ذكر لي أحد اصدقائي المهنيين (طبيب) رجع قبل سنوات للسودان من اغتراب دام لنحو عشرين عاماً بالمملكة العربية السعودية عمل فيها طبيباً بكل من المستشفيات العامة والخاصة. ذكر لي ذلك الصديق ان وضعه المادي كان جيداً وقد اغترب عندما كان للاغتراب نكهة خاصة، حيث كان العائد المادي مجزياً والحاجة ماسة والاستعداد النفسي مهيئاً مع حياة العزوبية أو مع بدايات تكوين الأسرة الخاصة. الوضع تغير كثيراً في كل الاتجاهات مع المستجدات في كل الاتجاهات كذلك. لقد اصبح رب أسرة وأطفالاً في مراحل متعددة بمستحقاتها ومسؤولياتها، وأحس ببعض نواقص الحياة التي يعيشها في الاغتراب. قرار الاغتراب في حينه كان قراراً صعباً بالنسبة له إلاّ أنه اتخذه وهو يستقرىء المستقبل لتأمين مستقبل أسرته الكبيرة والصغيرة. يقول صديقي إنه حقق بعض أهدافه من الاغتراب، لكنه في سنواته الأخيرة شعر بأنه يفقد الكثير خاصة في مجال رعايته الشخصية لأبنائه حيث كان يخرج من منزله الصباح وأطفاله نائمون ويرجع لمنزله في المساء وأطفاله أيضاً نائمون ويوم الجمعة يقضيه نائماً إلاّ في أوقات الصلاة من آثار التعب ورهق الأسبوع، حتى التواصل مع معارفه وأهله بالمملكة أصبح محدوداً وإن تمَّ فهو على حسابه وعلى حساب راحته التي تجعله مجداً في عمله ومهنته التي أحبها ولا يريد إلاّ أن يكون بذات الامتياز الذي أعد نفسه له وكرس كل وقته له خاصة وهو في خدمة الآخرين وفاء واتقاناً لعمله تمشياً مع توجيهات ديننا الحنيف الداعي بأن يتقن المرء عمله إذا عمل وأخذ اجراً عليه واستشعاراً بالمسؤولية الشخصية تجاه عمله ولمن وضع ثقته فيه استطرد صديقي قائلاً إنه عاش نزاعاً بين أمرين.. 1/ ان يظل على هذه الحالة مغترباً. 2/ أو أن يرجع لوطنه ليعوض أسرته بعض ما قصّر عنها من مستحقات اجتماعية ورعاية لأسرته. فكان قرار العودة للوطن. في زيارتي الخاطفة لأرض المملكة العربية السعودية هذه الأيام ولمدينة الرياض حيث يعمل ابني أمير محمد عثمان ويسكن بأسرته هناك وقفت على أحوال بعض الأهل بمدينة الرياض العاملين بمختلف المهن ومنهم ابني أمير محمد عثمان الذي يعمل محاسباً وهو خريج كلية الدراسات التجارية جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا. لبيت دعوة من بعض الأهل المغتربين بالرياض حيث قضيت ليلة جميلة في ضيافتهم وأسرهم في احدى الاستراحات وبقينا معهم حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي الذي صادف يوم جمعة وكان هم هؤلاء معرفة أخبار الوطن ومآلات الأحداث فيه مني وحكيت لهم وسمعت منهم أخبارهم وأحوالهم، ذكر لي أخ كريم منهم وبحضور الجميع ان الناس في السودان يعتقدون ان المغتربين هؤلاء في راحة ونعيم بينما هم في واقع الأمر في تعب وعمل يستمر في معظم الأحيان لدوامين والقليلون منهم يعملون دواماً واحداً لكنه يستمر في بعض الاحيان لساعات متأخرة من المساء، أضاف محدثي بأن المقابل المادي مجزٍ والاجواء مهيأة في مواقع العمل بصورة جيدة وفي هذا بعض ما يغري المرء بالاغتراب. كان معنا في ذات الليلة أحد الأبناء من الأهل ومعه زوجته وبعد انقضاء الليلة ذهبت زوجته معنا الى منزل أخيها والذي ستبيت فيه لأن زوجها شغال صباح الجمعة ولكن لدوام واحد. بتنا، فطرنا وصلينا صلاة الجمعة وتغدينا بعد ذلك وفي حوالي الساعة الخامسة حضر الابن لمنزل أخ زوجته لأخذها لمنزلهم ليستأنف مسيرته صباح الغد في عمله، هذا ما عايشته عملياً وما حكاه الأخوة مصداقاً لحديث صديقي الدكتور معي. هنالك مقابل مادي مجزٍ لهذا الكد، وينقصهم الكثير من معاني الحياة ورغم ذلك فهم اختاروا الاغتراب فهم في رأيي من طلائع المكافحين. الغالبية العظمى من المغتربين السودانيين من المميزين في عطائهم وخلقهم وسلوكهم العام ويتمتعون بعزة نفس وكرامة ويمثلون وجه السودان المشرق وهم بذلك كسبوا ثقة أهل الديار التي اغتربوا فيها. لا يخلو مجتمع السودانيين المغتربين من قلة من المتفلتين الذين وفدوا في السنوات الأخيرة ووجودهم قد أضر بعض الشيء بسمعة السودانيين والمغتربين. علمت أن بعض هؤلاء ليسوا سودانيين في الأصل ولكنهم يحملون اوراقاً ثبوتية سودانية. كثير من المغتربين السودانيين منزعجون ومتحيرون كيف حدث ويحدث هذا؟ في اعتقادي ان حسم هذه التفلتات يقع في المقام الأول على السفارات السودانية وبالتنسيق مع الجهة الرسمية المسؤولة بالسودان، فليسعى الجميع للمحافظة على سمعة السودان وتهيئة الأجواء السودانية لتتسع لاستقطاب طاقات أهله وتأهيل المنفلتين من أبنائه وإعادة صياغتهم ليكونوا أعضاء صالحين في المجتمع. السودان مؤهل لأن يكون موقع اغتراب للآخرين باذن الله قريباً ومرفقاً لعودة طيوره المهاجرة فلنعمل منذ الآن لاستقبال تلك المرحلة ونسأل الله بالايطول الانتظار. تحية للسودانيين المغتربين بالمملكة العربية السعودية وفي كل اقطار العالم ونقول لهم عليكم وضع وطنكم في حدقات عيونكم طالما اخترتم الاغتراب وليكن اغترابكم مربوطاً بأهداف نبيلة ومؤقتة اذ الوطن في حاجة ماسة إليكم في المساهمة في بنائه وتعميره وينبغي ان يكون شكركم لله ولأهل الديار التي اغتربتم فيها بحسن الاداء والخلق القويم وسمعة السودان وأهله والمحافظة على ما بذرتم من بذور الثقة بينكم وبين أهل الديار التي هاجرتم إليها. بعض هؤلاء المغتربين السودانيين اكتسبوا في الغربة مهارات فنية عالية في مهنهم فالحاجة ماسة إليهم في ذواتهم وفيما يمكن تقديمه للوطن من خلال تدريب زملائهم بالسودان. المغتربون السودانيون يشكون مر الشكوى من بعض معاناتهم بالغربة برغم وجود السفارات ووجود جهاز مغتربين بالخارج بالسودان. نحن ندعو كافة الاطراف المعنية بالاهتمام اللازم بقضايا المغتربين بما يخفف عنهم بعض معاناة الاغتراب. والله من وراء القصد. ? مهندس زراعي بالمعاش محمد عثمان سيراب