هل يمكن تصور وحدة فكر وشعور وسلوك لمجتمع ما بعيداً عن آليات الانصهار الطبيعي لمكوناته أو بمعزل عن صفاته وخصاله ودوافعه الإجتماعية المشتركة التي تمثل خطوطه الثقافية والأخلاقية المتشابهة ؟ والإجابة على هذا السؤال تتفق فيه رؤى سياسية وفكرية ترى أن تعزيز قيم الوحدة في مجتمع ما لا تنشأ إلا من خلال تضافر الإرادة الحية واجتماعها حول أسس ومقومات أخلاقية وثقافية وسياسية ثابتة تحمي هيكله التنظيمي وتقوي دعائمه الذاتية والموضوعية، لذلك يرى مراقبون ومثقفون أن من سمات الحراك الجاد التماسك، ومن سمات التفكير الحر التوافق ومن سمات العيش الكريم تطبيقه قواعد الشراكة والتعايش المستمر، لأن الفشل في إدارة عملية الانتقال للديمقراطية التعددية سيسفر عن أشكال متعددة للنزاع المسلح في أفضل الأحوال وانهيار الدولة السودانية في أسوأ الأحوال، وهذا ما دفع به العديدون الذين يرون أن هذه النظرة يجب كذلك أن لا تحول انتباهنا عن قنابل موقوتة أخرى وهي احتمالية حدوث النزاع المسلح حول الاستفتاء على تقرير المصير واستفتاء أبيي أو حول المشاورات الشعبية لتحديد رؤى سكان منطقتي جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان لاتفاقية السلام الشامل. يقول الأستاذ الطيب آدم المحلل السياسي أن المؤتمر الوطني سيدير دفة العمل بطريقة اعتيادية مع شريك الحكم وسيشرع في إقامة تحالفاته التي هي معلنة حتى من قبل عملية فرز الأصوات. ويرى آدم أن الحكومة الجديدة ستتصدى لأي انفلاتات قد تستهدف الأجانب ( كما حدث لموظفي السفارة السعودية) والمنظمات أو الحكومة نفسها وخاصة في حالة تصعيد الحركات المسلحة للنزاع في دارفور حتى وإن تطلب ذلك إعلان حالة الطوارئ، وهي خطوة قد تجد معارضة من كل القوى السياسية بما فيها الحركة الشعبية على أساس أنها تنتهك اتفاقية السلام الشامل و الدستور الانتقالي، وفي ضوء الضغوط السياسية المتوقعة والتهديدات ستكون إحدى مظاهر هذا السيناريو أن تتنامى المعارضة الداخلية (بما فيها ردود فعل عنيفة من قبل الحركات المسلحة في دارفور) مع احتمال حدوث انشقاق داخلي وظهور صراع داخلي في المؤتمر الوطني مما قد يدفع بتطور الوضع كله في اتجاه جديد يقود بدوره إلى سيناريوهات مفتوحة ومتعددة الأشكال في مسار إعادة تشكيل الدولة السودانية والقوانين المقيدة لحرية التعبير والتنظيم بالنسبة للأفراد والمؤسسات والأحزاب السياسية والإعلام والمتنافية مع الدستور الانتقالي واتفاقية السلام الشامل مما يشكل عقبة هامة في طريق الانتقال نحو التعددية السياسية، ويقول آدم إن هذه القوانين تشمل قانون الأمن الوطني، قانون الصحافة والمطبوعات، والقانون الجنائي فضلاًً عن تشكيل مفوضية حقوق الإنسان إضافة إلى قانون الاستفتاء الذي تلوح به الحركة الشعبية ككرت ضغط بين حين وآخر. ويخلص محدثي إلى أن إلغاء هذه القوانين واستبدالها بأخرى متماشية ومتسقة مع اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي هو شرط ضروري وتسوية الملعب للأحزاب السياسية المتنافسة. ويضيف آدم أن قائمة الأفعال التي يقوم بها المؤتمر الوطني كجزء من حكومة الوحدة الوطنية تنتهك الدستور الانتقالي خصوصاً قانون الحقوق، وتشمل الاعتقال التعسفي للمعارضين السياسيين إضافة الى أسلوب تطبيق القانون. بينما يرى عدد من المراقبين السياسيين أن من أكبر العقبات التي ستواجه الحكومة في سياق عملية التحول الديمقراطي قضية دارفور التي يرى فيها الكثيرون عقبة كؤوداً في ظل التعقيدات الجديدة الحادثة للعملية في مجملها والتي تجعل من الصعوبة إيجاد أفق لأزمة الإقليم في الوقت الراهن، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ بول دينق أنيار العضو الناشط بالحركة الشعبية لتحرير السودان إن النزاع في دارفور استعصى على الحل ولم يحالف النجاح كل المبادرات المطروحة من الداخل أو الخارج في جلب الأطراف المتنازعة إلى طاولة المفاوضات ناهيك عن الوصول لتسوية سياسية سلمية، ذلك بينما يصر العديد من قادة المؤتمر الوطني بقوة على تجاهل كامل للعواقب الوخيمة المترتبة كما حذرت أغلب أحزاب المعارضة من عقد الانتخابات قبل حل مشكلة دارفور، وقطعت الحركات المسلحة في دارفور بأنها لن تقبل استثناءها من الانتخابات خاصة وهم يعتبرون أنفسهم حركات قومية تطمح لخوض المعركة السياسية في أي جزء من البلاد. ويرى بول أنيار أن استصحاب تجارب الماضي يظهر أن الانتخابات الجزئية لطالما اعتبرت غير شرعية ولم تجد نتائجها الاعتراف أو الرضا من قبل الحركة الشعبية. ويضيف أنيار قائلاً: المؤتمر الوطني مسؤول عن كل الأحداث المتوقعة خاصة إذا انفصل الجنوب، مشيرًا إلى مسؤوليتهم التاريخية، الأمر أيضاً يحتاج للتعرف على الثقافة السياسية السائدة ما بين استبداد وخوف وتهديد السلطة وخضوع جماهيري لها يجعل من عملية التحول الديمقراطي أمراً بالغ الصعوبة لأن النظام الحاكم في الخرطوم لا يريد ديمقراطية حقيقية وهو أيضاً لا يستمر إلا بالاستبداد، ويخلص أنيار الى أن هناك ثقافات للشعب السوداني تميزه عن بقية شعوب العالم مما يترتب عليه أن تسود قيم العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وبمراحلها العديدة قبل سيادة النظم الديمقراطية ذاق خلالها الشعب السوداني مرارة الديكتاتورية التي تخللت مراحل حروب عديدة فتحت بعدها وعي الشعوب على أهمية الدولة القومية وتوسعت مفاهيم الحرية الفردية وسيادة العقل الإنساني، إضافة الى ما ذهب إليه أنيار ما زال بعض المراقبين السياسيين والمشتغلين بالسياسة والرأي يرون أن اتفاقية نيفاشا نفسها جزء من المشكل الوطني الراهن نسبة لأن اختلالاتها التي صاحبتها سيطرت عليها في نهاية المطاف ومن تلك الاختلالات التي يتفق عليها المراقبون السياسيون أن الاتفاقية لم تستجب للمطالب المتعددة للمناطق المتعددة كونها اتفاقية ثنائية. وفي هذا السياق يقول الأستاذ مصطفى يوسف أستاذ العلوم السياسية إن كل القوى السياسية تتفق رغم ما أبدته بعضها من تحفظات على الطبيعة الثنائية لاتفاقية السلام الشامل، غير أن هذه القوى كانت تظن أن التطبيق الأمين للاتفاق والالتزام بالاتفاقيات الأخرى من جانب المؤتمر الوطني بل وكذلك الحركة الشعبية وتسوية النزاع سلمياً في دارفور يشكل خارطة الطريق للانتقال للديمقراطية التعددية والوحدة الطوعية أو الانفصال السلمي عقب الاستفتاء على تقرير المصير. وبالرغم من أن القانون قد تمت إجازته بواسطة المجلس الوطني كما تم تشكيل مفوضية الاستفتاء ولو على غير ما تشتهي أحزاب المعارضة فإن طريق التحول الديمقراطي لا يزال محفوفًا بمجموعة من الألغام التي ستكون محصلتها النهائية أشكالاً متعددة من النزاع العنيف. هذه التحديات الجسيمة التي ستخلقها هذه النزاعات من شأنها تثبيط همة كل من يهمه أمر البلاد. إن علو صوت العولمة بتجلياتها السياسية والتي تتمثل في الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان قد مثلت ضغوطاً نحو الاتجاه في طريق تنفيذ الاتفاق إلى جانب ضرورة التحول الديمقراطي، وقد صاحب تلك الضغوط ورافقها نمو مؤسسات المجتمع المدني التي أصبحت في العقود الأخيرة فاعلة أساسية من فواعل الأنظمة ومعنى ذلك أنه منذ سنوات انضمت مطالب الداخل مع ضغوط خارجية لكي تدفع الدول الشمولية والسلطوية في طريق الديمقراطية، غير أن ذلك لا يعني أن يتم هذا التحول بعيدًا عن مصالح الدول الكبرى والتي تنظر الى التحول الديمقراطي وضرورته بمنظارها هي وبحسب مصالحها. تقرير: ملوك ميوت صحيفة الحقيقة طيف التقسيم يخيّم على السودان الشمس كانت في كبد السماء، على ما يقول العرب. والحرارة تفوق 45 درجة مئوية. وقطعان من الأبقار الداكنة اللون ترعى في مجرى نهر كبير جاف. ولجأ الرعاة الى خيمة بيضاء نُصبت على أربعة أغصان. واقترب حميد، أحد الرعاة الرحل، من ضابط من قوة الأممالمتحدة، وقال: «قريباً تجف المياه الشحيحة في المنطقة. والجيش الجنوبي يمنعنا من الوصول الى ضفة النهر. ونطلب أن يأذنوا لنا بالاقتراب من النهر. ولكننا لم نلقَ جواباً الى الآن». وفي انتظار الرد، يخيّم التوتر على المنطقة. وعمد رعاة قبيلة الميسيرية، العربية البدوية، الى حفر آبار صغيرة يستخرجون منها مياهاً عكرة يحفظونها في بركة أنشأوها في مجرى النهر الجاف. وعلى بُعد كيلومترات قليلة، تتدفق مياه صافية ووفيرة هي مياه بحر العرب، بحسب تسمية قبيلة الميسيرية، ونهر كير، بحسب رعاة قبيلة دينكا المحلية. وترحل قبيلة الميسيرية من سهل كردوفان الى منطقة أبيي في موسم الجفاف. وتعود وقطعانها الكبيرة أدراجها في موسم الأمطار. وتخشى القبيلة أن يُحال بينها وبين مياه النهر، وأن تضطر الى تغيير سنة تعود الى مئات الأعوام، وأن تقضي قطعانها جراء الجفاف. وقد ينتهي الاستفتاء على استقلال جنوب السودان، في كانون الثاني (يناير) 2011، الى إعلان انفصال الجنوب (جنوب السودان)، ونشوء حدود برية في أراض مترامية الأطراف. و «لم نسمع يوماً بهذا الاستفتاء، وتربطنا علاقات عمرها مئات الأعوام بقبيلة الدينكا. ولا حدود تفصلنا عنها. وإذا ارتفعت حدود نفقت القطعان، وتحولنا متسولين»، يقول أحد مشايخ قبيلة الميسيرية. ولكن بعض ما يقوله الشيخ غير دقيق. فالعلاقات بين القبيلتين يحكمها النزاع منذ مئات الأعوام. وتعاظم النزاع بينهما في الحرب الأهلية، حين خطف العرب الرحل نحو 8 آلاف امرأة وطفل، على قول زعيم قبيلة الدينكا. ولكن السلام الطارئ على المنطقة قد يبعث الاضطراب في نظام العلاقات المستقر، على رغم شوائبه. ففي 2005، اضطرت حكومة الخرطوم الى إبرام اتفاق سلام مع ميليشيا الجنوب وواجهتها السياسية، ال «حركة الشعبية لتحرير السودان». والانتخابات الأخيرة، كرّست انقسام السودان قسمين. فرجحت كفة «الحركة الشعبية لتحرير السودان» في الجنوب، وكفة حزب الرئيس السوداني عمر البشير، «حزب المؤتمر الوطني»، في الشمال. ولعل الانتخابات صارت من الماضي. فعيون السودانيين، اليوم، شاخصة الى استفتاء 2011. ويبدو وكأن نتيجة الاستفتاء محسومة سلفاً. فالأحوال تغيرت، منذ مقتل جون قرنق غارانغ، الزعيم السوداني الجنوبي في حادثة سقوط مروحيته، اثر توقيع اتفاق سلام. ولكن قرنق، على خلاف خلفائه الذين يرغبون في الانفصال وبفك قبضة العرب، اتحادياً يؤيد وحدة السودان. ولا ينظر المجتمع الدولي بعين الرضى الى مغامرة الانفصال المحفوفة بالمخاطر. واثر انتخابه أخيراً، جدد الرئيس عمر البشير التزامه الاستفتاء. ولكن هل تُكتب الحياة لمشروع الانفصال، في وقت يختلف الشماليون والجنوبيون على الحدود الفاصلة بينهما؟ فمصير الولايات السودانية الثلاث النيل الأزرق وجنوب كردوفان والوحدة، وهي واقعة على حدود العالم الأفريقي والعربي، غامض وملتبس. والولايات هذه غنية بالنفط الذي باشرت «الشركة الوطنية الصينية» استخراجه. وفي كانون الثاني (يناير) المقبل، يُبت مصير الولايات هذه. فإما أن تختار الالتحاق بالشمال، أو الحكم الذاتي. وحددت محكمة العدل الدولية حدود أبيي الغنية بالنفط، وأقرت تنظيم استفتاء فيها على مصيرها في وقت واحد مع الجنوب. ولكن من يقترع في الاستفتاء؟ فبحسب قرار محكمة لاهاي، يُستفتى سكان ابيي من قبيلة الدينكا وغيرها من السودانيين. وترى سلطة الخرطوم أن قبيلة الميسيرية الكبيرة التي تنزل أبيي نحو 6 أشهر يحق لها الاقتراع. وإذا صوتت القبيلة هذه رجحت كفة الشمال في الاستفتاء. و «على رغم أن علاقات حسنة تربطنا بالميسيرية، لن نقبل بأن يقترعوا في أبيي وكأنهم من شعبها. فمثل هذا الاقتراع قد يبعث الحرب»، على ما يقول كيول دينغ، زعيم قبيلة الدينكا. ويتحدر الزعيم هذا من أسرة عريقة ومعولمة، وقبيلة نافذة. وشقيقه فرنسيس هو مستشار أمين عام الأممالمتحدة الخاص في شؤون تفادي أعمال الإبادة. وأبيي هي مدينة أكواخ، ودُمرت قبل عامين في هجوم هجرت أهلها. والمهاجمون من قبيلة الدينكا يوالون حكومة الشمال. والهجوم، وهو شن على رغم التزام عملية السلام، مرآة تمسك الخرطوم بأبيي، ورفضها خروج المنطقة من سيطرتها. وينظر زعيم الدينكا بعين القلق الى بروز مجموعات مسلحة في أوساط الشباب الميسيريين، والى تشجيع الحكومة، وتحريضهما على حمل السلاح، والتمرد على الجيل الأكبر سناً وزعماء القبيلة التقليديين. وينفي نائب محافظ ابيي ما يسوقه دينغ. ولكن الكلام على ظهور ميليشيات مسلحة في قبيلة الميسيرية يتناقله كثر في أوساط أخرى. واحتمال انفجار النزاع غير مستبعد، شأن احتمال تفشيه في المناطق المجاورة وربما السودان كله. ولا يخفى على أحد أن قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» مرابطة على تخوم أبيي استعداداً للدفاع عن الدينكا. ويقلق المجتمع الدولي احتمال إعلان الجنوب استقلاله من طرف واحد، إذا أُرجئ موعد الاستفتاء. وعلى خلاف حسبان بعضهم، ليس النزاع في ابيي نزاعاً بين مسلمين ومسيحيين. فزعيم قبيلة الدينكا مسلم، شأن عدد من أشقائه. وقبيلة الدينكا مختلطة، تجمع مسيحيين ومسلمين. ومدار الحرب، إذا نشبت، هو على الأرض والنفط والماشية. * مراسل، عن «لو فيغارو» الفرنسية، 18/5/2010، إعداد منال نحاس