ليلة أمس الخميس السابق لخميس الوقوف بعرفة، كنت على موعد مع ندوتين أولاها ندوة مهنية أقامتها اللجنة الثقافية لرابطة القانونيين السودانيين بفندق الدمام عن دور المستشار القانوني في تأسيس الشركات وتحويلها وحضر الندوة جمع كبير و كريم من الزملاء وبعض الإخوة من المحاميين السعوديين وكان النقاش ثراً ومفيداً وعلى مستوى دور قطاع الشركات في الاقتصاد الوطني ومساهمته في التنمية الاجتماعية. والندوة الثانية كانت ندوة فنية تداعى لها نفر من محبي عملاق الفن السوداني أبو عركي البخيت. في الندوة الأولى ذات الطابع المهني أعجبني ذلك الإخلاص والتفاني الذين يحكمان أداء المستشارين السودانيين لوظائفهم القيادية في أكبر الشركات ذات السمعة العالمية ومكاتب المحاماة ذات الصيت والشهرة، وتفرست في وجوه بعض من زاملوني في القضاء بأرض الوطن عندما كنا نجوب أطرافه دون كلل أو ملل نخوضها حرباً شعواء لا هوادة فيها ضد كل مظاهر الفساد المالي والإداري و ضد كل مواطن العدوان والظلم و لا تخشى حزباً و لا رئيساً و لا وزيراً سواء كان النظام عسكرياً أو ديمقراطياً. تذكرت تلك السنة التي حاول فيها الرئيس الراحل نميري التدخل في شأن القضاء عندما تخلخل نظامه و أصبح آيلاً للسقوط واستحكمت المجاعة في إرجاء دارفور وبقية الأطراف ورفض إعلان المجاعة على الملأ حرصاً على سمعة نظامه و بذلك حال دون تدفق الاغاثات و حاول الخلاص من ورطته بتسخير سلطة القضاء لقمع بوادر ثورة الجياع وأجمعنا في الهيئة القضائية على الدخول في إضراب دام لعدة شهور، انصاع بعدها النميري لصوت العقل معتذراً للقضاة قائلاً: أنهم الصفوة وأنهم كالذهب يزداد بريقاً كلما طًرق. و لكنه بعد هذا الإطراء أراد قمع الجوعى بأحكام القطع والصلب في شريعتنا السمحاء والغراء ناسياً أن الخليفة عمر عطل تلك الأحكام في عام الرمادة. و عندما تم نقلنا لدارفور فور إعلان تلك القوانين و تكريس الإعلام لنشر أحكامها لتخويف الشعب تعاهدنا نحن القضاة المنقولون إلى هناك على أن لا نقطع يداً واحدة في دارفور و بالفعل ظللنا على ما عاهدنا الله عليه حتى ذهب حكمه بانتفاضة ابريل وذلك بناءً على القاعدة السابقة العمرية وإعمالاً لمبدأ "الضرورات تبيح المحظورات" وغيرها من القواعد الشرعية. انتهت الندوة المهنية حوالي الحادية عشرة ليلاً وخرجت مسرعاً ومعي بعض الزملاء للحاق بالندوة الفنية وتنفسنا الصعداء عندما علمنا فور وصولنا أن الندوة لم تبدأ بعد، و لم تمض سوى دقائق معدودات كانت كافية لمعانقة المعارف حتى ظهر أبو الهول في الأفق عند مدخل القاعة و انتفض الجميع وقوفاً مهللين و دوت القاعة بتصفيق لم أشهد مثله إلا عندما كان الزعيم عبد الناصر يظهر لإلقاء إحدى خطاباته النارية أو عند إطلالة كوكب الشرق على مسرح أمدرمان بعد نكسة 1967م. دخل القاعة بحيويته التي عهدناها في نهاية الستينيات من القرن الماضي عندما جاء إلى منطقة المحس برفقة الراحل المقيم الأستاذ محمد وردي وغنى في مناسبة زواج الأستاذ المحامي/ حسن عبد الماجد شفاه الله من مرضه العضال حيث تزوج من أخت الراحل المقيم وسكن أبو عركي في وجداني منذاك ونحن آنذاك لم نبلغ سن الرشد. دخل أبو عركي بملامح الشباب التي انبهرنا بها طوال السبعينيات حيث كان هو مع بعض أقرانه من العمالقة نجوماً تتلألأ في سماء الخرطوم و صاغوا وجدان الشعب السوداني كله في سنوات قل أن يجود بمثلها الزمان. استهل الندوة برائعته "لو كنت ناكر للهوى زيك" وتتابع مسلسل الروائع (بخاف و دبلة الحب والخطوبة و يوم رحيلك من البلاد و سهرنا الليل ) وسائر أغانية ودرره التي يحفظها جيلنا عن ظهر قلب. و لكن ما أدهشني بحق أنه ما زال يحتفظ بذلك الصوت العذب الشجي الذي بدأ به حياته الفنية وكما أعجبني ذلك التجاوب المنقطع النظير من شباب في أعمار العشرينات والثلاثينات والذين ولدوا وترعرعوا في عصر الانحطاط الفني والذين حفيت أقدامهم عند أبواب السفارات بالخرطوم للحصول على تأشيرات الخروج من الوطن. كنت أعتقد أن هؤلاء الشباب مجروحون في وطنيتهم بسبب ما لاقوه من عنت ومعاناة و عطالة داخل الوطن و مما زاد من وطأة هذا الاعتقاد ما رشح في الأنباء مؤخراً عن تزايد عدد تأشيرات الخروج والتي تجاوزت ثلاثة ألف تأشيرة يومياً. هذا النزيف المؤلم وسط الشباب أمل المستقبل و وسط رجال الخبرة كل الحاضر في كل المجالات المهنية المرموقة من هندسة وطب وزراعة واقتصاد وإدارة وقانون. جعلني أتسائل عما إذا كان يكفي رجال حزب واحد لإدارة وتصريف أمور دولة بحجم قارة مثل السودان؟ بل من يناط به تحقيق الشعارات الجوفاء من قبيل نأكل مما نزرع وأرض المليون ميل وسلة غذاء العالم في بلد أصبح يستورد أكثر من 70% من محصول القمح الذي أصبح الغذاء الرئيسي للغالبية العظمى من السكان؟؟ والاقتصاديون يتوقعون ارتفاع نسبة استيراده بعد الزيادة في أسعار المدخلات وتوجه الشباب العاجزين عن الاغتراب إلى التعدين التقليدي الذي لا يسد الرمق ولجأت الدولة إلى إثقال كاهل الشعب بابتداع أنواع من الرسوم والإتاوات حيث بلغت أنواع الرسوم المفروضة مؤخراً على الخراف أكثر من عشرين رسماً حتى انحصرت فتاوي فقهاء الشريعة على جواز تقسيط قيمة الأضحية وجواز الاشتراك فيها وجواز أن ينوب الرئيس عن شعبه في ذلك أما الفتوى الاقتصادية الغائبة عن فقهاء الاستراتيجيات هي الفتوى بأثر تلك الرسوم على المنافسة في أسواق اللحوم الخارجية وأثرها على واردات البلاد من النقد الأجنبي والمخاطر المتوقعة على عزوف المنتجين عن تربية المواشي وخاصة في ظل العزوف عن زراعة الأعلاف. بعد هنيهة، طردت كل هذه الهواجس اليائسة عندما وجدت الحضور في الندوة الفنية من الشيب والشباب و لا استثني نفسي - في حالة انجذاب صادق مع هذا العملاق و عازفيه و يستقبلون كل أغانيه العاطفية وكأنها أناشيد وطنية حيث أصبح المحبوب لدى الجميع هو الوطن الغالي بيت أمير الشعراء أحمد شوقي " وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني اليه في الخلد نفسي". لقد تملكني شعور غامر بأن المشهد الماثل لا يحتاج إلى طبيب نفسي لتحليله وتفسيره و لا إلى بحوث علماء ومفكرين و لا إلى ثعالب متمرسين في فن تحشيد الجماهير في الساحات والميادين بل هو رفض عفوي وتلقائي لتصاريف الزمن السيئ والحظ العاثر الذي أفرغ البلاد من أجود خبراته وأقوى شبابه وأجبر المزارعين من فئة الشباب على الهجرة كأسراب الجراد إلى الخلوات طمعاً في الحصول على جرامات من الذهب. لقد ترك أبو عركي لدى جمهوره بالمنطقة الشرقية انطباعاً بأن الحلم الجميل حق مشروع وأنه لا بديل للوطن إلا الوطن وأن الفن الأصيل قادر على مداواة الجروح و لهذا تكالب عليه الجمهور بعد الحفل لالتقاط صور تذكارية معه وناشدوه بإلحاح شديد لتنظيم زيارات دورية للمنطقة بعد أن ثبت من خلال هذه الزيارة الثانية أن جمهوره زاد أكثر التصاقاً وتعلقاً به وأضم صوتي لهؤلاء وكلي ثقة أنه بحسه المرهف سوف يستسلم لهذا النداء وخاصة أن الفن الأصيل لم يعد من أولويات القوم هناك. مع كل الحب والتحية والتقدير لعركي وجمهوره الوفي الذي كون مؤخراً مجموعة أصدقاء أبوعركي للإبداع. ------------ * مستشار قانوني