أمطرت السماء وفاضت الارض بالماء وانبتت من كل زوج بهيج، وبدأ الناس في حصاد ما اجتهدوا في زراعته طيلة اربعة اشهر من المحاصيل ورعايتها الى ان حان اوان قطافها، وفترة الحصاد تتطلب توفر نوعين من العمالة.. عمال الحصاد و «عتالة» جوالات الذرة الذين اشتهروا بحلاوة ترديد اغاني التشجيع على العمل.. «الصحافة» كانت في رفقة من يعملون وهم يدندنون بكلمات التشجيع والسعادة. وقبيل فترة بدء الحصاد يطوف المزارعون على القرى وبعض احياء المدن بحثاً عن عمال الحصاد، وما أن ينتهي كل مزارع من تجميع العدد الذي يريده حسب المساحة التي يزرعها، يتوجه بهم الى ارض الحصاد، ويتكفل المزارع بطعامهم طيلة فترة الحصاد في وجبة قوامها «البني كربو» والتي يعتمد في تحضيرها على ذرة الفتريتة والبصل، وأحد الاطعمة «ملاح الويكة او الشرموط»، وهناك يبدأ العمل من الصباح الى قبيل العصر، وعملية حصاد الذرة صعبة وشاقة لكثرة تناثر ما يسمى ب «الشره» وهو ما تطاير من حافظات حبات الذرة «قناديل العيش»، وللتغلب على طبيعة الحصاد الصعبة يلجأ عمال السكب والحصاد الى ترديد اغنيات خاصة بهم تحكي عن احد جوانب حياتهم باستعمال مفردات بسيطة تشجع على السرعة والاتقان في العمل، وكل منطقة أو مشروع زراعي له عباراته الخاصة مع ترديد عبارة في نهاية كل اغنية تنتهي عادة باسم احدى محبوبات العمال مثل حليمة وآمنة وغيرها من الاسماء. ونفس تلك الأغنيات يرددها الناس المشاركون في النفير، وهو إحدى وسائل التعاون بين صغار المزارعين في القرى عند الزراعة والحصاد وبناء المنازل بعد فترة الحصاد، ويتميز النفير بمجانية العمل فيه لصالح كل افراد القرية. وبعد الحصاد يأتي دور العتالة في رص وشحن وتفريغ جوالات الذرة، وتعتبر اسواق المحاصيل في مدن القضارف والابيض وكوستي من اشهر اماكن وجود العتالة، وتلك المدن تنشط فيها حركة شاحنات حمل الذرة من اوائل شهر سبتمبر الى نهاية شهر مارس، ويعمل العتالة في رص وتخزين جوالات الذرة في المخازن، ويتطلب شحن وتفريغ الذرة عدداً كبيراً من العتالة الذين يتعاونون فيما بينهم في توزيع المهمات، فهناك من يكون على سطح الشاحنة، وهناك من يعد الجوالات على طرف الشاحنة، وهناك من يحمل الجوال على ظهره ويسلمه لآخر عند مدخل المخزن، وآخر مهمته الرص والترتيب، وكل تلك العمليات مكررة ومملة وشاقة وتتطلب من العتالة تجاوزها.. وهنا يأتي دور ترديد الاغاني والجلالات. ومن اشهرها عبارة «قوم معاي يا زول» التي يرددها «العتالي» الذي يحمل الجوال، ويأتي الرد من «العتالي» الذي استلم لتوه الجوال «ما بقوم»، وهناك من يردد «هارونا.. يا محبوبة.. التور الدقش اللوبة .. هارونا ما هو الخملة.. هارونا حوض الرملة» والبعض يردد عبارة «قام من نومو» ويرد العتالي الآخر «لقى كومو»، وهناك عبارة «قوم معاي» ويذكر اسم العتالي الآخر، وفي العموم الكوم يقصد به نظام التكافل الاجتماعي بين العتالة الذي يمنح العتالي المصاب بعاهة مستديمة او مرض أجرة العمل مدى الحياة مساهمة من اصدقائه العتالة، وعرفانا بقوة الصداقة وتحمل المشاق التي تلازم المهنة. على أن تقلص مساحة مشروع الجزيرة وتوقف محالج القطن عن العمل القى بظلال سالبة على مهنة العتالة، فقد كانت عمليات حلج وغزل القطن تمثل اكثر أماكن عمل العتالة وأميزها دخلاً.. ولم يعد العتالة يرددون أهازيجهم وأغانيهم.. وقضى قطار التحرير الاقتصادي والسياسات الاقتصادية على آخر أغاني العتالة. الصحافة