ترجمة: بانقا الياس : قابلت ليلى قبل سنوات عندما كانت تعيش في ابردين باسكوتلندا. قدمت ليلى ثلاث روايات، فازت روايتها الأولى (المُترجمة) بجائزة كين للأدب الافريقي، وهي تحكي عن قصة امرأة سودانية تعيش في ابردين. وتناولت الثانية (مئذنة) قصة امرأة سودانية تعيش في لندن، أما الأخيرة (زقاق الأغاني) تختلف عن روايتيها السابقتين. أجريت معها هذا الحوار عن روايتها الأخيرة؛ لأنها صادفت قبولاً عميقاً في نفسي. لقد شغفت بهذه الرواية للدرجة التي لم استطع أن أضعها جانباً. شعرت حقاً يا ليلى أنك تحررتِ من قيودك، وفردت أجنحتك وحلقت في سماوات بعيدة. لقد كانت رواية زقاق الأغاني متعة خالصة على عدة مستويات. تمتعت فيها ذاكرة المكان بحيوية وحضور قويين، تأخذك فيها متعة التنقل ما بين الخرطوم وأمدرمان والقاهرة دقائقاً طويلة لتعود إلى ابردين. إنها نوع الرواية التي تجعلك تشتم عبق الأماكن وروائح الطعام ونكهة القهوة بالهيل؛ فتشعرك بالجوع. لكن أكثر الأشياء اشباعاً، المستوى العميق الذي تقدمين لنا به السؤال الأبدي، سواء أكنا في السودان، أو أسكوتلندا، أو اسكندنافيا. اتوقع أن يقدم منظرو ما بعد الكولونيالية في يوم ما بحثاً عن زقاق الأغاني، لأنها تصور بجمال فائق الانتقال من السودان تحت الحكم البريطاني إلى السودان المستقل، «ولكن بثبات وتمهل يصبح اسلامياً» ص 296. تجسد زوجتا محمود بيه بالنسبة إلى ماضي السودان ومستقبله، تمثل وهيبة وهي تعيش في (حوشها)، وتؤمن بالعين الحاسدة والشريرة، السودان التقليدي، بينما تمثل نبيلة بفستانها الذي يماشي الموضة، وشقتها، المستقبل المديني الغربي، الذي يضمه السودان الآن. لقد صورت هاتان الشخصيتان ماضي ومستقبل السودان بصورة كاملة، بتداعياته الحسنة والرديئة، وبسوء التفاهمات على كلتا الجانبين. هل تقصدين أنه يتوجب علينا كقراء أن نختار من بينهن؟ أم تستنتجين بأن كل ثقافة يجب أن تفهم على طريقتها؟ كانت شخصية نبيلة وأنا أبني في الرواية، من أصعب الشخصيات التي يُمكن الكتابة عنها. كان من السهل تقديمها كشخصية غريبة ومتحيزة، ورمزاً للاستعمار، باعتبار أن السودان رزح تحت حكم ثنائي انجليزي/مصري. ومع ذلك، لم أرد إلغاءها لأن صدمتها الحضارية كانت صادقة، ومبررة، فقد كانت تواجه تحدياً صعباً. ولا اعتقد حقيقة بأن هنالك خيار بين وهيبة ونبيلة. خاصة بعد الحادث الذي تعرض له نور؛ كانتا متكافئتين في الاهتمام به. بالرغم من ميل محمود الواضح في بداية الرواية نحو زوجته الصغرى نبيلة. قدمتُ وهيبة كشخصية زائدة، خاصة بعد أن ينفض الضيوف عن محمود بعد شفائه من مرضه. غير أن وهيبة عندما تصدت في نهاية الرواية للتحدي في الاهتمام بنور، وتشجيع تجمعاته الأدبية، أصبحت لا مفر منها. اعتقد بأن الرواية في إحدى مستوياتها كانت حول الطموح الإنساني. كل الشخصيات تتوق إلى حياة أفضل، كما يرونها. واتخذ الجميع قراراً حول ما يضحون به وما يساومون فيه، وتوصلوا إلى حل وسط، واثر قراراهم في الشخصيات الأخرى. مثلاً محمود يقول عن والده وجها لوجه « لقد حبأ على ركبتيه وبكى لكي أكون هذا الرجل الذي امامكم اليوم. كان بتلك الطريقة يتصرف بصورة عملية» ص 190. هل ستقولين أن زقاق الأغاني عن الاستعمار، وصراعات القوى، أم ببساطة عن الصراعات الإنسانية؟ أم أن الانسان أيضاً دائماً سياسي؟ - سأقول إن زقاق الأغاني حول الآمال المحطمة، وحول الإصرار الشخصي لمقاومة الخيبة. بانتمائي إلى جيل ما بعد الاستقلال، كان قدري أن أشب إبان احباطات وتنازلات الاستقلال. شهد جيل والدي، بهجة الاستقلال والأحلام الكبيرة التي سحقتها لاحقاً الاتقلابات والأنظمة العسكرية المختلة الوظائف. بالرغم من أن عمي هو من ألهمني هذه الرواية، وصورت حقبة والدي وسنوات الزهو في مطلع الخمسينيات، عندما كان السودان بلداً غنياً ثم صار بعد عقود قليلة واحداً من أفقر دول العالم. - تختلف هذه الرواية عن رواياتيك السابقتين المترجمة ومئذنة، أولاً لم تُكتب من وجهة نظر شخصية رئيسة واحدة.. لقد قدمت في زقاق الأغاني عالماً متكاملاً بسلسلة من الشخصيات، التي نرى في النص أفكارها ومشاعرها. ثانياً أُعددت الروايتين السابقتين عن نساء مسلمات يعشن في بريطانيا، أما هذه الرواية فقد أعدت في كل من مصر والسودان. هل هناك صلة بين إعداد الرواية واختيار راوٍ ذي معرفة غير محدودة؟. لوالدي أربعة أخوان وخمس أخوات. وله عدد غير محدود من أبناء وبنات الخالات والأعمام. يعيش كل هؤلاء في منازل متجاورة، بإزقة تقود من دار إلى أخرى. ويعيشون حياة مترابطة جداً، يتناولون الوجبات معاً، وينامون على أسرة متجاورة، وأحياناً يزورهم بعض اطراف الأسرة الفقراء من الريف، كضيوف أو خدم منازل. يعمل الرجال معاً، وغالباً ما تتزاوج أسرهم فيما بينها. بناءً على ذلك استوجب عرض هذا الاحتشاد والتزاحم السكاني وجود راوي موسوعي المعرفة لتصوير هذه البانوراما الاجتماعية. كما في قصصك القصيرة ورواياتك السابقة، نجد التعلق بالقيم الروحية والإيمان في لب رواية زقاق الأغاني. ونجد شخصيات بوجهات نظر مختلفة حول الدين، فمثلاً نبيلة «تعتقد بأن التدين والتعبد مرتبطان بالطبقات الريفية الدُنيا» ص283، لكنها تمر أحياناً بفترات نجدها شاكرة لله العظيم بعبادتها شيئاً فوق إرادتها. وفي اليد الأخرى نجد أن بدراً أغرق نفسه في العبادة وهو مثال لشخص يصلي بلا انقطاع، لقد احببت بصورة خاصة تصويرك للحظة التي يشعر فيها بدر «بمتعبدين غير مرئين من حوله بينما هو يصلي في المسجد» ص . 58 هل تقصدين أن نرى إيمانه كمثال خاص للاسلام؟ أم كصورة تودين أن نفهم منها ماذا يعني أن تكون مؤمنا في أي ديانة؟ لقد شعرت بأنك تقصدين بأن الإيمان الحقيقي يفوق أي دين خاص. الأشخاص المتدينون بغض النظر عن دينهم الخاص ينتمون إلى بدر ودواماته. هذه أمور كونية، وهموم إنسانية، كل ما أفعله أنني اقدمها من منظور إسلامي. جاء الاسلام بعد المسيحية، بنفس الطريقة التي جاءت بها المسيحية بعد اليهودية، وهناك كثير من الجوانب المشتركة في تقاليد الأديان الثلاثة، قصة العمل مثلاً موجودة في القرآن، وشخص مثل بدر من غير ريب سيكون أخذ الحكمة والعزاء منها. أشعر بالفضول في معرفة ما إذا كنت تفكرين في القراء الذين تستهدفينهم عندما كنت تكتبين. أعرف أني لا أجهل الاسلام بالكامل، ولكني أعلم جيداً بأن هناك الكثير الذي يجب عليَّ معرفته. ومع ذلك، هناك بعض الأشياء التي أود الرجوع إليها والبحث عنها مثلا « ماهو الجن تحديداً؟ أو السورة مثلاً؟» بالرغم من أنني سعيدة أن هذه الأشياء لم تفسر لي؛ لأنها ستكون (أنظر كيف يكون الاسلام) كتاب قدم لغير المسلمين، عوضاً عن رواية حول أشخاص مميزين في زمان ومكان خاصين. كيف تقررين الذي ستوضحينه وما لا توضحينه؟ أقاوم بشدة تضمين مسارد بالكلمات الصعبة لرواياتي، لأن المسرد سيجعل القارئ العربي والمسلم يشعر بأن الرواية لم تكتب له.. ما أحاول أن أفعله هو إني أهدف إلى مخاطبة قراء اللغة الإنجليزية العامة، وأضيف بعض الأشياء هنا وهناك كهدايا أو أشياءً اضافية للقراء العرب والمسلمين، وأكون متأكدة بأن هذه الأضافات ليست متممة لفهم الرواية وفي ذات الوقت لا تعوق متعة القراءة.. ( السورة هي فصل من القرآن، أما كلمة الجن موجودة في قاموس اللغة وربما تكتب «DJINN «أي الجني وهي الأصل الذي اشتقت منه الكلمة الانجليزية جني). من الأسئلة التي تنتظم طوال مسار الرواية لماذ تحدث المصائب للناس الطيبين؟ ص 213. تشعر بعض الشخوص بظلم فادح. ربما كنت تعرفين أن هذا السؤال قد سأله من قبل رابي هارولد كوشنر عام 1981م في كتابه (عندما تحدث الأشياء السيئة للناس الطيبين). كانت إجابته «لماذا» جزء منها ربما أن الرب غير كلي القدرة، أو ربما كثير ما يرغب أن يحفظنا من المعاناة، وأحياناً لا يستطيع. لكن يبدو هذه ليست الإجابة التي تقترحينها في هذه الرواية. ما هي إجابتك التي ستقدمينها لهذا السؤال (أو تقترحين علينا استخلاصها من رواية زقاق الأغاني؟). أشكرك على تقديم هذا السؤال الرائع لأنه يسلط الضوء على اختلاف مهم حول الكيفية التي يرى بها اليهود والمسيحيون والمسلمون الله جل جلاله.. الله في الاسلام هو القادر الأعظم، كل الأشياء (خيراً أو شرا تأتي منه). وضعت كلمتي الخير والشر بين قوسين لأن الله وحده يعلم ما الخير بالنسبة لنا وما الشر بالنسبة لنا، وأحياناً ما نراه خيراً ينتهي إلى شر وهكذا. إضافة إلى أن القرآن يصف الحياة كعبء واختبار. فعندما نختبر بالنعم، هل نحن نشكر الله بما يكفي؟ وعندما نُمتحن بالمعاناة هل نصمد ونصبر بما يكفي؟ يحاول المرشد بدر في زقاق الأغاني أن يجيب على سؤال «لماذا تحدث الأشياء السيئة للناس الطيبين؟». ويعدد عدة اسباب- أن العالم بالتعريف هو مقر الصراع والخيبة، وان المعاناة في الحياة تعوض عن عذاب عظيم في الآخرة، وأن الله يقربنا إليه لأننا لا ندعوه كثيراً إلاعندما تحل بنا المصائب.. وفي نهاية الأمر أن التسليم لإرادة الله هو الطريق الوحيد للسلام لأنه يعرف ما هو خير لنا أكثر مما نعرف. الاحداث