إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بين العقل وتعقل النقد أو رهان المتخيل عند الجابري..بقا\لم : محمد نور الدين أفاية
نشر في حريات يوم 02 - 02 - 2012

إن من أساسيات الكتابة السيرذاتية عامة، وأدب المذكرات خاصة، أن تغدو الذات، ليست من يفعل الفعل أو يقع عليه الفعل فحسب، بل هي أيضاً من ينقله إلى الآخر بصيغته الإبداعية. وبهذا المعنى، ينتقل البحث في هذا المجال المخصوص من علاقة النص بالذات الكاتبة، إلى علاقته بالمعطيات الخارجية المسرودة في تفاعلها مع رؤية الكاتب الفلسفية.
وعليه، فإن المذكرات لا تَسْرُد (مثلاً) تاريخاً شخصياً بالضرورة، بل يمتد السرد إلى تواريخ شخصيات أخرى يستدعيها المقام استدعاء، ويطلبها سياق المعنى طلباً، مثلما أضحى الموضوع المركزي لهذه المذكرات مشدوداً إلى الكيفية التي يستطيع بها هذا النص تمثيل الذات في مختلف مكوناتها: العاطفية والنفسية والثقافية.
من هنا يمكن القول: إن الذاكرة لم تعد بمثابة حضن للذكريات ووعاء لها فحسب، بل عنصراً فعالاً ودينامياً في لملمة هذه المذكرات وتنضيدها وبالتالي تقديمها إلى المتلقي، وفق رؤية متناغمة مع فلسفة الكاتب، ومنسجمة، كذلك، مع رؤيته الخاصة للتطور المجتمعي عامة.
لم تحسم الاجتهادات، التي شهدها الفكر العربي طيلة الخمسة عقود الأخيرة – سيما بعد صدور “الإيديولوجية العربية المعاصرة” للعروي- عملية تعيين الأفكار وتسمية القضايا وتعريف المفاهيم التي أعاد هذا الفكر تنشيطها من داخل المنظومة العربية الإسلامية أو اقتبسها من الغير. وإذا ما شككنا في أمر الحسم، طالما أن الفكر عبارة عن مسار وعن صيرورة ولاشيء نهائي في عرفه، فإن مسألة التسمية أو التحديد عامل مقرر في شأن نجاعة الفكر، وصدقية عملياته وقوة استنتاجاته.
هل الضعف المعرفي الملتصق بالفكر العربي راجع إلى ارتهانه بالاعتبارات الإيديولوجية، مادامت المسألة السياسية طغت على هذا الفكر منذ بداياته النهضوية إلى الآن؟ أم أن الأمر مرتبط بالأساس “الابستيمي” المعرفي العميق الذي تتحرك داخله اللغة والأفكار والمفاهيم؟ لاشك أن هناك انفتاحات مهمة نجدها في ثنايا هذا النص أو ذاك، وأن باحثين ومفكرين عرب، على الرغم من الارتهان الإيديولوجي، تمكنوا من تكسير العوائق وخلخلة التوابث لصياغة بعض الأسئلة أو تلمس مفاهيم تهم الوجود العربي في مستوياته الثقافية، السياسية والاجتماعية. وأمام ما تراكم من مصنفات وأبحاث ودراسات يصعب على المرء أن يركن إلى موقف عدمي خالص، إذ نجد، مع كل التحفظات والاعتراضات الممكنة، اجتهادات حول الدولة والثقافة والمجتمع والسياسة والفن…الخ، لا يمكن لأي مشتغل بالفكر العربي المعاصر أن يغفلها أو أن ينكر بعض قيمتها. بل إن التمادي في إهمال بعض هذه الانفتاحات الفكرية يطرح أكثر من سؤال حول جدية بعض الأحكام وصلابة منطلقاتها.
ومع ذلك ما تزال قضايا كبرى يلفها الالتباس، وهو التباس قائم بحكم الاجتياح المهول للاستبداد، ولاضطرار جل المثقفين إلى الانحشار في مستنقع الإيديولوجيا، وللشروط غير الملائمة لإنتاج فكر نقدي جسور.
منذ كتاب “نحن والتراث” و”الخطاب العربي المعاصر”، مرورا برباعيته النقدية وكتاب “المسألة الثقافية”، و”المثقفون في الحضارة العربية” إلى كتاباته الأخيرة حول القرآن، ومحمد عابد الجابري يتقدم إلينا، على صعيد التأليف والكتابة، باعتباره شخصية فكرية متعددة المنابع والأبعاد. تمكن عبر العمل والتدريس والبحث والتأليف من صوغها –أي هذه المنابع والأبعاد- في كيان فكري برهن على كثير من التناسق والتوازن. هكذا يكثف محمد عابد الجابري، في نصوصه، تجربته الطويلة في المسؤولية التربوية والبحث التراثي والعمل السياسي، أي بعبارة أخرى أن المرء، وهو يقرأ كتبه، كثيرا ما يجد نفسه إزاء دارس متضلع في التراث يجاهد من أجل اكتناه مخزوناته وفهمها وتقديمها وتحليلها … ونقدها، مادام الهاجس الفكري الرئيسي الذي يحرك باحثنا يتمثل في تأسيس نظرية “نقدية” عربية، تقطع مع تقاليد الاجترار والترجمة والتلفيق الفكري الذي يسم أغلب الكتابات العربية على امتداد هذا القرن. فعابد الجابري، وهو يتناول المسألة الثقافية يواجهها بثقافة متجذرة في التراث، عالمة ب “رأسمال رمزي” تعود على قاموسه ومعانيه وشخوصه ورهاناته المختلفة.
وبقدر إطلاعه على أمهات كتب التراث، لا يتوقف الجابري على متابعة – قدر مستطاعه- ما يستجد في الفكر الغربي المعاصر. فاحتكاكه بنصوص الفكر الفلسفي الغربي، على مستوى القراءة والعرض والتلقين، جعله يهتدي، منذ ثلاثة عقود إلى أهمية الدرس الإبستمولوجي والمحاكمة النقدية للمناهج والمفاهيم. فهو لم يكن يقدم خلاصات المعرفة الفلسفية والنظرية الغربية للطلاب فقط، لأنه جعل منها زادا فكريا يقوي به أدواته المنهجية في دراساته وتأليفه.
من هنا انشغاله المتواصل بالقضايا البيداغوجية والتربوية. فالجابري، حتى وإن تعرض لأكثر المنظومات والمؤلفات الفكرية تعقيدا وصعوبة، فإنها تتحول، بواسطة أسلوبه السلس وهاجسه التربوي، إلى نصوص قابلة للفهم والاستيعاب. هل لتجربته الصحفية دور في صقل قلمه وصواب جمله ووضوح أفكاره؟ لاشك عندي في ذلك، خصوصا وان الجابري قرر، منذ البدء، أن يجعل من الكتابة تعبيرا عن قضايا عامة بدل حصرها فيما يسميه ب “المناسبة الشاعرية”.
تكشف اجتهادات الجابري، بالإضافة إلى ما تقدم عن كائن سياسي بارز ينفلت، أحيانا، من عقال صرامة التحليل العقلاني النقدي للنصوص، ويثور في وجه المعرفة الخالصة، ليدعو إلى اتخاذ الموقف وإصدار الحكم. ولأن الجابري خبر العمل السياسي، المغربي والعربي، من موقع المسؤولية، بما يستدعي ذلك من إطلاع على آليات اتخاذ القرار والمناورة والتفاوض والصراع، وبما يفترض ذلك كله من اختيار الكلام المناسب في الظرف المناسب، وحساب الربح والخسارة في كل مواجهة يقتضيها العمل السياسي، لأنه خبر الشأن السياسي، فإن مشروعه النقدي، في كليته، لا يخلو من حضور الجابري السياسي في كثير من مستوياته واستنتاجاته.
شخصية فكرية تجمع بين المطلع على التراث، المتابع للفكر المعاصر، المسكون بهاجس البيداغوجيا، والخبير بشؤون السياسة. مستويات أربعة تحضر، في كل مرة، بشكل متفاوت، في ثنايا نصوصه، حتى وإن تعلق الأمر بأكثر كتاباته تجريدا، وهو ما يعمل الجابري على تلافيه على كل حال.
يتقدم إلينا مشروع الجابري بكونه مشروعا نقديا. ومطلب النقد، عنده، مرتبط عضويا بمشروع النهضة، لكن “غياب نقد العقل في المشروع الذي بشر به مفكرو الجيل السابق قد جعله يبقى مشدودا إلى ما قبل، على الرغم من كل الأهداف والمطامح التي غازلها أو ألح في تبنيها، كما أن غياب نفس النقد في مشروع “الثورة أو النهضة” الذي نحلم به نحن اليوم، قد جعله يبقى على الرغم من كل الألفاظ والعبارات الجديدة التي نتحدث بها عنه امتدادا لنفس المشروع السابق، مشروع “النهضة” التي لم تتحقق بعد”[2].
يندرج المشروع النقدي للجابري ضمن المشاريع التي بشر بها كثير من الباحثين والمفكرين العرب بهدف قراءة التراث العربي الإسلامي “قراءة جديدة”، أو البحث النقدي عن الأسس الفكرية التي وقفت عليها ثقافة النهضة العربية. غير أن تفكير الجابري يتقدم، منهجيا، بأنه غير مرهون بمذهب إيديولوجي مسبق يملي عليه قراءاته أو تأويله، وغير مشروط بنظرية جاهزة، أو على الأقل، لا يعلن عن ذلك بشكل واضح. وهذه الملاحظة لا تعني أن الجابري غير متورط في الإيديولوجيا والسياسة. فهاجسه المركزي الموجه لأعماله يتمثل في الكشف عن المكونات والأسس المعرفية الذي يستند إليها “العقل” العربي، سواء في التراث العربي الإسلامي أو في الخطاب العربي المعاصر، معتبرا أن “نقد العقل جزء أساسي أولي من كل مشروع للنهضة، ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى. ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن، وهل يمكن بناء نهضة بغير عقل ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه”.
وعلى الرغم من أن الجابري يلح في نصوصه النقدية على المنطلق الإبستمولوجي في تعامله مع الفكر العربي الوسيط أو الحديث، أو ما يسميه بميدان “إبستمولوجيا الثقافة”، أو تحليل الأساس الإبستمولوجي للثقافة العربية التي أنتجت العقل العربي، فإنه لا يستبعد في بعض مستويات تحليله الأبعاد التاريخية والإيديولوجية، لاسيما أنه يدعو، بشكل صريح، إلى “تدشين عصر تدوين جديد” وإلى ” الاستقلال التاريخي التام” للذات العربية وإلى “عقلانية نقدية”.
وقد أوصل المنهج التحليلي النقدي، الذي اعتمده الجابري في الحفر على الأنظمة المعرفية التي أنتجها العقل العربي، إلى القول بأن “العقل العربي عقل يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم، ولا يفكر إلا انطلاقا من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه، الأصل الذي يحمل معه سلطة السلف إمَّا في لفظه أو في معناه، وأن آليته، آلية هذا العقل في تحصيل المعرفة –ولا نقول في إنتاجها- هي المقارنة (أو القياس البياني) والمماثلة (أو القياس العرفاني)، وأنه في كل ذلك يعتمد التجويز كمبدأ، كقانون عام يؤسس منهجه في التفكير ورؤيته للعالم”[3].
المشروع النقدي للعقل العربي الذي يقوم به الجابري لا يمكن أن لا يذكِّر المرء بالنقدية الكانطية في نقد العقل الخالص والعملي. نحن إذ نسجل هذه الملاحظة، فللإشارة إلى أن كل مشروع نقدي من هذا الحجم، في ظل ظرفية تاريخية وفكرية محددة، يستهدف محاكمة آليات العقل، يرتبط أساسا بمطلب نهضوي ويتغيَّا إشاعة الأنوار.
يقول الجابري بالتحرر من التراث “بتحقيقه وتجاوزه وبالتحرر من الغرب” بالدخول مع ثقافته “في حوار نقدي” وبممارسة “عقلانية نقدية” على النصوص والأشياء والعلاقات، وبإعادة النظر في الذات العربية وخلخلة مكوناتها العقلانية والوجودية كي تتحول إلى ذات مبدعة تفعل في التاريخ بدل الانفعال به. يقول: “مشروعنا هادف إذن، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف: فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها”[4].
لا يجب أن يفهم من هذا الكلام أننا نعبر عن حماس ساذج للمجهودات الفكرية لمحمد عابد الجابري، ذلك أنه يبدو لنا أن الأطروحة المركزية التي ينطلق منها لا تختلف كثيرا عن تلك التي صاغها عبد الله العروي في “الإيديولوجية العربية المعاصرة”. صحيح أن للظرفية السياسية والفكرية والعالمية التي كتبت فيها “الإيديولوجية العربية المعاصرة” لا تشبه بالضرورة، الأوضاع التي شهدتها الثمانينات والتي عمل فيها الجابري على كتابة مشروعه النقدي. صحيح كذلك أن تكوين الرجلين واختصاص كل واحد منهما وتجاربهما وعلاقتهما بالتراث والتاريخ والفكر الفلسفي والسياسة تختلف بين العروي والجابري. لكن إشكاليتهما النقدية لها حمولات دلالية تحيل بشكل من الأشكال، إلى المرجعية الأنوارية. فنقد العقل لا يمكن أن يتم إلا استنادا إلى عقل نقدي. والنقد والعقل فعاليتان تحصلان في سياق الدعوة إلى تخطي التأخر التاريخي وتحديث مؤسسات الدولة وتنظيم مجال عمومي حر ومبادر.
وإذا كان عبد الله العروي يحدد مجهوداته النظرية ضمن تطور الفكر العقلاني العالمي والعربي، فإنه، في مقابل ذلك يرفض كل نزعة صوفية أو تيار يقول بإدماج ملكات أخرى غير العقل في أمور المجتمع والسياسة. وبالرغم من أنه منذ “الإيديولوجية العربية المعاصرة” إلى الآن وهو يهتم بمسالة التعبير والكتابة بل ويلجأ أحيانا، إلى الحكي الروائي[5]، فإنه مع ذلك يؤكد في نصوصه النظرية على نزعة عقلانية صارمة، بل ويدعو إلى تبني العقلانية بدون أي تنازل للتيارات المناهضة لها.
إذا كان عبد الله العروي يلتجئ، أحيانا، إلى الأفق الروائي في ممارسته للكتابة، فإن محمد عابد الجابري، حين يؤطر اجتهاداته النظرية والسياسية ضمن عقلانية ذات طموح أنواري، فإنه يستبعد كل اهتمام بالفن وبمجالات المتخيل الإبداعي. فهو يرى أن كتاباته وهمومه الفكرية منصبة أساسا على الكليات. “والعمل الذي أقوم به هو عمل ينصرف إلى اكتشاف الكلي من خلال الجزئيات. الجزئي بالنسبة لي هو طريقي إلى الكلي، وأعتقد أن الذي يكون هدفه هو هذا أو شغله في مرحلة من حياته هو هذا، فإنه لا يستطيع أن يعيش الجزئي من أجل الجزئي، لأن الفن هو أن تكتشف الكل في الجزء.. وبالتالي فإن ما يتعلق “بالفلكلور”، أو بالخرافة لا أهتم فيه. الأنتربولوجيات أو ما تهتم به الأنتربولوجيا ليس من ميدان اهتمامي. اهتمامي خاص بالثقافة العالمة، أي الأبستمولوجيا، العلوم، التفكير العلمي، سواء أكان في هذا الميدان أو ذاك”[6]. إلحاح الجابري على إعطاء الأولوية للأبعاد الابستمولوجية في نقده للعقل العربي واستبعاده للتعبيرات الفنية والجمالية في الثقافة العربية وعدم اهتمامه بالجوانب اللاواعية أو المتخيلة في الممارسة السياسية، لم تمنعه من إدخال بعض التعديلات على توجهه المنهجي في كتابه الثالث من مشروع نقد العقل العربي: “العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته”، بل أكثر من ذلك فإن انخراطه في دراسة موضوعات العقل السياسي وتجلياته أملى عليه ضرورة إدخال مفاهيم وأدوات تحليلية لا تستجيب لمقتضيات الضبط العقلاني الصارم، مثل “اللاشعور السياسي” و”المخيال الاجتماعي”…
قد يقال بأن المنظور الذي ينظر منه الجابري إلى موضوعات “العقل السياسي” تحكمه كذلك اهتماماته الابستمولوجية والدقة العقلانية، كأن يعتبر مثلا بأن العقل السياسي هو “عقل” لأن محددات الفعل السياسي وتجلياته تخضع جميعا لمنطق داخلي يحكمها وينظم العلاقات بينها، منطق قوامه “مبادئ” وآليات قابلة للوصف والتحليل، وهو “سياسي” لأن وظيفته ليست إنتاج المعرفة بل ممارسة السلطة، سلطة الحكم، أو بيان كيفية ممارستها “[7]. هذا التوجه ممكن، داخل الدراسات السياسية، بوصفه يندرج ضمن التصور العقلاني للعمل أو البحث السياسيين، لكن السياسة بمعناها الإجرائي التاريخي لا تخضع دائما لشروط العقلنة الفكرية ولمبادئ ومقاييس النظر المنطقي. والجابري نفسه اهتدى، أو اضطر، إلى استعمال مفاهيم تنتمي إلى مجالات التحليل النفسي وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا، باعتبار أن هذه الحقول تهتم بدراسة ظواهر نفسية، فردية أو جماعية، وحالات واختلالات اجتماعية مرضية في هذا المجتمع أو ذاك. فبمجرد ما تلجئ إلى اللاشعور والمخيال، فإنك، بالضرورة، تخرج عن مقتضيات الضبط الفكري العقلاني، ولاسيما الديكارتي والأنواري. قد تدرس بطريقة عقلانية تعبيرات المتخيل، أو تجعل ما هو واع ينتقل إلى مستوى الفهم الواعي، ولكن لاعقلانية المتخيل وهذيان اللاوعي يفترضان مقاربة متعددة الاهتمامات. يقول الجابري في سياق حديثه عن المخيال الاجتماعي: “إن مخيالنا الاجتماعي العربي هو الصرح الخيالي المليء برأسمالنا من المآثر والبطولات وأنواع المعاناة، الصرح الذي يسكنه عدد كبير من رموز الماضي مثل الشنفرى وامرئ القيس وعمرو بن كلثوم وحاتم الطائي وال ياسر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد والحسين وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وألف ليلة وليلة وصلاح الدين والأولياء الصالحين وأبو زيد الهلالي وجمال عبد الناصر… إضافة إلى رموز الحاضر و”المارد العربي” والغد المنشود… الخ إلى جانب هذا المخيال العربي الإسلامي المشترك تقوم مخاييل متفرعة عنه كالمخيال الشيعي الذي يشكل الحسين بن علي الرمز المركزي فيه، والمخيال السني الذي يسكنه “السلف الصالح” خاصة، والمخيال العشائري والطائفي والحزبي… الخ”[8].
خزان رمزي هائل. يتقاطع فيه المتخيل بالواقعي، الرمزي بالاجتماعي، ويتشابك فيه الأسطوري بالسياسي في شكل تصورات ومواقف تفرض على الباحث التنازل قليلا عن صارمة هذه الرموز والمرجعيات. ويمكن القول بأن عابد الجابري، بعدما كان متشددا في استبعاده لمجال الأنتروبولوجيا، حقق انفتاحا ملحوظا على مختلف حقول العلوم الإنسانية بسبب كون موضوعات العقل السياسي تستدعي ذلك. فمجالات المتخيل الاجتماعي ليست مجالات لاكتساب المعرفة كما هو الشأن بالنسبة للنظام المعرفي، لأنها مجالات القناعات ومختلف أشكال وتجليات الإيمان وهكذا: “إذا كان النظام المعرفي، كما سبق أن حددناه هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعوية، فإن المخيال الاجتماعي هو جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للإيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما، ولدى جماعة اجتماعية منظمة، بنيتها اللاشعورية”[9].
[1] أستاذ فلسفة، كلية الآداب- جامعة محمد الخامس- الرباط
[2] محمد عابد الجابري؛ الخطاب العربي المعاصر، دراسات تحليلية، نقدية، دار الطليعة، الطبعة الأولى، 1982، بيروت، ص 13
[3] محمد عابد الجابري؛ تكوين العقل العربي؛ دار الطليعة، الطبعة الأولى؛ 1984، بيروت، ص 5
[4] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية، نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدارالبيضاء،، 1986، ص 585
[5] كتب عبد الله العروي حتى الآن مجموعة روايات منها: “الغربة” و “اليتيم” و”الفريق” و”أوراق” ويتساءل عبد الله العروي: “لماذا أكتب روايات؟ يعني هل هناك ضرورة؟” ويجيب: “هناك فعلا ضرورة، لأنني أحس أن هناك مشاكل أتناولها بالتحليل المبني على العقل، أكان في مجال الإيديولوجيات أو في ميدان البحث التاريخي. ولكن هناك أيضا مظاهر أخرى في الحياة لا تخضع لقوانين العقل. أولا: حين أريد أن أخضعها للعقل، لا أتمكن من ذلك، ثم من ناحية أخرى لا أرغب أن أدخل فيها مشاكل العقل، لأنها إحساسات، صعود مباشر للأشياء، مواقف.. وأؤدي إلى القارئ بكيفية مباشرة، هذا الشعور، دون أن تكون هناك وساطة العقل” حوار مع عبد الله العروي: مجلة الكرمل العدد 11 ضمن ملف عن الثقافة في المغرب ص 170.
[6] محمد عابد الجابري: حوار مع مجلة الكرمل، عدد 11، ص 164.
[7] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدارالبيضاء، ص 5
[8] نفس المرجع، ص 13
[9] نفس المرجع السابق، ص 13
وزارةالثقافة©مجلة الثقافة المغربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.