' احرق كلّ شيء يخصني دون أن تقرأه، لا أريد أن يتذكرني الناس!'. من وصية فرانز كافكا إلى صديقه ماكس بروود ملاحظات ضرورية: لا بدّ أن فرانز كافكا عانى كثيرا ليوصي بحرق جميع أوراقه: التجاهلُ، عدم التقدير، اليأس من رضى النقاد، خيبة الظفر بقارئ لاراهني...كلّ ذلك ظلّ يقطر في هدأةٍ في الطبقات السفلى لروح الكاتب اليائس. لتقريب الصورة بوسعك أن تتخيل ماسورة معطوبة ترشح في أصل حائطٍ نهشته الرطوبة. اليأسُ هو تلك الماسورة التي ظلت ترشح داخل كافكا منذ الثالث من يوليو 1883 حتى الثالث من يونيو 1924 أي حوالي واحد وأربعين سنة من الألم قبل أن يتقشر جيرُ الحائط وتظهر علامات البلل. حين ييأس الحائط يمرض الجيرُ. يتجوّف ومن ثمّ يسقط. قول ياباني: وحدها الورقة التي تسقط هي ورقة كاملة. ما أراد اليابانيون قوله هو التالي: تقاس نبالة اليأس بمدى قدرته على حفظ طاقته. اليأسُ الذي اختار السقوط كآخر صيغة من صيغ البرهنة على الشرف، لا شكّ أنه أنبل أنواع اليأس وأصعبها. كلّ ما ستفكر فيه بعد هذا سيكون بلا معنى: اتجاهَ الحائط بالنظر إلى مسقط الضوء، درجة انحناء الظل، قوّة الرشح...إلخ، كلّ ذلك سيكون بلا معنى. سؤالك عن السمكريّ في حدّ ذاته سيكون بلا معنى. البحث عن سبب منطقي لانشغال السمكري عن معالجة ماسورة رشحت لمدّة 15965 يوما سيجرّك لا محالة إلى أسئلة لاهوتية لا تحمد عقباها. حتى أنه قد يجرّك إلى تحوير عبارة فريدريك نيتشه: ' إن السمكريَ قد مات'. لا يهمّ إن مات في منزله أم دكّانه أم في طريقه إلى روح فرانز كافكا. ' ' ' كتب فالتر بنيامين أن أقدم عادات الشعوب توجّه لنا تحذيرا: أن نتجنب ايماءة الجشع عند قبول ما نتلقاه بسخاء من الطبيعة. ليس بمقدورنا أن نقدّم للأرض الواهبة شيئا يخصّنا، ومن ثمّ يجدر بنا أن نظهر احتراما عميقا حين نأخذ، بأن نعيد إلى الأرض جزءا من كلّ ما نتلقاه في كلّ مرة، قبل أن نضع أيدينا على نصيبنا. هذا الاحترام العميق هو ما يعبّر عن نفسه في العادة القديمة لاراقة النبيذ اكراما للالهة Libatio. ربّما كانت هذه الممارسة الأخلاقية الموغلة في القِدم هي نفسها التي بقيت، متحولة، في تحريم حصاد السنابل المنسيّة أو جمع العناقيد الساقطة على الأرض، لأنها تعود إلى الأرض أو إلى الأسلاف الذين يمنحون البَرَكة. حسب التحريم الأثيني كان محرّما جمع فتات الخبز خلال الوجباتِ، لأنه من نصيب الأبطال، وإذا تدهور المجتمع يوما، بتأثير الفاقة أو الجشع، إلى حدّ ألاّ يعود باستطاعته أن يتلقى هبات الطبيعة إلاّ غيلة، إلى حدّ انتزاع الثمار قبل أن تنضج لتكون أكثر ربحا في السوق، إلى حدّ الاضطرار إلى افراغ كلّ صحن لمجرّد اشباع الجوع، فسوف تجدب التربة وتُغلّ الأرض محاصيل هزيلة. على الأرجح أن فرانز كافكا، وقد فكّر في اعدام جميع أوراقه، إنما أراد الدفع بالتقليد الأثيني إلى حدوده القصوى. لم يعد الأمر متعلّقا بتجنب ايماءة الجشع بقدر ما بات متعلقا بالزهد الخالص. الزهد في القرص بتمامه فما بالك بفتاته، وفي العناقيد الناضجة فما بالك بالساقطة على الأرض. من اشراقة الفكر إلى شرارة النار دون المرور بقارئ، ذ اهو جوهرُ القوة المنظورة للامتنان، المديحُ اللائقُ بسخاء الفكر والضربة القاصمة لمفهوم السوق. لا شكّ أن ذلك الذي عاش ومات دون أن نسمع به سيظلّ أجدر الشياطين الذين لأجلهم نريق نبيذنا ونكسر رغيفنا، ذلك أننا لا ننسى غير الذين سمعنا بهم. في المقابل يجرّدنا المجهولون من أهم الأسلحة التي قد نحاربهم بها: التذكر والنسيان. المجهولون فقط يمنحهم النكرانُ نعمته الأثيرة. نعمة الأبديةِ. ' ' ' بامكاني أن أتخيّل الجملَ الأخيرة لكافكا المحتضر: أتلفوا الأوراقَ، إنها فرصتي الأخيرة لأدفن اليأس معي. لا يهمّني أن أذكرَ. أنا حفرة لا ردمَ لي. احرقوا كلّ شيء يخصّني. كتابٌ مقروءٌ كتابٌ غير جدير بالقراءةِ. حياتي كتابٌ في الفشل، أعمالٌ كاملة مطبوعة في دار الخذلان. أنا فوتون يأس. جُسيمٌ معدوم الكتلة للفرح. لستُ شخصا يائسا. أنا شخص يفكر بواسطة اليأس. أقصى ما يمكن أن يبلغه الأمل هو أن يغدو يأسا. من قال إني رجل يائس لمجرد أني أشعر باليأس هو مجرد شخص ساذج. أرأيتم إذن، أنا شخص متفائل ! يا للخذلان! ' ' ' على الأرجح أنه لم يكن يجدر بكافكا أن يوصي ماكس بروود بتنفيذ الوصية. لو كان أوصى سيلفيا بلاث أو أرنست هامنغواي أو إميل سيوران مثلا، ذلك أنه ' يُعتبر ثرثرة كل حوار مع شخص لم يعرف الألم'. ' ' ' الماسورة ظلت ترشح، لكن من دون فرانتز كافكا. فوتون اليأس ( الجُسيم المعدوم الكتلة للفرح ) يعبر الجدار ويتجوّل في الجهة الأخرى للعالم. ما وصلنا من كافكا هو الجهة الأخرى للعالم. الجهة التي أرادنا أن نعرفها لم تصلنا بعدُ. سأعيد النظر فيما قرأتُ ! القدس العربي