الغراء مالكاً قلماً سلسالاً يتقطر عذوبة.. ولا مشاحة فالرجل شاعرٌ ضليع رضع لبان الأدب العربي واجتبى محاسن اللغة ثم فوق هذا له إلمامٌ بالموضوع (كردفان) فهي وطنه، وكأنه يسدي جميلاً لمواطنيه بعمله هذا، وكلنا يأكله الشوق لمعرفة كل كبيرة وصغيرة عن تلك الرقعة العامرة بالرجال. ومع كثرة ما كُتب إلا أننا لا نشك أن جهد ماكمايكل كان أوفرها نصيباً، فقد أحاط الرجلُ خُبراً وتقصى كل الجهود السابقة، ما يدفعك لأن تُدهش إعجاباً بثبت مصادره الضخم الذي كابد مراجعته، ثم منهجه الصارم الذي توخاه تحقيقاً، ومراجعه لجهود التونسي وسليجمان وبروس وبراون وبيركهاردت وكاليو وبالمي وسلاطين وغيرهم.
في معرض الكلام وجدتُ ماكمايكل يتعاطف مع حالة المواطنين الذين تسحقهم الضرائب وتعنتهم دون رحمة فيصبُّ جام غضبه على طغيان سياسة محمد علي (تاجر الرقيق الكبير) والذي لا يتورع (ببيع بني جنسه من الكائنات البشرية) وهنا يخامرك الشك أنه يكيد كيداً بأقواله تلك مترصداً السياسة المصرية. وهناك قضايا كثيرة ستتضح رؤيتها بعد مطالعة الكتاب وقد تغلبك الدهشة وأنت ترى هذا الحشد من المعلومات غير المسبوقة تتدافع أمامك في سلاسة، فلا تملك إلا أن تحمد لماكمايكل هذا، وأنت لا تجد مبرراً لتكبد المشاق سوى تسهيل مهمة الإداري المستعمر حتى يُحكم قبضته على السكان، وهناك إشارات أن أولئك الإداريين كانوا على يقينٍ أن معرفة القبائل وأصولها والعادات والتقاليد هذا يساعد كثيراً في إدارة البلاد ولذا شجعوا مثل هذه الدراسات بل اندفعوا لها، ثم عشق المعرفة مع قليل القصد أو كثيره، وأحسب أننا مهما تجافينا أو بلغت بنا السذاجة مبلغاً فليس يسيراً نكران جهود أولئك الغربيين الذين انكبوا بحثاً مضنياً شاملاً لكل تاريخنا المضاع. لقد كانت جهودهم سابقة، ومع ما شاب جهد بعضهم من الكيد وما تنكبوه من إجحاف وإبخاس، لكن بالمستطاع يسيراً تجاوز ذلك الآن فالفطنة الغالبة تجعل طيِّعاً كل عصي.
إن الكثير مما توارد في العمل العظيم تحصَّله ماكمايكل يوم كان رأساً في الحكم الثنائي بالبحث المضني والمشافهات العديدة التي تحتاج لدربة ودراية فوق الصبر، ولكنني أجزم أن هناك أيضاً ما تحصَّله ضربة لازب بالتخمين وقد أشار إلى مثل هذا في إلماحاتٍ ذكية، وهنا لا تملك إلا أن تحمد له المسعى في الحالين فهذا ما يتيحه البحث يقيناً. لكنا نغضب كثيراً عند غمار شكوكه التي لا تعدم مسحات الاحتقار قصداً عند كلامه عن الأنساب العربية، ولكنه يبدو كالواثق في كلامه أوالمترصد! الآن لكم نحتاج لترجماتٍ لكل ماكُتب، ما يتوافق مع رؤيتنا أو يتعارض.. فنحن يقيناً لا نعرف كثير شيء عن تاريخنا.. وما نعرفه ربما يكون غير صادق ولا يرضينا في الطموح إلا أن اليقين شيء غير الطموح ولا يضيرنا كثيراً أن نستقي ذلك من أعجميٍّ دخيل فهو ناقل ولا نحسب أن الكثير مما نقل من رأيٍ هو انطباعٌ خاص.
تبلغ السخرية بماكمايكل في حالاتٍ حداً لئيماً، فقد وجدته عند حديثه عن قبيلةٍ قال إنها نسيت تاريخها وأصلها يقول (لم يكن لديهم نسب ولكنهم كانوا يفكرون في إيجار فكي يخترع لهم نسباً مقابل 60 قرشاً)، ثم كثيراً ما يقول معترضاً على نسبٍ واصفاً له أنه (تلفيق) مع أنه يقول دائماً إنه حقق معهم في إشارةٍ للتوثق، وفي حالات يقول (نسبهم المزعوم). ووجدته يبرر اختلاق نسبٍ لقبيلةٍ تبريراً غامزاً ويبدو مهذباً في حالةٍ موضوعية (لا شك أنه اخترع «النسب» ببساطة باعتباره رمزاً سلفياً ملائماً يهدف لإثبات الوحدة العنصرية للقبيلة)، ومثل هذا التلطف يفعله مع قبائل لا يستطيع أن يخفي تعاطفه معها!! وربما تكون دوافع هذا التعاطف سياسية! ومثلما يندفع حامداً، نراه يندفع ذامَّاً، فقد وصف حاكم كردفان محمد بك الذي خلعه محمد علي بأنه (وغدٌ من أسوأ طراز)، وحيناً يندفع لوصف شخص آخر هكذا (هو رجلٌ **** من النوع الردئ)، وقد يذهب بعيداً بالوصف لغيره كأنْ يقول (القزم النذل الماكر)، وهذا يتم دون سبب يسوقه لنا! ولكنَّا نعلمه علم اليقين! وفي حالةٍ بلغت سخريته بجنود محمد علي في كردفان واصفاً سوء حالهم وأن مرتبهم مخزٍ ومع هذا (كثيراً ما يجب عليهم أن ينتظروا اثني عشر شهراً كاملة، وأن متأخراتهم تسدد حينذاك بالرقيق أو الجمال، وكثيراً ما يحدث في هذه المناسبات أن يستقبل الولد أباه أو أخاه بدلاً عن المرتب). ومع صدق هذا في النهاية إلا أن أسلوب الكتابة يطفح بالاحتقار. وفي حالات أنت لا تستطيع موافقته في كل حديثه.. فهناك اجتهادات كأنه يسدُّ بها فجوات تعترض تسلسل الأحداث، وقد أشار إلى مثل هذا مراراً. هذه المرارات لا سبيل للترجمة لتفاديها، فلا ضرر يصيبها، بل هي إن تحاشت هذا تكون قد أودت بجهود المؤلف وأطاحت برؤيته وأضرَّت بمناهج البحث العلمية وأجحفت. ولكم ارتعشتُ وأنا أقرأ كلاماً مرَّاً يمسُّ قبائلَ لها شوكتها الآن.. حتى نخاع الأخلاقية والعادات. والراجح أننا ليس بمستطاعنا رفض هذا التسلسل الذي كابد المؤلف في تحصله المشاق.. فجمع أنساباً سعى في دأب لتأصيلها، ونحن نعلم أنه لم يصطنع هذا فهو ناقل.. والراجح نقله من أفواه القبيلة مباشرة.. ولكن جهده يبدو واضحاً في التوثيق والتنسيق والتوافق المنطقي بمثل ما وجدنا (يولد بين الفينة والأخرى في الحرازة طفلٌ أصفر الشعر ووردي البشرة من أبوين يعيشان في الجبل... إن الأدلة على أن العنج لهم علاقة بقبائل البربر القديمة توجد في النظريات المقدمة في كتاب أصول البربر).
عندي أن الاشتغال بمثل هذه الأعمال يستحق التقدير.. فقد انحشى بفوائد جمة غنية بالمتعة. فمثلما نقل ماكمايكل كثيراً من عادات القبائل المستشرية بما يشكل مادة فلكلورية زاخرة بالغرابة أريد أن أنقل هنا ما لم أسمع قبلاً (هناك عادة غريبة جداً جديرة بالملاحظة توجد في كاجا وهي عادة غير عربية ولكن لا يمكن أن يقال إلى أيِّ عنصرٍ في السكان يمكن نسبتها بصورة أخص، وهي أنه في وقت درْس الذرة تكون هناك رغبة عامة في هبوبٍ كافية لتذروَ العُصَافة (القشور) من الذرة، ومن المألوف أن تثار الهبوب بالطريقة التالية: أن يأخذ أحد التوأمين ذكراً كان أم أنثى عصاً ينقب بها في أجحار فئران المزرعة إذ من الواضح أن الفكرة هي أن الهبوب المحملة بالرمل تتخذ موطنها داخل هذه الأجحار... وبعد أن يفعل التوأم ذلك يتحرك إلى كوم قمامة القرية ويضرب عليه بعصاً حتى تكون هناك كمية كثيرة من الرماد المسحوق، ومن ثم يقذف بحفناتٍ منه في الهواء في إيماءةٍ إلى الهبوب لكي تأتي وتدور به بعيداً. وهناك خطة ثانية يتبنونها لذات الهدف لإثارة الهبوب وهي أن يؤتى بدجاجةٍ حية وتغطس في الماء ومن ثم تطلق إذ يعتبر احتمالاً أن عمليات الهز الاهتياجي للدجاجة على فكرة تجفيف ريشها يغري الريح بالهبوب). ومع سذاجة هذا الاحتمال إلا أنه مقبول ما دمنا لا نجد غيره مبرراً.
لقد سرَّني ما وجدته من أمر انشغال المؤلف بالتحقيق اللفظي فقد وجدته ينقل (أن أصل اسم «المجانين» الغريب يعزى إلى القصة الآتية: اعتاد أطفال سهل وعلي السمح أن يتشاجروا معاً جرياً على عادة الأطفال. وفي ذات يوم تدخل سليط أو مسهل وفقاً لرواية أخرى وأخذ دور أحد الأطفال ضد طفلٍ آخر ووبخه سهل على التدخل في مشاجرة أطفال على كبر سنه وسماه ب(المجنون)، وقال سليط أو مسهل إنه لا يكترث إن كان (مجنون) فهو سيفعل ما يعجبه، واشتهر منذ ذلك الوقت فصاعداً ب(المجنون) واشتهر أحفاده ب(المجانين).
إن من الإنصاف أن نضيف لفطنة ماكمايكل في الفصل العاشر، الجزء (II) المعاقلة: أن البشارية يعود نسبهم إلى مؤسس القبيلة من خلال امرأة (خضرة) والدتهم، وهي نفسها معقلية من دمٍ مشيخي (قد زُوِّجت للحاج بشاري وهو فكي قدم من الشرق وأن الشيخ الحالي قد انحدر من زواجهما، وربما يمكن لنا أن نرى هنا آثار العرف الأمومي القديم للقبائل الشرقية كالبشاريين والعبابدة، ففكرة ربط كثير من المعاقلة بقبائل شرق السودان ستُعزز عندما نجد بين الفروع كلا البشارية «بشارة» والعبادية). رأيتُ أن هذا «الاستخلاص» لا يخلو بأية حال من الفطنة، والراجح أنه مدفوع لمثل هذا بأن الكثيرين من الذين سمع عنهم ونقل كانوا يتفادون (مواجهة الاستفسارات الأكثر دقة) ما يدفعه للاجتهاد والتخمين!
اجتهد بروفسور بودج في كتابه «تاريخ السودان» زاعماً (أن بقارة كردفان هم بلا شك أحفاد الهكسوس المرعبين الموجودة آثارهم على النقوش المصرية)، وهذا ما يرفضه تماماً ماكمايكل الذي يرى (أن من الصعب أن تؤخذ هذه المقولة بأي معنىً سوى المعنى الاستعاري المبالغ فيه، وربما يكون الهكسوس قد عاشوا تقريباً في ذات المنطقة التي يعيش فيها البقارة الآن وربما ربَّوا الماشية لذات السبب لكون الظروف مناسبة للغاية، ولكن من الصعب أن تقوم هذه الحقيقة إضافة إلى الوحشية المألوفة لدى الشعبين دليلاً وأساساً على افتراض السلالة المشتركة). ثم يسند رأيه بأن البقارة (على الأقل عرب في الغالب الأعم بيد أن الهكسوس لم يكونوا افتراضاً كذلك). وفي ما يشبه الطرفة يفطن ماكمايكل إلى أن الحُمُر الذين يذهب القول إنهم منحدرون من الأسود العنسي مدعي النبوة ذي الخمار الكذاب، فيرفعن هذه النسبة مرجحاً أن الذي دفع إليها هو هذه البغضاء الزاخرة التي يضمرها أعداؤهم لهم وذلك لما كان الحُمُر (دراويش متعصبين تعصباً صريحاً خلال حكم الخليفة كله)، فقد بدا لي أن مثل هذا الإنصاف كان من الراجح ألا يصدر عن مثل ماكمايكل في قسوته العارمة تجاه المهدية.
لاحظتُ كثيراً في طيات الكتاب الاهتمام بجغرافية الأرض وطبيعتها، وهذا بداهةً مقبول لارتباط الناس بالأرض والماء وارتباط ذلك بالحياة، وفي ذات مرة يندفع في منحىً علميٍّ بحت لتحليل ظواهر نضوب الماء ما يدفع للهجرة (إن التغييرات التي تحدث في إمداد المياه الجوفية في شمال كردفان لهي تغييراتٌ ملحوظة، فالاتجاه العام يتعلق بنقصان في الإمداد المائي في أماكن الري القديمة، وفي ذات الوقت يتم اكتشاف مواقع جديدة من حينٍ لآخر (كما في الجبيلات مثلاً). هذه الظاهرة الحادثة على نطاق كردفان يلاحظها إسكيارك دولوتور في كتابه (الصحراء والسودان) حيث أقنعته الشهادة المجمع عليها من الناس أنه (من الضروري في أماكن كثيرة في الأعوام الأخيرة أن تحفر ثلاث مرات أو أربع مرات حفراً عميقاً للحصول على الماء كما كان عليه الحال في الأجيال السابقة، والآن مضت خمسون عاماً منذ أن كتب إسكيارك وبعد ذلك ما تزال الظاهرة ملحوظة. فمثلاً أن الحقيقة المعترف بها هي أن مستوى الماء في شرشار أدنى كثيراً مما كان عليه في وقتٍ متأخر جداً كما في أيام المهدي. يقول دولوتور: على أية حال أراني افترض أن هذه التغيرات في المستوى والطبيعة تعزى إلى فعل التيارات التحتية العنيفة التي تتحرك على انحدارات حادة وتعمل على تغيير الطبقات التي تمر بها كما تعمل في كل لحظة على تمهيد المسارات الجديدة خاصة الترسبات المحلية التي تبدي مقاومة قليلة أمام فعلها القوي).
الآن أريد أن أقف عند معتقدٍ خرافي نقله لنا، وهذا من ضروب الفلكور الذي يزخر به الكتاب ما يدفع لأن يفرد له عملٌ خاصٌّ، فقد قال: (تسود خرافة الآن فحواها أن الأدوات الحديدية إذا تُركت ملقاة على الأرض فإنها ستجذب ريح الشمال القوية وأن الرمل سيغمر الذرة، ونتيجة لذلك فقد تم جمعها بصورة جادة وقام «الفُكَيا» بالشكليات المطلوبة بإخفائها داخل الشقوق العميقة في الصخور، وقد اكتشفتُ أنا هنا كثيراً منها مغطىً بالحجارة). ثم نقل من عادات الزغاوة في دفن القتلى أن (جثمان الشخص القتيل يوضع رأسه إلى الشرق وقدماه إلى الغرب) ولم يستنبط مبرراً لذلك.
ونقل عنهم أن «الهوجي» الذين من شأنهم إنزال المطر يستخدمون قراءة القرآن والتفل مراراً على المسبحة، وينقل أنهم محبوبون ومحترمون، وفي موضع آخر يشير أن «الهوجون» عند أعالي النيجر هو منزِّل المطر أو الساحر إشارة إلى منبع الطقوسية. وأنا أمتع بقراءة هذه الترجمة في لغتها المتعالية كانت تبهرني دائماً إشارات مبثوثة فطن لها المؤلف بحيث جعلتني أقف مراراً متأملاً مثلاً كلامه عن جبل ميدوب مشيراً للكبابيش من ناحية الشرق والزغاوة من الشمال وبرتي من الغرب والجنوب ثم يقول (في الغالب الأعم هناك اسمٌ عربي واسمٌ محلي لهذا الجبل وأماكنه المائية المختلفة، فمثلاً الاسم المحلي لجبل ميدوب نفسه هو «تيدي» والميدوبي «تيدي»، ويعرف المكان المائي بالنسبة للعرب باسم السِّريف (الزِّريف: على الخرائط الفرنسية) ويعرف باسم «كوندول» بالنسبة للميدوبيين). لقد بدا لي أن الإشارة للاسم المحلي «تيدي» للجبل تخص غير العرب (زغاوة وبرتي) بينما اسم «كوندول» كما توحي العبارة يخصُّ العرب، ولكن هناك ما يوحي أيضاً أن الاسم يخص غير العرب. إن اسم ميدوب يبدو مكيناً في لغته الأصل الدنقلاوية والمحسية، هذا كما تريد فطنة المؤلف الذهاب إليه. لا شك أن عمق معرفة ماكمايكل اللغوية هو الذي جعله يذهب مصوِّباً ما في الخرائط الفرنسية «الزِّريف» = السِّريف»، مع ما في الزِّريف من معنى «ذرف» بالذال، والراجح أن الخرائط مثلما جعلت (السين = زاي) هي أيضاً جعلت (الذال = زاي) لتحول بيننا وما يتاح تحصله من معنى الانصباب والسيلان في «ذرف» وفي «سرف» التي تجد معناها في عاميتنا بمعنى الامتلاء والإتراع والزيادة وهو معنى الإسراف الفصيح.
كان ماكمايكل أميناً عندما اعترف أنه ليس بمقدوره أن يقدم تقريراً وافياً عن زغاوة دارفور وذلك أنه يستسقي معلوماته الوحيدة من (الشباب الذين يأتون إلى كردفان للعمل مقابل الأجرة، كما لم أجد الفرصة لمقابلة الناس في بلدهم).. كان يمكنه أن يغض الطرف.. ولا يذكر هذا. لفت انتباهي عند الكلام عن دار حامد أن ابن حامد (محمد مرمار أو مريمر سُمي نسبة للشخشخة ذات الخرير التي كان يصدرها وهو طفلُ يحبو على الأرض)، هذا مع إشارته أن من المرجح أنه اسمٌ خرافي لتفسير اسم القبيلة. لقد وجدتُ صلة لغوية مألوفة بين «مرمار» والصوت ولكنها راجحاً صوت الحركة لصلة الدعك أو المرور على الأرض، وما يقرب أن المراد صوت الحركة.. شخشخة: صوت السلاح مثلما خشخشة لصوت الحُلي والكشيش لصوت الغليان، هذا يذهب لتأكيد الاسم، فالوصف (ذات الخرير) للصوت (حركة الماء). وكان من فطنة ماكمايكل الإشارة لما ذكره (وارن) و(بالمي) من الخلط بين (الهبابين) من قبائل كردفان التي ارتحلت إلى دارفور مع المعاليا والمجانين تفادياً للقمع التركي وقبيلة (الهبانية) إحدى قبائل البقارة التي لم تكن لهم بهم علاقة. ومما أفادني جديداً في عاميتنا أن مصطلح (عهدة) يقارب معنى (مسؤول) أو زعيم وذلك في كلامه عن (النواهية) فرع دار حامد: (كان عهدتهم الرسمية في نهاية التركية هو سعد أبوسيل)، وأنا لم أجد إشارة لهذا المعنى في غير هذا المكان.
إن إحسان ماكمايكل للعربية هو ما جعله يفطن لروح الاشتقاق الذي يدفع لترجيح سلطان الحيوان في حياة أولئك الذين يعتنون به (إن تسمية واحدة أو اثنتين من القبائل العربية ربما يرد ذكرها باعتبارها أدلة تكميلية اشتقاقاً للكبابيش من «كبش» إذا دعت الحاجة لذلك، فمثلاً يبدو اسم معاذ مشتقاً بطريقةٍ مماثلة من معَّاز «ماعز». ولكن مع هذا الإحسان للعربية والإتقان الذي ذكرناه إلا أن الراجح أن ماكمايكل قد وقع في خطأٍ جسيم بجعله اسم «معاذ» بالذال من اسم «ماعز» بالزاي، فقد فاته أن المعاذ في اللغة: الملجأ، أعوذ بالله: ألجأ إليه، معاذ الله: أعوذ به. ثم في منحىً آخر نراه يلفت الانتباه إلى اللاحقة «آب» التي تلازم أسماء القبائل كثيراً وهي بجاوية الأصل (ربما يلاحظ هنا أن اللاحقة «آب» التي تستخدم للإشارة إلى اسم الأب أو الأسرة لا تستخدم هكذا بين أيٍّ من قبائل كردفان التي لم تأتِ من جهة الشمال الشرقي، فهي غير معروفة مثلاً وسط البقارة الأصليين). ولكن بمراجعة القوائم تجد الكثير منها والذي لم يأت من الشمال لكن هذا لا يحرمنا الرجوع إلى المعابر الأولى ناحية الشرق. لقد رأيتُ أن هذا يدفع لاستحضار دائرة الكواهلة الذين يزعمون أن البشاريين والعبابدة من مجموعتهم ونعلم أن هناك إشاراتٍ لاختلاطهم بالبجا ومعرفتهم للسانهم. إن اعتناء ماكمايكل بالأرومة العربية في بعض القبائل أشد ما يبدو عند كلامه عن الكبابيش، لقد تحاشى تماماً المساس بهم إلا في القليل، وأنت تدهش بقدر الاعتبار الذي أفرده لهم، ثم حديثه عنهم بإسهاب يبلغ حدَّ الحيرة والالتذاذ! هذا يتيح أن قولنا ربما يجد تبريراً بمواقف القبيلة التي ناصبت المهدية العداء، بل ذهبت موالية للحكومة، ومع أنه يبدو ساخطاً على أصحاب البشرة السوداء فيذمّهم دون حرج إلا أنه عند كلامه عن الناظر علي التوم يتلطف (يبلغ علي التوم من العمر الآن 37 عاماً، أي في هذا العام 1911م، وهو ذو بشرةٍ داكنة وذو ملامح عربية وهو طرازٌ رفيع للعربي المستنير كريم الأرومة ويجلُّه شعبه بأعظم إجلال من المهابة). هذا الرأي يبدو صائباً راجحاً مع بُني عليه من رأيٍ مجحف في حالاتٍ سابقة سالبة!! لقد كان مثل هذا يدفعني لتصنيف حالاتٍ في الكتاب أنها لا تخلو من الأثر الانطباعي مع حشود الصرامة التي تطبَّق عليه في الغالب، فأنت في حالة تجده لا يبعد عن الغرض والتخطيط مثل كلامه عن العبابدة والبشاريين: (استخدمت كلمة عبادي أيضاً لتشير إلى عرب مسيحيين وأن «بشارة» تعني الإنجيل أو عيد البشارة، ولا أدري ما إذا كان هذا مجرد مصادفة ولكنه شيءٌ غريب عندما يتذكر المرء أنه كانت هناك مملكة مسيحية في دنقلا حتى حوالى القرن الرابع عشر). ومثل هذه الفرضية تُهشم بوجود جماعة من اشتقاقات «بُشرى» سائرة في اللسان العربي وفي أسمائهم. ولكم تبدو بعض اجتهاداته فطيرة ومجهدة لا تجد سنداً يُعوَّل عليه مثلما وجدناه عند كلامه عن الشنابلة ينقل (إن بيركهاردت في 1810م اكتشف بعض «السهانبيل» جنوب شرق دمشق وهم يتبعون جزئياً إلى الدروز وكانوا نهابة سيِّئي السمعة وظلوا في هذا الحال منذ عهد هيرودس ابن انتيبار، وطالما أن هناك شنابلة يعيشون في الوقت الحالي شرق وادي النيل في مصر فهناك افتراض مقبول لعلاقةٍ ما بين شنابلة كردفان والقبائل المذكورة آنفاً). ربما الذي دفعه لهذا الافتراض مسلك التقارب اللفظي (شنابلة = سهانبيل) ثم تقارب الأمكنة (شرق وادي النيل = جنوب شرق دمشق) لكن يقيناً هذا لا يتيح قوياً قبول مثل هذا الافتراض الذي اندفع إليه ماكمايكل في حذرٍ يشوبه الخجل!
من الإنصاف ألا نغمط مثل اجتهاداته هذه، وقد وجدناه ينقل عن ويلكنسون (إن اسم هواري يعني بالضبط «فارس» وهو يستخدم لسائس الخيول المحلي في مصر)، وهو قولٌ لا يتوافق مع رؤية ماكمايكل ويراه قلباً للحقائق (فشهرة الهواري هي التي جعلت لقب الهواري يطلق على سائس الخيل الماهر).. هذا منطقٌ مقبول، وهو يذكِّرنا بما نسمع من أن أصل اسم «الحرامي» يعود لقبيلة بهذا الاسم اشتهرت بالسرقة فصار بعدُ كلٌّ فردٍ منها «بني حرام» سارقاً = حرامياً!! وفي حالاتٍ يستهويه «الحكي» فيندفع ناقلاً مثلما نقل ما تواتر من قصص أبي زيد الهلالي، ومع ما نجد من دوائر الاتفاق في بعضها إلا أن بعضها أضرابٌ من نسج الخيال أو أن الخيال فيها بُني على الأصل فتمدد واستطال. بعد كل هذا يدفعني الافتراض أن تشكك ماكمايكل في كثيرٍ من الأنساب العربية كان مقصداً يريد به أن يفصم عرى العصبية التي ألمح أن اختلاق الأنساب يساعد في جمعها، ثم أن يباعد بين بنيها ما يساعد في تشتيت الوئام وتفكيكه وخلق العزلة القبلية وغرس الضغائن المريرة.
هذه وقفاتٌ رأيتُ تدوينها وأنا ارتع أو (اكرع) من حوض المتعة الباذخة التي أعطانيها فيض الإتقان في الكتابة والترجمة سواء. لقد أسدى الأستاذ الصديق سيف الدين عبد الحميد جميلاً طائلاً وصنيعاً لا يضيع للثقافة العربية السودانية بعمله هذا، والمأمول ألا يقف العطاء.. فمثل اقتداره هذا الفارع نحتاجه كثيراً، فهناك دائماً ما يحتاج لمراسه ودربته ودرايته اللغوية. لقد أمتعني يقيناً ما طالعته.. وأسعدني حدَّ البذخ أن أشرَّف بفضل تقديمه للقارئ الكريم.. قشيباً مهيباً.. أرجو أن ينال الرضى.. فهو حريٌّ بالتقدير والتوقير. والحمد لله الذي تتم به الصالحات.
9 يوليو، 2011م
أ.د عمر شاع الدين
جامعة إفريقيا العالمية كلية الآداب
الصحافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.