في الثقافة العربية القديمة ، عرف المثقف بشموليته في التكوين والخطاب ؛ وبالتالي عدم تحنطه في فرع معرفي واحد . طبعا لذلك مسوغاته كالعلاقة بين العلوم المحكومة بالتصور الثقافي والحضاري ، وأيضا جدل المجتمع آنذاك حول القضايا التي تقتضي طروحات ومشاريع فكرية في اللغة و الدين و الفلسفة والعلم..كل ذلك جعل من كل مثقف مشروعا مجتمعيا . ولا نستثني من ذلك المبدع الشاعر أو الكاتب الذي يرقى إلى مرتبة المثقف من خلال كتابة متموقعة في السياق دون ضياع أو ذوبان شروط الشعرية . في هذا الإطار، ينبغي الإقرار بتلك المقدرة الهائلة للأديب القديم في المعرفة الدقيقة باللغة وفروعها ، بالأدب وحواشيه ، بالواقع ودهاليزه ، بالثقافة وأسسها . فكان الكاتب يكتب بحق ضمن الثقافة التي ينتمي إليها دون انغلاق أو شرنقة ؛ أي في انفتاح على تعدد البيئة الثقافية العربية والحضارات الأخرى من فارسية ويونانية..هنا في الأدب ، مثلما في الثقافة ، يمكن الحديث عن سلطة النص الذي يفرض تشكيلة اللغوي والتخييلي أمام أي بناء نظري . في المقابل ، يبدو أي مفهوم أو اصطلاح في أي نوع معرفي يحمل وراءه فكرة فلسفية ورؤية فكرية . وعليه فالمثقف آنذاك لا يدخل الميدان أو الساحة بطريقة خجولة أو مفبركة ؛ بل كإنسان متابع وباحث مشغول القلب والعقل بشأن الحال والمستقبل بوسائل أقل ومجهود فردي أكبر . في عصرنا تتعدد العلوم وتوضع الحدود ، ليس بالمعنى الإبستمولوجي ، بل بالمعنى المؤسسي ؛ وفي المقابل يتعدد الاهتمام والاختصاص . وتضيع بين هذا وذاك العقلية النسقية والتوجه الثقافي والحضاري العام . فالمفكر مفكر وكفى ، يبحث في قضية ما دون أن يغذيها بامتدادها الجدلي في الثقافة والمرجع . والأديب متعدد بتعدد الأنواع الأدبية ، فهو شاعر، وعليه أن يكتب القصيدة فقط ، دون تحليل أو نظر أو الدفاع عن رأي ؛ أو قاص يطارد بنات القصة إلى حد القفز فوق الواقع دون انتساب أو عرق..والمغني،والمغنية تغني كلاما جميلا وعميقا أحيانا لا تعرف صلته بالفاعليات النفسية والجمالية كأنها تغني في جزيرة مفصولة . يبدو أن العلاقة بين العلوم بمختلف أشكالها ( الإنسانية والصرفة ) داخلية وحثيثية وتأثرية ، نظرا لوحدة الإنسان والشأن . ودون أية التفاتة للميادين الأخرى أو للامتدادات ، تبدو الحقيقة في أي ميدان غير مدعمة ؛ وقد يتعلق الأمر حتى بالحقل العلمي الصرف على الرغم من صرامة المفهوم وتقنية الإجراء . أكيد ، هناك علاقات بين الأنواع المعرفية في الخيال والتجريد والتمثل . وبلا شك أن هذه الأرض العالقة التي تقع عليها الأحداث المفترضة التي تصنع النظريات والمفاهيم ،يغذيها الإنسان وتموقعه الوجودي . في السياق نفسه ، يسأل المبدع عن النقد ، فيترك المهمة للنقاد والقراء كأن ذاته تطوي على ماء الإبداع الخالص ؛ بل وأحيانا ترى المبدعين على تيه ضمن إرغامات وقوالب المجتمع . تسأل المغنية العارضة والمعروضة عن الغناء ودوره ، فتضحك من السؤال ومنا ،كأن الغناء مناسبة وفرجة عائمة...وهكذا فالمثقف في التاريخ تاريخ ، وفي الشعر شعر ، وفي القصة قصة...والكل يرقص على انفراد ،ضمن المرسوم والمقنن بالتراكم الذي غدا أشكالا وأحجاما ومقاسات... . إن هذا المظهر من التخصص أو الفهم الخاص الذي تغذيه المرحلة بحكم إكراه السرعة والتعدد ، وأحيانا سديمية المعنى وتفتته في هذا الكل المجزأ . أقول هذا المظهر يخلق في المقابل أناسا نمطيين يتحدثون عن حقائق يتيمة ؛ بل أكثر من ذلك ، ترى الأمر متفشيا في الواقع ، إذ أصبحت القطاعات بمثابة جزر. فالثقافة بمثابة ماء لا ينبغي حبسه وتوجيهه ؛ بل الإصغاء له ،وهو يغمر شرايين المجتمع . وبالتأكيد حين نتحرر من الدعوة النخبوية للثقافة ، ستمتد هذه الأخيرة لكل ذات و بيت . ومن تم لكل قطاع ، آنذاك يمكن الحديث عن الإنسان الكائن الثقافي . لأن هذا الأخير يتغير بالأفكار الخفيفة والملونة التي تعبر الوجدان والتمثلات ، وليس بالإسمنت وأناقة العالم الآنية والمجوفة . النسقية والشمولية خاصيتان لازمتان للمثقف ، لمنح الأشياء امتداداتها الطبيعية . ومن شأن ذلك أن يغني الاختلاف ، ويفتت صخرة الأحادية الصماء . شاعر وكاتب من المغرب القدس العربي