أكتب هذه السطور ومغناج موسيقى البوب الشقراء، مادونا، تدشن بعد اعتلاء منصة عرضها في تل أبيب (تل الربيع) جولتها الموسيقية العالمية. الحرباء، أحد ألقاب المغنية الإيطالية الأصل، إستطاعت التلون وإعادة إنتاج نفسها على مدار عقود، محققة واحدة من أطول تجارب موسيقى البوب استدامة من حيث قدرتها على البقاء في مقدمة خيارات وأحاسيس وذهنية المتلقي على مستوى العالم. مادونا التي وقفت في ليلة الخامس والعشرين من أيار/مايو حيث لا يستطيع أن يقف ملايين الفلسطينيين من اللاجئين والمبعدين والمغرّبين، لا تشعر بالحرج على الإطلاق في أن تكون في دولة الاحتلال والاضطهاد والتفرقة العنصرية، بل على العكس، اختيار اسرائيل كان أمراً قصدياً ويشمل مجموعة من البرامج للترويج لدولة اسرائيل كعنوان للانفتاح والتنوع الثقافي والحداثة ومركز للإبداع في الشرق الأوسط (المصطلح البديل للعالم العربي). تحمس مادونا لدولة إسرائيل ليس أمراً طارئاً أو اعتباطياً، إذ أن ممارستها لطقوس الكبالا، إحدى طرق التصوف اليهودية على ما يبدو لن يتوقف عند الحد الروحي. أن تجد خلاصها الروحي في معتقدات الكبالا فهذا شأنها. أن ترتبط ممارساتها الدينية بارتباطها بدولة تطالب علانية باتخاذ الصفة الدينية، أمر يخصها رغم علامات الاستفهام التي يثيرها هذا الموقف من قبل مغنية بوب تتسم تجربتها بكسر رتابة التقاليد والمسلمات. أن تقرر أن تستهل جولتها الغنائية العالمية من تل أبيب كتعبير عن ارتباطها بالدولة التي تتقاطع مع معتقداتها الدينية، هذا خيارها، خيار يتنكر لحملة مقاطعة اسرائيل ثقافياً ولحق الشعب الفلسطيني في الوجود والعودة إلى أرضه. أما أن تكون محطتها الغنائية بعد تل أبيب هي أبوظبي فهذا شأننا كمثقفين عرب وبامتياز، وسنعود لحيثياته لاحقاً. مادونا ليست الأولى التي تكسر حاجز المقاطعة الثقافية لاسرائيل، فقائمة الفنانين والمثقفين تطول، بول مكارتني مغني فريق البيتلز السابق أصر على تقديم حفله في تل أبيب في عام 2008 رغم نداءات عدة. ألتون جون، أو وفقاً للتقاليد الملكية البريطانية (التي لا أقدرها) سير ألتون جون، إستمر على موقفه المخزي الذي بدأه في جنوب افريقيا ابان فترة العنصرية، مؤدياً حفلاً موسيقياً في صن سيتي في جنوب افريقيا عام 1983 والعنصرية البيضاء المقيتة في أوجها، ورغم حملات المقاطعة من قبل الموسيقيين الغربيين، وكذلك فعل في اسرائيل في حزيران من عام 2010. بوب ديلن، عراب الأغنية السياسية والحراك الاحتجاجي الأمريكي في حقبة الستينات قدم حفلاً الصيف الماضي في اسرائيل، ليواصل مناقضة تجربته في الموسيقى التحررية، وينسجم مع مغناته الركيكة التي أطلقها بعيد اجتياح اسرائيل الدموي لبيروت في عام 1982 وتدبيرها ودورها في مجازر صبرا وشاتيلا، حيث كتب المغني والشاعر ديلن مغناة يدافع فيها عن ذاك الفتى اليهودي الذي حول الصحراء إلى جنة فيما يحاول العالم كله النيل منه. قائمة المهرولين إلى اسرائيل لكسر حاجز المقاطعة الثقافية يقابلها فنانون ذات قامات مهمة وعرفوا دوماً بمواقفهم الإنسانية والسياسية الواضحة التي لا لبس فيها، المغني البريطاني ألفيس كاستيلو كان واضحاً في رسالة بيّن فيها سبب إلغاء حفله في اسرائيل ومآثرته 'الصمت الموسيقي'، فيما عضو فريق بينك فلويد السابق روجر وترز كان أكثر انخراطاً بهذا الشأن، فقدم أغنية ضد حصار غزة We Shall Overcome وكتب في الغارديان البريطانية موضحاً موقفه من المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل، متماهياً مع حراك المقاطعة المعروف ب BDS. قبل الخوض في معنى أن تكون محطة مادونا الثانية في إمارة أبوظبي، تحديداً في جزيرة ياس ليل الثالث من حزيران/يونيو، لا بد من إبداء رأي نقدي بتجربة مادونا. لا جدال على أنها مبدعة، لكن تجربتها الإبداعية كثيراً ما تذكرني بمشهد من فيلم غاليغولا، وهو إنتاج أمريكي إيطالي أخرجه تنتو براس في عام 1979، حيث تستلقي 'إينيا' على خريف العمر محاطة بالغلمان الذين يرفدون استدامة جمالها عبر الإستمناء. الإستمناء الإبداعي الذي تمارسه مادونا أكثر حنكة من ذاك الإستمناء الروماني. استطاعت حرباء موسيقى البوب أن تدير مهنتها الإبداعية عبر رفدها بنخب الإنتاج الموسيقي وإجادتها في أن تكون وسط المبدعين، زوجها السابق المخرج البريطاني جاي ريتشي وصديقها الراقص الجزائري الشاب لعلهما نموذجين رمزيين لوقود الإستمناء الإبداعي الذي تقتات منه مادونا بدهاء. إلى أبوظبي، هناك مستويان للنظر في حفل مادونا. المستوى الأول متعلق بالجمهور، وهنا أقصد المتلقي العادي والمثقف العربي والإماراتي تحديداً. لم يتم رصد أي حراك من قبل جمهور مادونا العربي، الذي سيحج إلى جزيرة ياس، يقيّم أو ينتقد أو يحاول بلورة موقف حيال حفل نجمة البوب المقبل. لعل الترويض السياسي والثقافي الذي مورس على العربي المقيم في الخليج عموماً من عوامل خلو الساحة من أي صوت 'نشاز' لإيقاعات مادونا القادمة. هذا الضمور غير مقبول، خاصة ونحن ما زلنا نعيش في ظلال الثورات العربية وبين أيدينا قنوات اتصال فعالة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ناهيك عن حالة اللامبالاة سواء الناجمة عن قصدية أو بلاهة، التي تفضي بالمحصلة لتهافت آلاف من العرب لشراء بطاقات حفل مادونا الظبوي قبل نفادها. على المستوى الآخر من الجمهور، وهنا نقصد دوائر المثقفين الإماراتيين، سواء أولئك الذين ينتمون لجيل تبلور وعيه على أنشطة المجمع الثقافي في أبوظبي، أو ذاك الجيل المؤمن أنه ينتمي إلى ما بعد الحداثة وأن عاصمة دولته فعلاً منهمكة في صناعة الطائرات، فكلا الجيلين بفكريهما العروبي والليبرالي لا يمكن تفهم صمتهم وعدم اتخاذهما موقفا، سواء مؤيد أو معارض لحفل مادونا. لعل هذا الصمت هو أحد نتاجات تعرض الناشطين الحقوقيين الى سجن ومحاكمات وإقصاء ومن ثم مكرمات! المستوى الآخر وهو الأكثر إشكالية متعلق بصانع الثقافة في إمارة أبوظبي ومستشاريهم. الإصرار على صناعة مدينة ثقافية عالمية منفتحة على الآخر أمر لا جدال فيه، رغم الكثير من أسئلة الاستفهام حول أن المتحف لا يهبط قبل البناء المدني والحضاري. بمعنى أن لوفر أبوظبي وجوجنهايم أبوظبي والمشاريع العملاقة المشابهة، مشاريع اسقاطية لا تأتي مع سياق المحيط والعمق الثقافي لأبوظبي سواء شيراز شرقاً ودمشق والقاهرة غرباً. هذا سؤال جدلي مفتوح طرحته مجموعة من المثقفين العرب المغتربين. ما يهمنا هنا ما هو موقف صانع الثقافة في أبوظبي من استضافة حفل مادونا الداعمة والمؤيدة لاسرائيل في أبوظبي بعد بضعة أيام من حفلها في تل أبيب. إن كان الجواب هو الحيادية وضرورة الإنفتاح على الآخر، فهنا نذكر بمقولة القس إيدموند توتو 'إذا اخترت الحياد في مسألة تتعلق بالظلم، فقد اخترت أن تقف مع الظالم'. نحن على يقين بأن صناع الثقافة في أبوظبي، وليس بالضرورة مستشاريهم، يؤمنون بعدالة القضية الفلسطينية. إن كان الجواب هو عدم إدراك معنى المقاربة بين مكان الحفلين وسياقهما الزمني، فلا بد لصناع الثقافة في أبوظبي التفكير بالعمل في مجال المحاسبة مثلاً وإفساح المجال أمام مثقفين إماراتيين عرفناهم وأحببناهم لأن يكونوا في طليعة صناعة وإعادة تشكيل البنية الثقافية لبلاد قد تكون الضحية الأولى للعنة النفط وماجلبه على منطقتنا.